سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (5)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (5)

بدر محمد بدر

[email protected]

طفولة مميزة

كانت طفولة "عمر" سعيدة وهانئة وميسرة.. كل ما يطلبه في متناول يده, ولم يكن أكبر أشقائه, (16 غيره من زوجتين), فقد سبقه أخوان من الذكور, لكنه كان موضع الحب الأول, بسبب أنه كان متفوقاً في الدراسة بصفة مستمرة, وكان ترتيبه في الفصل بين الثاني والثالث غالبا, وفي الثانوية العامة كان ترتيبه الواحد والسبعين من بين 770 نجحوا في ذلك العام على مستوى القطر (تضاعف هذا الرقم في العشر الأوائل من القرن الحادي والعشرين أكثر من 300 مرة!).

وهو في العاشرة من عمره كان يقرأ جريدة "المقطم" ويتابع أحداث الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918م) من خلالها, وكان يدعو الله أن ينهزم الانجليز لتتخلص البلاد من الاستعمار البريطاني الذي أذاق مصر الأمرين, وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تفجرت ثورة الشعب المصري ضد الانجليز عام 1919, والتي تزعمها الزعيم الوطني سعد زغلول ورفاقه.

وبعد وفاة جده "عبد القادر" انتقل والده وزوجتاه وبنوه الـ 17 إلى حارة "حوش قدم" عطفة السكري رقم 7, وهو المنزل الذي ولد فيه, وكانت مساحته 800 متر مربع وهو غاية في الاتساع, وفي المرحلة الثانوية التحق بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية, لكنه تركها إلى مدرسة الرشاد الثانوية الأهلية, وفي العام التالي التحق بالمدرسة الإلهامية الثانوية, وكانت تابعة للخاصة الملكية, وحصل على شهادة "البكالوريا" قسم أدبي عام 1924.

قصة زواجه

وكان عائدا من المدرسة ذات يوم وهو في السنة الرابعة من المرحلة الثانوية, عندما أخبرته والدته أن يذهب إلى منزل الشيخ "فلان" بعد صلاة مغرب اليوم التالي, بناءً على طلب والده, وعندما سألها عن السبب وراء هذه الزيارة, قالت له إنهم سيكتبون كتابك (زواجك) على ابنة الشيخ الذي ستذهب إلى منزله!.. كانت بالطبع مفاجأة لهذا الشاب المدلل, فهو في العشرين من العمر ونداء الفطرة يلح عليه, ومن داخله فرح بهذا الخبر, لكن تمرد الشباب وتسلط فكرة حرية الاختيار وحقه في ذلك, جعلاه يتذمر من هذا الأسلوب في اختيار زوجته, التي سيبني معها عش الزوجية السعيد.. لكن هذا التمرد وهذه الثورة كانت ـ كما يقول ـ أمام والدته فقط, إذ لم يكن ممكنا أن تكون أمام الوالد, الذي له مهابة ورهبة تمنع من مناقشته أو الاعتراض على رأيه!.

قال الشاب "عمر" لوالدته: إنني لن أذهب إلى بيت الشيخ "فلان", ولن أتزوج إلا من التي أختارها بنفسي!, فردت عليه: لا شأن لي بهذه اللخبطة التي تتحدث بها, وسوف أخبر أباك بهذا "الخروج على طاعته" ليتدبر الأمر!.

كانت التربية الأسرية وقتذاك, ترى في رفض الإبن الزواج ممن اختارها له أبوه, خروجاً على الطاعة.. طاعة الوالدين, أو طاعة الوالد الذي يرى وحده مصلحة الإبن, فيختار بل ويقرر أهم موضوع في حياته, وكانت هذه الثقافة شائعة بشكل كبير خصوصاً في الريف, والأبناء يمتثلون لاختيارات آبائهم بلا مشكلة أو غضاضة في غالب الأحيان, فالمسألة ـ في نظر الآباء ـ ليست في الجمال والقبح, بقدر ماهي في الأصل الطيب والبيت ذو السمعة الحسنة.

والإمام الشهيد حسن البنا نفسه, اختارت له أمه زوجته, عندما سمعتها تقرأ القرآن بصوت جميل ومؤثر أثناء صلاة العشاء, عندما كانت تزور أسرتها في مدينة الاسماعيلية, وكثير من آبائنا وأجدادنا تزوجوا بهذه الطريقة, وكانت ناجحة إلى حد كبير, لكن الأزمان تتغير.

عاد والد "عمر" من عمله, فأخبرته زوجته بما كان من ابنه, فقابل الأمر بهدوء كامل, على عكس المتوقع في هذه الحالة, لأنه كان قد عقد العزم على إنقاذ أمره, وقال لزوجته: سأزوجه رغم أنفه, فأنا ولي أمره, وسأعقد زواجه هذه الليلة!.

كان "عمر" يعرف إصرار والده على رأيه, فرضخ واستسلم للأمر بين راغب في إتمامه, ورافض للطريقة التي يتم بها, لكن الخير ـ كما يقول ـ كان في استجابته لرغبة والده، الذي توفى في يناير 1924م, بعد ستة أشهر من زواجه, ورضي بهذا الزواج وسعد به, وعاش مع زوجته ثلاثة وخمسين عاماً في سعادة ورضا, حتى توفيت في شهر رمضان 1399 ـ أغسطس 1979, ولحق بها ـ رحمه الله ـ بعد سبع سنوات من رحيلها, في شهر رمضان 1406 ـ مايو 1986.

يقول الأستاذ عمر عن زوجته ـ رحمها الله ـ "لم تُرق امرأة في نظري بعد هذا الزواج, ولم أفكر في غيرها, واقتصرت عليها, ودام هذا الزواج الهني ثلاثة وخمسين عاماً, حتى توفيت تلك الزوجة الوفية في شهر رمضان 1399هـ ـ الثامن من أغسطس 1979م, بعد أن تسحرنا وصلينا الفجر معاً, وبعد مرض لازمها الفراش حوالي سبع سنوات.. ومازلت أبكيها بحرقة من كل قلبي إلى اليوم, كلما مرت ذكراها بخاطري أو ذكرها أحد أمامي, فقد كانت زوجة مثالية, تطهو أشهى الطعام, وتساعد من تغسل الملابس يداً بيد, وتقوم على نظافة المنزل مع الخادمة, لم تسألني فيما أفعل لِمَ فعلت؟ ولا فيما تركت لِم تركت؟ لم تطالبني بشئ لنفسها, لأني كنت أوفر لها كل ماتطلبه الزوجة من زوجها, وظلت بعد الزواج ملازمة للبيت حوالي سبعة عشر عاماً, لا تخرج لزيارة أهلها أو حضور عزاء أو تهنئة إلا في سيارة, ولم تركب طوال تلك السنين تراماً ولا أتوبيسا أو تمشي في الطريق على قدميها, لأني كنت شديد الغيرة عليها, أغار عليها من الشمس أن تلقي عليها أشعتها, ومن الهواء أن يلامس طرف ملابسها, وكانت تعرف ذلك مني, فلم تضق بي ولم تعاتبني.."

".. ولما قضيت في سجن عبد الناصر سبعة عشر عاماً, (من أكتوبر 1954م ـ إلى يوليو 1971), كانت نعم الزوجة الصابرة المحتسبة, ومرت عشر سنوات في السجن لم أرها فيها, غيرة عليها أن يراها السجانون ومن معي من الإخوان, حتى إذا ألح علّي الإخوان, ووجهوا لي اللوم على هذه القطيعة, أذنت لها بزيارتي في السجن, واستقبلتها في اتزان, وكأني لم أفارقها إلا يوماً أو بعض يوم!.