سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (9)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (9)

بدر محمد بدر

[email protected]

هكذا كان يرى عمر التلمساني أستاذه وقائده حسن البنا, وهكذا سار خلفه في رحاب دعوة الإخوان, وفي كتابه "ذكريات لا مذكرات" يقول: "كنت أحس بأنني قريب من قلب الإمام الشهيد, فما اختلفت يوماً مع أخ, أو رفعت إليه شكوى من أحد, أو حّملته شيئاً من متاعبي الخاصة أو العامة, وما تأخرت مرة واحدة عن تنفيذ أمر أصدره إليّ, مهما كبدني التنفيذ من متاعب, أو كلفني من ماديات.." والسبب واضح, إنه الحب في الله والإخوة والثقة والتجرد لدعوة الإخوان المسلمين.

كان التلمساني يسافر مع الإمام الشهيد حسن البنا في بعض رحلاته الدعوية داخل الوطن, فإذا ركب القطار في الدرجة الثالثة (وهي درجة يشغلها بسطاء الناس لرخص ثمنها), جلس ورأسه إلى الأرض كي لا يراه أحد من معارفه أو زبائنه, كيف لا وهو أحد الوجهاء الموسرين, وكان المرشد العام يبتسم من هذا المنظر, حتى إذا طالت عشرته للإخوان, أدرك أن المظاهر أمرها هين, ولا يجب الوقوف عندها طويلاً, وأصبح ركوب الدرجة الثالثة عنده مثل ركوب الأولى الممتازة دون حساسية أو حرج.

يقول الأستاذ عمر عن حسن البنا: ".. كان يزرع الأمل في قلوبنا, ويصبرنا على احتمال كل ما نلقاه في سبيل الدعوة, لا يعلمنا ذلك في مكتبه أو محاضراته أو نظرياً وفلسفياً, ولكن يعلمنا الثبات والصمود عملياً, في تنقلاتنا معه في القرى والنجوع والكفور, تغوص أقدامنا في الرمل والزلط والأرض الرطبة, ومناديلنا تكاد تعصر من العرق الذي نجففه من طول ما نمشي.. كنا نبيت مع الإخوان على الحصير في المساجد أو في الأجران (الجرن هو المكان الذي يدرس فيه القمح لينفصل الحب عن التبن) إن تعثر المبيت في المسجد أو المضيفة, والأكل أقله وأخشنه.. كان الوفاء بالبيعة يلزمنا بالنزول عند رغبة من بايعناه في غير معصية".

غرامه بالحرية

واصل الأستاذ عمر عمله المهني والدعوي والجهادي, وفي عام 1936 عرض عليه العمل وكيلاً للنيابة, وبعد عدة أعوام عرض عليه العمل في القضاء, فرفض في المرتين بسبب غرامة بالحرية, وعدم قبوله أي قيد من قيود الوظيفة رغم مكانة القضاء في المجتمع.. يقول: "كنت أحترم الناس ولا أخشاهم وأحب أن أتعامل على قدم المساواة مع كل المستويات بلا حرج, ووجدت كل ذلك في مهنة المحاماة.. زد على ذلك أنها مهنة الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم.. مهنة العقل الراجح في إقامة الدليل والبرهان..".

وعرض عليه الإمام الشهيد أن يتخذ مكتباً للمحاماة في القاهرة, لكنه لم يقبل, لأنه كان يرى إذا نجح في العمل, سيقول البعض إن الإخوان هم من أوجدوا له كيانا في عالم المهنة, وهذا ما تأباه عليه أخلاقه ونشأته وتربيته, واستمر يتنقل بين القاهرة والمحافظات للعمل في مجالات الدعوة المختلفة, وبين شبين القناطر حيث مكتبه للمحاماة, وعزبة "التلمساني" في قرية "نوى" حيث مسكنه وأسرته, طوال الثلاثينيات وجزءاً من الأربعينيات, وعندما وجد أن حاجة الدعوة إليه تقتضي أن ينتقل كلياً إلى القاهرة فعل, واختاره الإمام الشهيد مسئولاً عن صندوق الإخوان, وكما يقول "وزيراً لمالية الإخوان".. وكان الأمر بسيطاً, والحال رقيقاً, وسعادته تبلغ منتهاها إذا كان في الخزينة مائة وخمسين قرشاً, فقد كان هذا المبلغ فائضاً عن الحاجة, وفقر بلا دين هو الغنى الكامل.

وبعد فترة عرض عليه الإمام الشهيد أن يكون وكيلاً  لجماعة الإخوان, وهو المنصب الذي يلي المرشد العام مباشرة, وترشيح الإمام البنا يعني أن جميع الشروط المطلوبة لهذا المنصب متوافرة في عمر التلمساني, ومنها: الأمانة والصدق والإخلاص وسعة الصدر والمهارة الإدارية والأخوة والحكمة واستيعاب واقع الدعوة وأسلوب القيادة.. إلخ, لكن التلمساني أبى أن يقبل هذه المسئولية, مقسماًً أنه ليس أهلاً لهذا المكان, ولا يستطيع أن يملأ فراغه, وحرام أن "يخدع" الإمام بقبول تلك المكانة في الإخوان المسلمين!..

هكذا كان الأستاذ عمر شديد التواضع, شديد الحرص على أمانة المسئولية, وإذا كان الأمر فيه اختيار, فلديه بحبوحة وسعة, وهذا ينسجم أيضاً مع عشقه للحرية ونفوره من القيود.

وفي أواخر الأربعينيات اختير عضواً بمكتب الإرشاد العام, وكان رحمه الله وجيهاً في مظهره, أنيقاً في هندامه, ويروي في ذكرياته موقفا طريفاً عندما طالبه الإمام الشهيد في إحدى المرات بأن يأتي إلى اجتماع مكتب الإرشاد وهو يرتدي حذاءً قديماً وطربوشاً (مزيت) أي عليه أثر من إهمال, وانعدام هندام!, فلما أعرب عن دهشته وسأل: هل هذا من أوامر الدعوة ؟! رد الإمام البنا: هكذا يريد اخوانك! (بعض أعضاء مكتب الإرشاد وقتها, الذين اشتكوا من شدة حرص الأستاذ عمر على أناقته وهندامه وهيئته), وكأن الله حرم زينته والطيبات من الرزق على المسلمين, وكأن الله لا يريد أن يرى أثر نعمته على عبده, وكأن الله لم يجعل للمسلمين نصيبا من هذه الدنيا, وكأن المسلم يجب أن يبدو زريّ  الهيئة مشوش الهندام منفر المنظر!.. هل نسينا "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق, قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة".. إذن كان طلب الإمام البنا من باب الاستنكار والرفض, واستغل الفرصة ليؤكد على بعض المعاني المهمة".