العلامة المربي عبد الرحمن الباني

رجل لا يقول ما لا يفعل (1)

شيخ قرَّاء الشام محمد كريِّم راجح

ينال الشيخ عبدالرحمن الباني كلَّ احترامي؛ لأنه لا يقول ما لا يفعل، فلسانُه متناسبٌ مع قلبه، وقلبُه متناسبٌ مع لسانه، وكنت أتعلَّم منه حُسنَ العمل؛ لشدَّة دقَّته فيما يعمل.

كان يضع (سلالم) لتصحيح أوراق مادَّة التربية الإسلامية، لكلِّ الطلاب في المدارس الثانوية العامَّة، العلمية والأدبية، ويبذُل في إعداد (السُّلَّم) جهدًا عظيمًا جدًّا... وحتى طالبات الثانوية الفنيَّة (الفنون) اللواتي لا يزيد عددُهنَّ على عشر طالبات، يبذل لإعداد (السلَّم) الخاصِّ بهنَّ ما يبذله لإعداد (سلَّم) التعليم العام، وكان يقول: سواء عندي أن نصحِّحَ لعشَرة طلاب أو لملايين، لا بدَّ من وضع سُلَّم دقيق عادل.

وكان عند (تصحيح) أوراق الطلاب يجمع المعلِّمين الذين سيشاركون في التصحيح كافَّة، ويقف عند السَّبُّورَة؛ ليبيِّن لهم المنهجَ الأسلم في (التصحيح)، وأين تُكتَب العلامة الممنوحة لكلِّ سؤال، وأين تُجمَع علامات الأسئلة، وعلى المصحِّح أن يستخدمَ القلم الأحمر، وعلى المدقِّق أن يستخدمَ الأخضر... حتى إن بعض المدرِّسين كانوا يستغربون هذه الدقَّةَ والتفاصيل، ولكنه كان حريصًا على أن يستوعبَ الجميعُ منهجَ العمل في (التصحيح)، وبخاصَّة حديثو العهد به، ليؤدُّوا عملهم على الوجه المطلوب دون أن يُظلمَ أيُّ طالب، وهذا من ورعه وتقواه.

ومما جرى لي معه: كان هناك رجلٌ اسمه سليم بركات، جاءني وقال لي: أنا تخرَّجت منذ أربع سنوات، والشيخ عبدالرحمن الباني المفتش الاختصاصيُّ للتربية الإسلامية في سوريا لا يقبَلُ أن يُعيِّنَني، وإذا استمرَّ في ذلك فسأقتله!

خفتُ على الشيخ الباني فذهبتُ إليه، ورجوتُه أن يُعيِّنَ الرجلَ في التعليم، وأخبرته بتهديده ووعيده، وكان أمرُ التعيين بيده، فقال لي: يا شيخ كريِّم، أنا لا يمكن أن أعيِّنَ معلمًا يقول لطلابه: لماذا لا تذهبون إلى السِّنِما؟ هل مثلُ هذا يجوز لي أن أجعلَهُ معلِّمًا للتربية الدينية؟! فليقتُلني إن شاء، وليفعل ما يريد، ووالله لن أتنازلَ عن تقوى الله، ولن أعيِّنَ معلِّمًا يسمِّم أفكارَ الطلاب والطالبات مهما يكن!

وبقي الشيخ ثابتًا على موقفه، ولم يُعيَّن المذكورُ إلا بعد ترك الشيخ عبدالرحمن الباني للتفتيش.

كان الشيخ الباني مع الشيخ محمد أمين المصري يتعاونان على البرِّ والتقوى، ورغبا في أن أدخلَ ميدانَ تدريس التربية الدينية وشجَّعاني على ذلك، وكنت محبًّا للأمر راغبًا فيه أيضًا، ولكنَّني كنت حينها فقيرًا جدًّا وكثيرَ العيال، وموظَّفًا في الأوقاف، وقد جاء تعييني في مدينة الحسكة، فاستصعبتُ الأمر جدًّا؛ إذ كيف سأترك أولادي وأسرتي وأذهب إلى مكان بعيد؟! فلم ألتحق بالتدريس، وبقيتُ في دمشق.

وفي العام التالي أجرَوا لي إعادةَ تعيين في منطقة جبل الدُّروز، وحين ذهبتُ إلى هناك وجدت مديرًا ملحدًا ضالاً فهربت ورجعت إلى دمشق!

وكنت حينما عيَّنوني التعيينَ الأول - وذلك نحو سنة 1961م - دخلتُ إلى فحص المقابلة، وكان في اللجنة الشيخ عبدالرحمن الباني والأستاذ عدنان السبيعي، وكان مع الشيخ الباني مجموعةُ كتب، سألني الأستاذ السبيعي عن بعض القضايا النفسية فأجبته، ثم قال لي الشيخ الباني: أنا لا أريدُ منك سوى أن تحدِّثَني عن سيرتك ونشأتك، فأخبرتُه، فقال لي: أنت بطل، وسأعيِّنُك دون تردُّد؛ لإعجابه بنشأتي وكفاحي.

وفي العام التالي حينما دخلتُ إلى فحص المقابلة، كان في اللجنة: الشيخ الباني، والشيخ د.محمد أمين المصري، فقال المصري للباني: الأستاذ كريِّم معروف، ولا داعي لسؤاله أيَّ سؤال. فقال الباني: لا لا لا، ليس عندي معروفٌ أو غيرُ معروف، هو كسائر المتقدِّمين لا بدَّ من سؤاله، وهذا من ورعه وكمال إخلاصه، وبعد أن سألني عددًا من الأسئلة، وهممتُ بالانصراف، ناداني وقال لي: يا شيخ كريِّم، أنا أرجوك رجاء مؤكَّدًا ألا تحرمَ التربيةَ الدينية منك ومن جهودك.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ المعلِّم الذي لا يغيب عني منهجُه في تعلُّمه وتعليمه، المنهجُ المتَّسم بتقوى الله،

الذي استفدتُ منه يوم كنتَ المفتشَ للتربية الإسلامية في ثانويات دمشق،

والذي كنتُ أتعلَّم منه الدقَّة والإتقان المتَّسمَين بالتقوى،

الأستاذ الشيخ عبدالرحمن الباني حفظه الله وأدام عليه الصحَّة والعطاء.

أهدي إليكَ ما كتبتُ مما رأيتُ أن فيه تصحيحًا للعقيدة،

وأسأل الله التوفيق.

([1]) أصل هذه الكلمة حديثٌ أجراه مع فضيلة شيخ القرَّاء محمد كريِّم راجح في داره بدمشق، الأستاذُ أيمن ابن أحمد ذوالغنى، قبل زُهاء أربع سنوات، تناول فيه الشيخُ غيرَما موضوع، من ذلك حديثُه عن الشيخ الجليل المربي عبدالرحمن الباني؛ ذاكرًا فيه طرفًا يسيرًا من صلته به، وقد نقل الأستاذ أيمن كلامَ شيخ القرَّاء عن أخيه الباني كما هو، مع تصرُّف يسير اقتضاه نقلُ الكلمة من رواية شفوية إلى نصٍّ مكتوب.