سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني ( 8 )

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني ( 8 )

بدر محمد بدر

[email protected]

" .. ومضى الرجل يتحدث عن الدعوة, وأن أول مطلب لها وآخره هو المطالبة بتطبيق شرع الله, وتوعية الشعب وتنبيهه إلى هذه الحقيقة التي لن يتحقق الخير إلا عن طريقها.. وأفاض الإمام الشهيد في الحديث عن أهداف الدعوة ووسائلها المشروعة, وكان يتكلم في صدق المخلصين وأسى المحزونين على ما يصيب المسلمين في كل أنحاء الأرض, والطعنة التي أصابت المسلمين بالقضاء على الخلافة, وأنه إذا كان بعض الخلفاء قد أساءوا أو انحرفوا, فليس معنى ذلك أن الخلافة هي التي أساءت أو انحرفت, وهذا الأمر لا يجهله إنسان منصف, فالنظرية شئ والتطبيق شئ آخر.. ولما أنهى حديثه الذي لم أقاطعه فيه مرة سألني: هل اقتنعت؟ وقبل أن أجيب قال في حزم: " لا تجب الآن وأمامك أسبوع تراود نفسك فيه, فإني لا أدعوك لنزهة, ولكني أعرضك لمشقات, فإن شرح الله صدرك فتعال في الأسبوع القادم للبيعة, وإن تحرجت فيكفيني منك أن تكون صديقاً للإخوان المسلمين.."

وكانت البيعة

ويضيف الأستاذ عمر: "وما كان لمن جلس هذه الجلسة, وسمع ما سمعت أن يتوانى عن البيعة لحظة, وعدت في الموعد وبايعت وتوكلت على الله, وإنها لأكبر سعادة لاقيتها في حياتي أن أكون من الإخوان المسلمين، وأن ألقى في سبيلها ما لقيت مما أحتسبه عند الله, وأن يكون خالصاً لوجه الله تعالى.."

"هكذا عرفت المرشد الأول, وهكذا عشت معه مريداً أو تلميذاً أو متلقياً أو محباً, وإن كان ما بي للإخوان من نعمة فمن الله حقاً وصدقاً, إلا أن الإمام هو الذي أخذ بأيدينا إلى تلك القمة وأجلسنا إلى المائدة, في وقت كان فيه المسلمون أضيع من الأيتام على مائدة اللئام".

وهكذا انطلق عمر التلمساني في رحاب دعوة الإخوان المسلمين بكل كيانه, وتجاوبت نفسه وجوارحه وعواطفه مع منهجها الوسطي الشامل, واستقرت سفينة حياته في محيط هذه الجماعة الربانية, ونزل من برجه العالي ومن حياة الترف والأريحية التي كان يعيش فيها في عزبة التلمساني بقرية "نوى", إلى الواقع الميداني مع الناس البسطاء في القرى والكفور والنجوع والعزب, وعاش حياة التقشف والبذل والعطاء والتضحية والجهاد الدعوي بين الناس.

كان عمر التلمساني ينفر من الأضواء ويبتعد عن الصدارة ويزهد في البريق الإعلامي, ويخجل من الحديث مع المرأة, ويذكر في تلك الفترة أن المسئولين عن حزب الوفد في القليوبية, قبل أن يلتحق بالإخوان, كانوا يكتبون اسمه في عضوية الحزب, كما كان المسئولون عن الأحرار الدستوريين يدرجونه كذلك في عضوية الحزب, وكان هو يسكت على استحياء, لعدم قدرته على رفض ما يطلب منه, مادام لا يخرجه ذلك من دائرة الحلال.

وفي يوم السبت الموافق الحادي عشر من ذي الحجة 1353هـ ـ السادس عشر من مارس 1935 شارك الأستاذ عمر ـ لأول مرة ـ في المؤتمر العام الثالث لمجلس الشورى الخاص بالإخوان المسلمين, ممثلاً عن قرية "نوى" التابعة لمحافظة القليوبية, وهو أول مؤتمر تنظيمي للإخوان في القاهرة, حيث عقد المؤتمر الأول في الاسماعيلية والثاني في بورسعيد..

ومن فرط تفاعله وعاطفته مع وقائع وأجواء المؤتمر, كتب في جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية مقالاً يوم 18 من مارس 1935 تحت عنوان "الله أكبر" قال فيه:

"الله أكبر.. هتفت بها أسد الغاب, فرددتها جوانب القطر تدوي كهدير الرعد, يزلزل قواعد الإفك والبهتان.. الله أكبر جأرت بها حناجر المخلصين, فرتلتها ملائكة السماء في أجواء الفضاء, تقصف كالمدافع, تزعزع قوائم الظلم والطغيان.. الله أكبر خالصة مخلصة كانت للسلف الصالح سيوف النصر الفخر ودعائم الفوز والفتح والسلطان.. الله أكبر قالها مائة مؤتمر في مؤتمر الإخوان المسلمين تحت زعامة المخُلص الأكبر, كنت تسمعها فكأنما (خالد) ابن الوليد يدك بها عروش الأكاسرة والقياصرة, وكأنما (عمر) ابن الخطاب يذل بها تيجان الملوك والأباطرة, كنت تسمعها فكأنما هي جلجلة في آذان أعداء الدين, وترتيل وترنيم في قلوب المخلصين.. فوق المائة مؤتمر يمثلون جميع فروع جمعية الإخوان المسلمين في القطر المصري, يجتمعون في صعيد واحد على عمل واحد وقلب واحد, ينشدون غرضاً واحداً, ويطلبون مأرباً واحداً, لم يحدهم إليه أمل دنيوي, ولم يجذبهم نحوه غرض ذاتي, إنما يبتغون نصرة دين الله, والضرب على أيدي المضللين والملحدين, ورد كيدهم في نحورهم, حتى تكون كلمة الله هي العليا, وكلمة الذين كفروا ـ وأنوفهم في الرغام ـ هي السفلى ولو كانوا كارهين.. فإلى الأمام إخواني المسلمين, ولينصرن الله من ينصره.. إلى الأمام ولو اعتاق النفس حمامها (أي موتها) والعظام رجامها, ولكن لنا الصدر دون العالمين أو القبر, وإنها للأولى بإذن الله, والله ولي المخلصين.. وإلى الأمام ـ كما هو شأنك دائماً ـ يا حسن الإيمان ويا بناء عزائم الإخوان (يقصد حسن البنا), والله لك مؤيد ونصير, وإنا على آثارك لمقتدون.."

وقال أيضاً عن حسن البنا: "لا أستطيع القول فيه بأكثر من أنه نور من الله أرسله إلينا في أشد الأوقات حلوكة وظلمة, ليقشع دياجير الشرك والإلحاد, ويكون الدين كله لله".