أحدثكم عن محمد جلال كشك!

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

 ذات مرة؛ دعاني إلى تناول الإفطار معه -قبل السادسة صباحاً! ومن شدة حبي له؛ انطلقتُ على الفور نحو (عرينه) الكائن بشارع بهجت علي بالزمالك! ورحتُ أبحثُ عنه يميناً وشمالاً فلم أجد له أثراً .. فإذا به يخرج من بين أروقة مكتبته العامرة؛ ويصرخ بأعلى صوته: "لقد ابتُلِينا بالذين تشغلهم صعوبة اللغة العربية, ويبحثون عن حروف أخرى لها أوْ عزلها عن مجال العلم بزعم أنها لغة متخلفة! أمَّا العبرية التي انقرضت منذ ألفي سنة؛ أصبحت لغة العلم! لقد نسيَ هؤلاء الأعراب أنه لا توجد لغة متخلفة، ولغة متقدمة .. إنما توجد أُمم متخلفة، وأُمم متقدمة!

قلتُ له: هَوِّن عليك –يا أبا خالد! فإذا به يصرخ –مرةً أخرى: "كيف وقد صدَّروا إلينا عملاء يجعلون لب كفاحهم فصل الدين عن الدولة! ويصابون بالفالج عندما يسمعون بأنَّ الدستور سينص على أن دين الدولة الإسلام! بلْ ألغو شعار الهجوم (الله أكبر) من الجيش، ولم يعيدوه إلاَّ بعد النكسة بخمسة عشر شهرا, بينما أول دبابة إسرائيلية دخلت سيناء مكتوب عليها آية من التوراة!

 قلتُ له: ما السبيل -إذنْ- يا أستاذنا؟! فقال: الوضع الصحيح أن نجعل (قضية فلسطين) قضية عربية إسلامية, ولن يقهر التعصب الباطل للتلمود إلاَّ الإيمان الحق بالقرآن, ولن يقهر التآمر الصهيوني العالمي إلاَّ حركة بعث إسلامي تحرر فلسطين, وتبدأ في نفس الوقت من خلال وحدة الدم, ومن خلال وضع المبدأ الإسلامي العظيم وهو الجهاد, موضع التطبيق, لتتشكل عوامل وحدة الأمة الإسلامية واستكمال مقومات الحضارة الإسلامية"!

* * *

 ترى .. مَنْ يكون هذا العبقري الفذ؟!

 إنه –الكاتب المجاهد- الذي أنفق عمره في دفع الزيف ورد الشبهات عن تاريخنا، وواجه "طلائع الغزو الفكري"! وقد تساءل في كتابه "القومية والغزو الفكري": هل تستطيع القومية تخليصنا من المحن المصيرية التي تواجه العالم العربي الآن؟ ثم أجاب: "إذا كان الإسلام هو الرابط الذي يربط بين العرب والبربر والأكراد وغيرهم، فلماذا نستبعده، ونرفع علم القوميّات؟! إلاَّ إذا كان الهدف هو إثارة الحرب القوميّة!!

ويعلِّل مسلكية الأحزاب والحركات القومية التي ترفع شعار القومية اللادينية؛ بأنها تكوَّنت من عناصر مريبة دُرِّبت وأُعِدَّتْ في مدارس التبشير، وبيوت القناصل، وأقلام المخابرات الاستعمارية، ورسمت أهدافها ومبادئها على أساس تحطيم الرابطة الإسلامية، تمهيداً للاستيلاء على الدولة العربية! كان يرى أن قوميتنا نسيج وحدة لحمته الإسلام وسداه العروبة، وأيّ محاولة لفصلهما لن تعطيك ثوباً، بلْ خيوطاً قد تنجح في شنق نفسك بها!

* * *

 ترى .. مَنْ يكون هذا الأسد الضاري؟!

 إنه –الكاتب- الذي لَـمْ يترك القلم من يده لحظةً واحدة؛ بلْ جاهد باللسان والقلم إلى آخر لحظة في حياته! لدرجة أن قلمه كان أشبه بالكلاشينكوف، أوْ الآر بي جيه! وأيَّ كتاب يصدره كان أشبه بعصا موسى! وكانت محاضراته أشبه بالعواصف التي تقتلع الأشجار والبيوت!

