علامة الشام: الشيخ عبد العزيز عيون السود

رحمه الله تعالى

م. محمد عادل فارس

[email protected]

إنه من العلماء الربانيين ذوي الكرامات العالية. أليست "الاستقامة عين الكرامة"؟ أوَليس كل من يعرف الشيخ يشهد له بالتقوى والاستقامة؟ ألم يقل الله تعالى: }ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون{؟. وإننا نشهد فيما نعلم، ولا نزكي على الله أحداً، أن الشيخ عبد العزيز كان من أولياء الله.

ولد، رحمه الله، في مدينة حمص، في سورية، عام 1919م، من أسرة معروفة بالعلم والفضل تضمّ عدداً من علماء حمص.

فأبوه الشيخ محمد علي عيون السود، عالم فاضل حسن الأخلاق، كان يعمل مديراً للمدرسة الشرعية التابعة لوزارة الأوقاف.

وعمّه الشيخ عبد الغفار، له كتاب في تفسير بعض سور القرآن الكريم.

وقد امتاز الشيخ عبد العزيز رحمه الله بذكائه وقوة ذاكرته، حيث كان يحفظ الصحاح الستّة وحوالي 14000 بيت من الشعر، وقد شغل منصب (أمين الفتوى) في دار الإفتاء بحمص. وكان على جانب عظيم من المعرفة بالقرآن الكريم وعلومه، والفقه والحديث وعلوم اللغة العربية.

تلقّى العلم في دار العلوم الشرعية التابعة لوزارة الاوقاف ونال شهادتها عام 1936م وكان من المتفوقين فيها، كما أخذ العلم عن كبار علماء المدينة من حلقات العلم.

وكأن عمّه الشيخ عبد الغفّار كان ينظر بنور الله عزّ وجل، فقد تفرّس فيه أن يكون فذّاً بين أهل هذا العصر، وأن يحمل وراثة العلم والتقى..

وقد تحققت فراسة الشيخ عبد الغفار في هذا الفتى الذي أصبح علَماً في القراءات، يقصده العديد من المختصين في هذا المجال العلمي.

وقد ذُكر أنه كان كثيراً ما يرى الرسول r في المنام ويُسجّل ما يراه في كراسة خاصة ويقول: إنه في إحدى المرات وضع الرسول r لسانه في فمه! فهل كان تقدمه من بركات هذه الرؤى؟!

وقد وُفِّق الشيخ عبد العزيز رحمه الله في علم القراءات وأُجيز في القراءات السبع في دمشق، وبعدها أُجيز في العشر عن طريق الشاطبية، وبعدها أجيز في العشر أيضاً من طريق طيبة النشر.

وقد زاره مرة أحد شيوخ القراء (النعيمي) ليبقى عنده ثلاثة أيام، فبقي عنده مدّة تزيد على أربعة أشهر، لما رأى من غزارة علمه وسَعَة أفقه في علم القراءات.

وله الفضل في تصحيح النطق بحكم الإخفاء الشفوي (وذلك بأن يبقى بعض الانفراج بين الشفتين في إخفاء الميم الساكنة عند الباء) وهذا الحكم يعرفه المختصون المتعمقون من علماء التجويد. لقد وَجد الشيخ في بعض كتب الأمهات في علم القراءات أن النطق بالإخفاء الشفوي ينبغي أن يكون مع ترك فرجة خفيفة بين الشفتين، وهذا على خلاف ما كان متداولاً بين القراء في الأعصُر الأخيرة. ووجد أن هذه الطريقة في النطق هي التي تنسجم مع المعنى اللغوي لكلمة "الإخفاء"، فإن القارئ إذا ترك الشفتين ملتصقتين عند إخفاء "حرف الميم الساكن" بـ"الباء" فإن الميم تظهر، فإذا جعل مع هذا النطق غنّة فقد جمع بين وصْفَي الإظهار والإخفاء، ولم يعطِ الإخفاء الشفوي حقه. وإذا تذكرنا أن إخفاء النون الساكنة أمام الحروف التي ينبغي أن تُخفى عندها، يكون بترك فرجة بين مقدمة اللسان ومقدمة الحلق حتى لا تظهر النون، فكذلك ينبغي ترك فرجة بين الشفتين حتى لا تظهر الميم عند إخفائها.

