سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (13)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (13)

بدر محمد بدر

[email protected]

كان الرئيس أنور السادات ـ في تقديري ـ أكثر حنكة سياسية من سابقه, وأقرب إلى التدين الحقيقي وأوسع أفقاً وأبعد رؤية, ويحكي الأستاذ عمر في كتابه "ذكريات.. لا مذكرات" أن فضيلة الشيخ سيد سابق (صاحب كتاب فقه السنة) أخبره أن السيد أحمد طعيمة (وزير الأوقاف وقتها) قال له إن الرئيس السادات على استعداد للقاء بعض الإخوان المسلمين المعروفين, لإزالة مافي النفوس والتعاون على خدمة الوطن.. كان ذلك قبيل منتصف عام 1973 وقبيل استبعاد الخبراء الروس (وكانوا بالآلاف في مصنع الحديد والصلب بحلوان وبعض المصانع الكبرى الأخرى, وأيضاً في بعض وحدات الجيش), فرحب الأستاذ عمر بالفكرة, وذهب إلى المرشد العام للإخوان المستشار حسن الهضيبي, وكان في مدينة الأسكندرية, وأخبره بحديث الشيخ سيد سابق, فقال له إن الفكرة لا بأس بها إن صحت النوايا عند أصحابها, وكلفه بالاستمرار في المفاوضات, التي سارت حثيثاً إلى الدرجة التي طلُب من الأستاذ التلمساني  أن يقوم بتكوين لجنة من كبار الإخوان تقابل الرئيس السادات في الإسكندرية, لوضع الصيغة النهائية للاتفاق.

وبالفعل اتصل الأستاذ عمر بالوزير أحمد طعيمة واعلمه بأسماء الإخوان الذين سيقابلون الرئيس بناءً على طلبه, لكن الأمر توقف تماما فجأةً, وعلم الأستاذ عمر بعد ذلك أن الرئيس السادات أرجأ الأمر إلى حين, لكن هذا الحين لم يأت أبداً.

ومرة أخرى (في النصف الثاني من السبعينيات هذه المرة) طلب المهندس عثمان أحمد عثمان مؤسس شركة "المقاولون العرب", وكان وزيراً للإسكان وقتها واحد المقربين من الرئيس السادات, وأيضا قريب من الإخوان المسلمين, أن يلقاه مجموعة من قيادات الإخوان, فذهب الأستاذ عمر برفقة الدكتور أحمد الملط والحاج حسني عبد الباقي والمستشار صالح أبو رقيق وهم من القيادات, فقال لهم المهندس عثمان إنه من الخير أن نقدم للرئيس وجهة نظر الإخوان في الإصلاح كتابة, حتى يدرس الأمر في روّية وعلى مهل.

وبالفعل كتب الإخوان مذكرة من تسع صفحات "فوسكاب", ثم التقى الأستاذ عمر بالسيد حسنى مبارك (نائب رئيس الجمهورية وقتها) في منزل الأخير بمصر الجديدة منفرداً, وبرفقة الأستاذ مصطفى مشهور مرات أخرى, للرد على تساؤلات حول ما جاء بهذه المذكرة, ثم انتهى الأمر إلى لا شئ مرة أخرى.

لم يكن الأستاذ التلمساني يمانع في لقاء أحد من المسئولين لتوضح آراء أو مواقف الإخوان المسلمين, وليسعى أيضاً للنقاش حول واقع البلد ومستقبل الوطن, أو لتخفيف الضغوط الأمنية على الجماعة, ولأنه كان معروفاً بهدوئه وسعة أفقه وحكمته فقد تواصلت اللقاءات معه..

ولكن لماذا فعل الرئيس السادات ذلك ثم تراجع عنه؟ هل كان يشعر بالذنب وبعذاب الضمير وبعض المسئولية عما حدث من ظلم وقمع للإخوان المسلمين في عهد عبد الناصر, فأراد أن يحسن الأجواء ويمتص الأزمة ويبحث في أسلوب التعاون مع الجماعة, خصوصا وأنه كان على علاقة طيبة بالإخوان قبل يوليو 1952؟.

هل كان الرئيس السادات يسعى لترتيب أوضاع الجبهة الداخلية ويريد أن يقف الإخوان إلى جواره, بعد أن دخل في صراع مع مراكز القوى والتيار الناصري واليساري, بينما هو يستعد لخوض معركة مع إسرائيل لاستعادة سيناء؟.

هل كان الرئيس يحاول معرفة كيف تدار أمور الإخوان في تلك الفترة, ومن هم أبرز قياداتها وهل نظموا أنفسهم أم لا, وفيم يفكرون؟.. ربما كل ذلك أو بعضه أو غيره من أسباب في علم الغيب عند الله, لكن المعروف للجميع أن علاقات النظام السياسي مع الإخوان المسلمين كانت متوازنة وطبيعية إلى حد ما طوال هذه الفترة, حتى أعلن الإخوان رفضهم لزيارته للعدو الهصيوني ولاتفاقيات كامب ديفيد, فتوترت الأجواء بينهما.

تولي المسئولية وبناء التنظيم

وفي نوفمبر 1973 توفى المستشار حسن الهضيبي عن 84 عاماً, فاختار الإخوان الأستاذ عمر التلمساني خلفاً له, يقول في كتابه: "ذكريات لا مذكرات" (.. كانت الجماعة غير قائمة قانونا, فهدى الإخوان تفكيرهم إلى الجمع بين التزام القانون والتمسك بعقيدتهم, فاعتبروا أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سناً مرجعاً لهم في كل أمورهم العامة والخاصة دون أن يكون هناك تنظيم, وشاء الله أن أكون أكبر أعضاء مكتب الإرشاد في هذا الزمان, فكنت مرجعهم الأدبي والمعنوي.. واعترف المسئولون بهذا الوضع, واعتبروني مسئولاً عن الإخوان المسلمين, يقابلونني ويتحدثون معي بهذه الصفة.. والبداهة تقضي بأنه اعتراف ضمني من السلطة بوجود الإخوان على الساحة, رغم الأمر بحل جماعتهم..).

وضع الأستاذ عمر نصب عينيه, عقب توليه مسئولية المرشد العام للجماعة, إعادة اللحمة إلى بنائها التنظيمي من جديد, بعد فترة الخمسينيات والستينيات التي أرهقتها وأضعفتها كثيراً, وبدأ يزور من تبقى من الإخوان في مختلف المحافظات, برفقة عدد من إخوانه في القيادة وعلى رأسهم الأستاذ مصطفى مشهور, وبدأ العمل التنظيمي يتحسن إلى الأفضل, بعيداً عن أعين أجهزة الأمن أو اهتمام الإعلام, لقد بحث عن أولئك الرجال, الذين تتعلق أرواحهم بحبل الدعوة إلى الله, وترتبط قلوبهم برباط الصدق مع الله, فحملوا الأمانة وبذلوا الوقت والجهد, وواصلوا العمل بالليل والنهار, واستفادوا من مساحة الحرية السياسية المتاحة في ذلك الوقت بغير ضجيج, كما استفادوا من الصحوة الإسلامية في الجامعات المصرية المختلفة في النصف الثاني من السبعينيات, ليعيدوا غرس هذه الدعوة المباركة من جديد في تربة المجتمع المصري, غرسا يستعصي على الاقتلاع بإذن الله سبحانه وتعالى.