 على هذا الحال؛ عاش متنقلاً من مناظرة فقهية إلى مناظرة تاريخية، ومن معركة ثقافية إلى معركة سياسية .. حتى فاضت روحه خلال مناظرة تلفازية مع "نصر أبو زيد" في محطة التلفاز العربية- الأمريكية في واشنطن حول قضية التطليق التي رفعها أحد المواطنين ضد العلماني أبو زيد، مما اعتبرها دليل تعصب وإرهاب من الإسلاميين! لكن -صاحبنا- أكد أن القضية ليست قضية التطليق، بلْ هي التزوير! وقال: هل يصح لمن يزوِّر النصوص، ويختلق الوقائع، لإثبات رأي مسبق في حالة ما، ويندفع في هذا الاتجاه إلى درجة التلفيق- هل يجوز لمثل هذا الشخص أن يبقى ضمن هيئة التدريس في جامعة محترمة؟ واحتدت المناقشة إلى أشدّها، فأصيب –الفارس- بأزمة قلبية حادة، فاضت روحه على إثرها في 5/12/1993م، ونقِلَ جثمانه إلى مصر، وأوصى أن يُدفن معه في مقبرته ثلاثة كتب: (لمحات من غزوة أُحد، ودخلتْ الخيل الأزهر، وقيل الحمد لله)!

* * *

 إنه (محمد جلال كشك)! الذي قال عنه لمعي المطيعي: "عبارة ساخرة، ولمحات ذكية، وثقافة إسلامية واسعة، والسؤال المحيِّر: متى وكيف استوعب هذه المادة التراثية عن الإسلام"؟!

وقالت عنه صافيناز كاظم: "تتميز كتابة جلال كشك بالحيوية التي تصل بك أحياناً كقارئ إلى حد الإرهاق، كما تتميز بالحضور الوهاج الذي يجمع بين غزارة المعلومات وعمق التحليل، والقدرة على الربط والمقارنة بين زوايا الرؤية، والمبارزة الجدلية في كل مكان، مع خفة ظل حادة، يعرف كيف يوظفها في فقرات سريعة، ويصوّبها إلى مكانها المطلوب برشاقة ودقة متناهية .. يكتب متلذذاً بالكتابة وللقضية متحمساً، فينقل إليك الشغف مهما قاومته، أو عاديته، وهو منغمس كل الانغماس في موضوعه، كأنه سيكون آخر ما يكتب، وأنت لا بد منغمس فيه كأن كتابه سيكون آخر ما تقرأ"!

 أجل! لقد كان -جلال كشك- مفكراً، ومؤرخاً، ومجاهداً .. وشهيداً ! كان يقول: "الخلاف حول تفسير التاريخ ليس ظاهرة، ولا مجرد خلاف حول تفسير الماضي، بلْ هو في الدرجة الأولى خلاف حول الطريق إلى المستقبل، والأمم دائماً تهرع إلى تاريخها في لحظات محنتها، وتستمد منه الإلهام والدعم النفسي، بينما يلجأ خصومها دائماً إلى تزييف التاريخ وتشويهه، لتضليل الحاضر وإفساد الطريق إلى المستقبل".

 ويقول أيضاً: "مَنْعنا من امتلاك المدفع؛ هو الهدف الأساسي الدائم منذ ظهور الاستعمار الأوروبي إلى اليوم، وقد تم ذلك تحت شتى الشعارات، وبمختلف التنظيمات من القراصنة ومحاكم التفتيش إلى الجامعات، والمؤسسات الدولية، والمعاهد من الأمم المتحدة، وقبل ذلك إلى جهود وكتابات وحكومات من سمّاهم "صمويل هنتنجتون": "المتعاونين والمؤمنين بحضارتنا"! هؤلاء المتعاونون الذين يعملون لاستمرار سيطرة الغرب واستمرار تخلّف أوطاننا يتسترون في كل مرحلة تحت شعارات علمانية وتقدمية ويسارية وأممية. إنَّ عناصر مأجورة عن وعي، وعناصر تحركها أحقاد رخيصة، وعناصر تتبع كل ناعق تسيطر على إعلامنا، وتجنده لمحاربة الإسلاميين في مشارق الأرض ومغاربها، غير محققة من هدف إلاَّ إزالة دور مصر الإسلامية، وإلغاء زعامتها للعالم الإسلامي، وعزلها عن المسلمين.. لمصلحة من؟ هذا هو السؤال الذي نعرف جوابه جيداً".