حين اكتشف الشيخ هذه الطريقة في الإخفاء الشفوي، واقتنع أنها الطريقة الصحيحة، ناقش فيها بعض أصدقائه العلماء، ثم سافر إلى الأزهر الشريف، وناقش علماء القراءات فيه وأقنعهم. ومنذ ذلك الحين يطبّق عدد من كبار القراء هذه الطريقة.

والشيخ فريد في علم القراءات، سواء على نطاق سورية أو العالم العربي، على الرغم من وجود الكثيرين من المجازين في هذا الباب، ولكن الجميع يُقرّون له بأنه فريد في النطق لا يوجد مثله.

[1]].

وهو معروف بدقّته العلمية ومرجعيته الفقهية وتقواه، وقد تخرّج العديد من تلاميذه على يديه ونالوا الإجازات في علم القراءات.

يمتاز الشيخ بهدوئه ورزانته وقد وصفه أحد العلماء (الشيخ محمد عوض) بقوله: كنا نراه يمشي في الطريق بخطواته الهادئة التي تدل على نفس مطمئنة، وتبعث العزّة في القلوب، فقد منحه الله تعالى مسحة من الهيبة والعزّة والوقار.

وكان الشيخ يحمل هَمَّ المسلمين ويتصل بالشباب، يشحذ هممهم وعزائمهم، ويثير عواطفهم، ويقول: إنني بذلت ما استطعت أن أبذل، وأضع التبعة عليكم، والمسؤولية في أعناقكم، فإن الإسلام في خطر، والمسلمون مشتتون، فاحملوا الأمانة واشعروا بالمسؤولية.

وهو إذ يجلس بين الشباب بروحه الشابّة، يتوكأ على ضعفه، ويتحامل على مرضه فيبثّ فيهم روح العزيمة والشغف بالعلم.

ويُعدّ رحمه الله تعالى ركناً من أركان العلم، جريئاً في الحق، سديداً في الرأي، مؤثّراً في الكلام. ومما يُذكر في حقه وفضله ومكانته أنه دخل على مجمع من العلماء ورجال السياسة في مصر برئاسة الشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر آنذاك، فما إن رآه الشيخ عبد الحليم حتى وقف له احتراماً وتقديراً، وتنحّى له عن رئاسة الجلسة، ثم أفاض على الجالسين من حديثه وعلمه مما رقّت له القلوب، ودمعت له العيون.

وله رحمه الله تعالى أصحاب كثيرون على مساحة العالم الإسلامي في بغداد والمغرب ومصر وغيرها.

وكثيراً ما كان يتحدث رحمه الله عن الفتن في آخر الزمان. ومما يروي في ذلك من الأحاديث: "أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلّين. وإذا وضع السيف في أمتي لم يُرفع عنها إلى يوم القيامة. ولن تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تَعبُدَ قبائل من أمتي الأوثان...

"وأنه سيكون في أمتي ثلاثون كذاباً كلّهم يدّعون أنه نبي الله، وأنا خاتم النبيين.

"وما تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وبهم يحصل الفرج العام، والفرح التام".

وصلته بأبناء الصحوة الإسلامية شباباً وعلماء صلة مودة واحترام وتوجيه وتقدير ومحبة. والكثير من شباب الصحوة كان يجتمع إليه ويأخذ من توجيهاته، ويستفيد من علمه، ويتخرّج في حلقاته، فكان لهم المعين والموجّه، رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن المسلمين خيراً.

وقد توفي رحمه الله في كانون الثاني من عام 1979م عن عمر يُناهز الستين، وهو يصلّي قيام الليل حال السجود.

إنها الدنيا تنقل من العروش إلى النعوش، ومن القصور إلى القبور.

ولكن شتان ما نَقْلةٌ ونقلة، ومرحلةٌ ومرحلة، وإنسان وإنسان.

بكى عليك البيانُ اليومَ والقلم

 

يا كامل الفضل والإرشاد يا علَمُ

بكت عليك عيونٌ دام مدمعها

 

دمعاً غزيراً فسال الدمع وهو دم

عبد العزيز عيونُ السود واأسفا

 

عليه مات التقى والعز والكرم

رحم الله الشيخ عبد العزيز رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

                

[1] من كلمة الشيخ محمد علي مشعل في حفل تأبين المرحوم في المسجد النوري الكبير بحمص الذي أقيم يوم وفاته قبيل دفنه.