سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (2)

سطور من حياة

الداعية الرباني عمر التلمساني (2)

بدر محمد بدر

[email protected]

كنت شغوفاً بالتعرف على الإخوان المسلمين.. كل شئ عنهم.. رموزهم.. تاريخهم.. أهدافهم.. قضاياهم.. موقفهم من السلطة قبل يوليو 52 وبعدها.. حكايات السجون والمعتقلات.. صمودهم دفاعاً عن منهجهم وفكرتهم, وموقفهم من التيارات الأخرى.. إلخ.

وبدأت أتابع باهتمام كبير الأعداد الجديدة لمجلة "الدعوة"، التي كان يصدرها الإخوان المسلمون في الخمسينيات، ثم عاودت الصدور من جديد في عام 1976م في أول الشهر العربي, ومن شدة إعجابي بها كنت أتصفح العدد الجديد منها وأنا لا أزال واقفا أمام البائع, ولا أصبر حتى أعود إلى غرفتي بالمدينة الجامعية أو إلى قاعة المحاضرات بالجامعة, وكنت أقرؤها كاملة: المقالات السياسية والتربوية والفكرية والقضايا التاريخية ونقد الواقع وغيرها من موضوعات، وبدأت أعتاد القراءة فيها لأسماء معروفة: عمر التلمساني ـ صلاح شادي ـ صالح عشماوي ـ مصطفى مشهور ـ محمد عبد الله الخطيب ـ عبد المنعم سليم جبارة ـ جابر رزق ـ محمد عبد القدوس.. وغيرهم.

كانت الجامعة بالنسبة لي عالماً معرفياً وانفتاحياً جديداً, ساهم في تنمية شخصيتي وقدراتي على التعامل مع الآخرين.. لقد نشأت في الريف المصري الهادئ, وتعرفت على الدنيا في قرية "سنجرج" التابعة لمركز منوف محافظة المنوفية, وهي قرية وادعة تربض في دلتا نهر النيل, ويمارس أهلها حرفة الزراعة فقط... كان المجتمع الريفي في القرية قريباً من الله بالفطرة, الجميع يصومون شهر رمضان بقدسية شديدة, وأغلبهم يصلون الفرائض خصوصا صلاة الجمعة, ويكرهون الحرام وكل ما يغضب الله سبحانه وتعالى, ويتزودون بالقناعة والرضا والاطمئنان النفسي.

ومنذ أن كنت في السنة الثالثة الابتدائي تعلق قلبي بالصلاة والمساجد, ودخلت كُتاب الشيخ "إبراهيم أبو زيد" رحمه الله, وحفظت فيه خمسة أجزاء من القرآن الكريم, أدت إلى ارتقائي في سلم التعليم العام لأصبح من المتميزين في الدراسة, وتقدمت إلى المركز الأول على تلاميذ القرية كلها (ثلاث مدارس ابتدائية), ابتداءًا من الخامسة الإبتدائية وحتى المرحلة الثانوية بفضل حفظي للقرآن الكريم.

كنت ـ مثل الكثيرين من أبناء الريف المصري ـ أصلي فترة وأنقطع أخرى, لكني أحرص بشدة على صيام شهر رمضان وصلاة الجمعة والإنصات إلى الخطبة, ورغم أنني كنت أصلى في المسجد البحري في القرية أو المسجد "السني" كما كانوا يطلقون عليه, حيث كان يخطب فيه وعاظ من الجمعية الشرعية, وكانوا أفضل حالاً من خطباء الأوقاف وقتها, إلا أن الخطب في النهاية كانت تقليدية: عن العبادات ومكارم الأخلاق ومناهضة بعض العادات مثل التدخين, وزيارة المقابر في الأعياد, والصلاة في المساجد التي بها قبور وغيرها, ولم يكن في تلك الخطب ما يشد الشباب أمثالي إلى الموضوع, أو يثير فيهم الحماسة الدينية.

وفي الجامعة عثرت على كنز إسلامي ومعرفي وسلوكي وحركي جديد بالتعرف على هذه الدعوة .. أعجبني صمود الإخوان المسلمين وصبرهم وجلدهم وتضحياتهم وحماستهم وحبهم لدينهم, وأصبحت أرى وقائع عصر الصحابة الكرام أقرب إلى الواقع الحالي بالتعرف على هؤلاء الرجال, وكلما تعرفت عليهم أكثر, ازدادت مشاعري وعواطفي حّبا وتقديرا واحتراما لهم.

وبدأت أخطو أولي خطواتي في العمل الإسلامي داخل جامعة القاهرة, ضمن إطار "الجماعة الإسلامية" التي بدأت تنتشر أكثر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي, وشجعني ذلك على مراجعة ما حفظته من أجزاء القرآن الكريم في كتاب قريتي وبدأت أحفظ المزيد, ولم أكد أنتهي من الدراسة الجامعية (1980) حتى كنت أحفظ بشكل جيد ما يقرب من نصف القرآن الكريم, إضافة إلى عدد كبير نسبياً من الأحاديث النبوية الشريفة, كما درست فقه العبادات من كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق, وقرأت في فقه السيرة النبوية وفي كتب التفسير والحضارة والدراسات الإسلامية الحديثة, وتعرفت على الكثير من الدعاة والكتاب والمفكرين, والتزمت بفضل الله بالصلوات الخمس في جماعة قدر الاستطاعة, خصوصا صلاة الفجر في المسجد.

أول حوار صحفي

وفي أثناء دراستي بالسنة الثانية - كلية الإعلام, تم تكليفي ـ ضمن طلاب الكلية ـ بإجراء حوار صحفي مع إحدى الشخصيات المهمة أو المسئولة أو المعروفة, كجزء من التدريب على مهارات تنفيذ الحوار الصحفي, ولأول وهلة فكرت في أن يكون الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين ـ رحمه الله ـ هو الشخصية التي أقوم بإجراء أول حوار صحفي معها, وشجعني بعض القريبين مني وكان لي ما أردت.. اتصلت بمقر مجلة الدعوة (كانت المجلة وقتها في رقم 8 ميدان السيدة زينب, وهو الآن مقر دار التوزيع والنشر) وأبلغت الذي رد علىّ بأنني طالب في كلية الإعلام, وأرغب في تحديد موعد مع الأستاذ عمر التلمساني لإجراء حوار صحفي, وبالفعل حدد لي موعداً في العاشرة من صباح يوم الأحد التالي (مارس 1978).

كان هذا هو أول موعد في حياتي المهنية لإجراء حوار صحفي, ولم أتمكن من شراء شريط التسجيل قبل يوم الحوار, واضطررت للبحث عن مكتبة لبيع الأشرطة يوم المقابلة (الأحد), ولم أكن أعرف أنه يوم أجازة أسبوعية لغالبية محلات القاهرة، فقد كنت حديث عهد بهذه المدينة الصاخبة, وأدى هذا البحث لتأخري عن موعد الحوار لمدة 40 دقيقة (ساعة إلا ثلث), وعندما وصلت وأنا في شدة الخجل, عاتبني الأستاذ عمر عتاباً رقيقاً هادئاً قائلاً: يا ولدي أنا أنتظرك منذ العاشرة موعدنا, وبدأ الحوار هادئاً كأن شيئاً لم يكن!