سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (17)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (17)

بدر محمد بدر

[email protected]

كان الأستاذ عمر من دعاة الرفق والوسطية, وكان يكره العنف والتطرف, وفي إحدى محاضراته الجامعية (عام 1980) استضافته كلية الإعلام, وامتلأت القاعة عن آخرها بآلاف الطلاب والطالبات, وتحدث المرشد العام حديث العالم والداعية والمربي والأب, فطلب من الجميع الحرص على الالتزام بتعاليم الإسلام في غير قصور أو مغالاة, وفي رفق وتيسير بعيداً عن التشدد, كما طلب الحرص على العلم والتعلم واحترام الأساتذة والموظفين, والحرص على التفوق باعتباره نصرة للإسلام, وبينما هو يسترسل في أسلوبه الهادئ, إذ بأحد الحاضرين من الطلاب, يتحدث بإنفعال شديد, ويتساءل: إلى متى نظل نتحدث عن الرفق والسلوك والحرص على طلب العلم؟.. إننا نشتاق إلى النظام الإسلامي يحكمنا, والشريعة الإسلامية توجهنا, والمجتمع القرآني يحتوينا, وأدرك الأستاذ عمر أنها حماسة الشباب, فهدأ من ثورته, وسأله: ترى متى التزمت بآداب الإسلام وأخلاقه ؟.. هل من عام أم من عامين؟ إذن هل بذلت.. هل ضحيت حتى تجني الثمرة ؟.. نحن يا أخي نتحرك ونبذل ونضحي وندخل السجون والمعتقلات منذ أكثر من أربعين عاما,ً في سبيل تطبيق الإسلام والحكم بشريعته, ولانرى أن هذا زمنا طويلاً, إننا نشتاق إلى الحكم بشريعة الإسلام وإلى إقامة النظام الإسلامي مثلك تماما بل وأكثر منك شوقا, وقد لا يتحقق في حياتنا, لكننا سنكون سعداء إذا تحقق في حياتكم أو حياة أبنائكم, إن المسلم الصادق عليه أن يعمل لله وليس عليه إدراك النتائج, ابذل يا أخي واجتهد والله يرعاك ويرعى إخوانك.. وانتهى الحفل على خير.

كان الأستاذ عمر محباً للشباب, ساعيا للوصول إليهم, باذلاً من وقته وجهده وصحته ـ رغم تقدمه في السن ومتاعب الشيخوخة ـ في سبيل نصحهم وتوضيح الحقائق لهم, باعتبارهم جيل الدعوة القادم, وأمل الحركة المتوقد.

 

اعتقالات سبتمبر

وفي أوائل سبتمبر/ أيلول 1981 تأزمت الأوضاع السياسية, وأصدر الرئيس أنور السادات أوامره باعتقال أكثر من ألف وخمسمائة من قيادات وأعضاء الإخوان المسلمين وزعماء المعارضة السياسية وقيادات الكنيسة القبطية وغالبية طلاب التيار الإسلامي في الجامعات, كما أغلق العديد من الصحف والمجلات, على رأسها مجلتي "الدعوة" و "الاعتصام" وأمر كذلك بإغلاق مقر الإخوان في شارع سوق التوفيقية, فيما عرف بأزمة سبتمبر 1981.

كان الأستاذ عمر التلمساني في ذلك الوقت قد بلغ السابعة والسبعين من العمر, واللياقة تتطلب استثناءه من الاعتقال, خصوصاً وقد كان عاملاً من عوامل التهدئة في الأزمات السياسية, لكن الظلم لا عقل له ولا خلق, ودخل المعتقل لمدة خمسة أشهر (أفرج عنه في نهاية يناير 1982), بعد الدفعة التي خرج فيها السياسيون واستقبلهم الرئيس الجديد محمد حسني مبارك في قصر الرئاسة تطيبا لخاطرهم, وكان منهم: الأستاذ فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد الجديد, والأستاذ الصحفي محمد حسنين هيكل, والدكتور عصمت سيف الدولة, والأستاذ محمود القاضي.

وعن فترة الاعتقال يقول الأستاذ التلمساني: "عايش الوفدي الناصري وعايش الإخواني التجمعي (نسبة إلى حزب التجمع) وكلنا عايشنا بعضنا بعضاً, على أكرم صورة تقوم عليها معاملة الناس بعضهم بعضاً, ولا يأتي طعام من منزل أي واحد من المعتقلين إلا ويشترك في تناوله أكبر عدد من غير أعضاء حزبه وهيئته, ولا أزال أذكر بالخير والتقدير كل من لقيتهم في تلك الأيام, وما كانوا يشعرونني به من مودة واحترام لكبر السن, وحرص الجميع أن يوفروا لي كل ما يستطيعون من وسائل الراحة, بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك, إذ كان بعض أفراد حزب التجمع يمكنونني بوسائلهم الذكية من الاتصال بمنزلي وقضاء حاجياتي وتوصيلها إلى, مازلت أذكر ذلك بالشكر والتقدير".

وكان من قيادات الإخوان المسلمين الذين اعتقلهم الرئيس السادات: الشيخ صالح عشماوي والأستاذ أحمد حسنين والأستاذ الشاعر جمال فوزي والشيخ محمد عبد الله الخطيب والأستاذ إبراهيم شرف السكرتير الخاص للأستاذ عمر والأستاذ الصحفي جابر رزق, إضافة إلى الشهيد محمد كمال السنانيري, الذي تعرض للتعذيب الشديد وصعدت روحه إلى السماء في نوفمبر 1981, وشهد البعض بأنه قتل, تقبله الله في الصالحين.

كانت هذه أضخم موجة اعتقالات سياسية في عهد الرئيس السادات, وكانت الأجواء السياسية مضطربة وتنذر بالخطر, وشارك بعض الصحفيين والإعلاميين القريبين من الرئيس في تحريضه على الاعتقالات السياسية, وهو ما أدى في النهاية إلى اغتيال الرئيس أثناء مشاركته في احتفالات العرض العسكري, الذي تقيمه القوات المسلحة في السادس من أكتوبر من كل عام, احتفالاً بانتصارات حرب العاشر من رمضان 1393هـ ـ  السادس من أكتوبر عام 1973م, بعد نحو شهر واحد من هذه الاعتقالات.

خرج الأستاذ عمر من المعتقل في أول دفعة بعد القيادات السياسية والحزبية, وتوالت بعد ذلك دفعات الإفراج عن المعتقلين على مدى عام كامل, وعادت وزارة الداخلية من جديد إلى سياسة "توعية" المعتقلين السياسيين من الإسلاميين, فكانت تنتدب بعض علماء الأزهر ليتحدثوا إلى هؤلاء الشباب "المتطرف" ليعيدوه إلى "الاعتدال"!, وهو أسلوب ثبت فشله لأن المعتقل السياسي لايمكن أن يقبل أو يتجاوب مع الفكر طالما بقى مقيد الحركة, والصحيح أن تكون هذه الحوارات في خارج السجن وفي أجواء حرة تماماً, يأمن فيها من يتحدث أو يتحاور على نفسه ووظيفته وحريته.