* * *

 منذ طفولته كان عاشقاً للحرية، وداعياً إلى التغيير! فعرف طريقه إلى السجون مبكراً؛ فقد أدى امتحان (البكالوريوس) في معتقل "هايكستب" بتهمة التحريض على قتل الملك!

وعندما كان طالباً؛ دعا زملاءه ليهتفوا ضد تعيين حافظ عفيفي رئيساً للديوان الملكي! بلْ انطلق يهتف بحياة الجمهورية قبل أن يعلنها "محمد نجيب" بحوالي عام! كما طالب بتأميم القناة، وإلغاء الاحتكارات الأجنبية في سنة 1951م!

 واعترض على تعيين "صلاح سالم" نقيباً للصحفيين! باعتبارها بداية التربص بالصحافة؛ لوقوفها بجانب الشعب ضد استبداد العسكر! وبدأ الجدال على صفحات الجرائد حول دستور 1923م، وإعادة العمل به، وبكافة مظاهر النظام القديم، لكن من دون الملك! ففطِن إلى هذه الخديعة التي يُسوّقها العسكر، ليتم إلغاء الحريات، وكتب في جريدة "الجمهور المصري": "لماذا يعود هذا الدستور"؟! وكان الجواب على الفور إغلاق الجريدة، وإيداع -جلال كشك- في سجن "أبو زعبل" لمدة عامين وشهرين!! وخرج بعدها ليعمل بجريدة "الجمهورية"، وتم إيقافه عن العمل عام 1958م! وفي عام 1961م، أُلحق بمجلة "بناء الوطن" تحت رئاسة الضابط/ أمين شاكر، فاعتُقل لمدة شهور، بإيعاز من أمين شاكر، لإرساله خبراً عن "استقلال الكويت" لـ"أخبار اليوم" بدلاً من إرساله إليه.

 عمل بعدها في "روزا اليوسف" وكتب سلسلة مقالات، بعنوان: (خلافاتنا مع الشيوعيين) فتمَّ إبعاده عن الصحافة من 1964- 1966م! كما انفرد بنقد كتاب علي صبري: "سنوات التحول الاشتراكي"! وأعلن في مقالة بـ"الجمهورية" بأن الأرقام الواردة عن الخطة الخمسية(1961- 1966م) تدلُّ على انخفاض في الإنتاج وليس زيادته، والأرقام وحدها تدلُّ على كذب الادِّعاء!

بمجرد نشر هذا المقال؛ تم فصل رئيس مجلس الإدارة، ورئيس التحرير، وطرد جلال كشك!!

* * *

 الحـقُّ أقـول

 كما أنه صاحب الفضل في كشف أوراق (هيكل) وعمالته للمخابرات الأمريكية! لاسيما أنَّ –كاهن الناصرية الأكبر- درج على إخفاء ما يتعلق بعلاقة ثورة 23 يوليو بالمخابرات الأمريكية! فكان يُغيِّر كلامه في الطبعة العربية لكتبه، ويقول بخلاف ما يكتبه للغربيين المتنورين في "الطبعات الأجنبية"!!

 كان –جلال- من أشد الكارهين للدكتاتورية والاستبداد، ومن هنا كان هجومه على (فتى بني مر) لا يتوقف! والذي تمثل في كتبه (الماركسية والغزو الفكري، كلمتي للمغفلين، الناصريون قادمون، كلام لمصر، ثورة يوليو الأمريكية)!

 وصف عبد الله الطنطاوي- مؤلفاته، فقال: "جاء جلال وجاءت كتبه على قدر، فسدّت ثغرات كبيرة في حياتنا الثقافية والسياسية، ووقفت في وجه الغزو الفكري، في ظروف بالغة الدقة، تُرك فيها الحبل على الغارب للشيوعيين، وللعلمانيين، ولدعاة التغريب، والدعاة إلى القوميّة، وكمَّموا أفواه الإسلاميين، وكسروا أقلامهم، واحتزُّوا رقابهم، وكانت السجون والمعتقلات الرهيبة أماكن سكنهم، فانبرى الأستاذ كشك، وليس غيره، يفضح رفاق الأمس ومَنْ وراءهم، بقلم من نار، وعقل مستنير، وقلب مسكون بالقيم العربية الإسلامية، ووعي تام بما يجري في عالم اليوم، من تزييف الحقائق، ووأد القيم التي بنينا عليها الأمجاد…"!

* * **

 كان –جلال كشك- خبيراً ببواطن الأمور، لاسيما أنه خالط الملوك والأمراء وكبار الزعماء والساسة، كما أفاد كثيراً من إقامته بين الأجانب، وكان من كُتَّاب "الجارديان" البريطانية!

 قلتُ له –ذات مرة- ما هو تفسيرك للهجمة على شيخ الأزهر الدكتور/ محمد سيد طنطاوي؟! فقال: ليس المقصود بهذه الحملة الشيخ طنطاوي، فالجميع يعلم قدره وعِلمه ومكانته؛ إنما هي حملة مدفوعة الأجر مُقدَّماً، يقود زمامها غلمان الوهابية، وقباقيب السلفية! وشاركهم فيها؛ إعلاميون مأجورون، وأناسٌ من جلدتنا وأُناسٌ غرباء عنا! إنهم يريدون هدم الأزهر وتشويه سمعته .. ولنْ يستطيعوا أنْ يحجبوا الشمس بغربالهم الهزيل!

وسألته –أيضاً: كيف استحوذ (الحداثيون والتغريبيون) على الصحافة والأندية الأدبية في السعودية؟! فقال: المملكة تكبح –من خلالهم- جماح التكفيريين والمغفَّلين من الأعراب!

من هـو جــلال كشــك؟!

 لمْ أعرفُ أحداً كان معتزاً بحسبه ونسبه مثل (جلال كشك)!

 ولِمَ لا؟! فهو من أعرق أسرة أرستقراطية! كان أبوه قاضياً في المحاكم الشرعية، قال عنه في أحد كتبه "إنه أول من أصدر حكماً شرعياً في مصر بتكفير البهائيين"!

قــوص)) ملاذ العلماء والأولياء! فضحك، ثم قال: ولولا رهطك لرجمناك!

 منذ تلك الحادثة؛ توثقتْ علاقتي به، فكان أول شيء يفعله بعد عودته من "عاصمة الضباب" يتصل بي، وينهال عليَّ بوابلٍ من الأسئلة، مثل: ما هو الكتاب الجديد الذي اشتريته لي؟ وأين الإفطار الذي وعدتنا به؟! وماذا قال لك الشيخ الغزالي؟ وما هي أخبار الصعيد الجواني؟!

التقيته بعد ذلك، فقال لي: سأموتُ قريباً! فظننتُ –أيضاً- أنَّ الكلام على محمل الجد! فقلتُ: أطال الله عمرك يا أبا خالد! فإذا به يفاجئنا بالكتاب القنبلة "الحوار أوْ خراب الديار"!!

ثم غاب بضعة أشهر .. وإذا به يصدر الكتاب الملتهِب "الجنازة حارة"!

 وهكذا، كان كلما لقيني يفزعني بشدة، ويقول لي: سأموتُ قريباً! لكنه لا يموت ولا يحيا .. بلْ نراه بعدها ببدلةٍ أنيقةٍ ما رأتْ عينٌ مثلها، ولا سمعتْ بمثلها أُذُنٌ! بلْ يفاجئنا بكتبٍ رهيبة، أشبه ما تكون بالقنابل والمتفجرات!

 أثناء لقائنا الأخير، قبل سفره إلى لندن؛ كرَّرَ ما كان يقوله كل مرة: سأموتُ قريباً! فضحكتُ لكلامه! فقال غاضباً: أقول لكَ: سأموتُ .. وتضحك؟! فأخذتني نوبة طويلة من الضحك!

 لكن .. بعد أيام قلائل؛ وعلى غير المتوقع! أعلنتْ إذاعة الــ(B.B.C) نبأ وفاة الكاتب الكبير/ محمد جلال كشك! فقلتُ: آهـ!! عملتها يا جـلال .. يا ابن الإيـه؟!