الدكتور محمد ضياء الدين الريس

أبو الحسن الجمّال

أستاذ التاريخ والنظم الإسلامية

أبو الحسن الجمّال

كثيراً هم علماؤنا الذين نسيناهم ، لأنه لا يروق للكثيرين ممن بيدهم الإعلام، أو المؤسسات الثقافية أن تذكر هؤلاء الذين كانوا يعظمون دور الإسلام وحضارته، ويرون فيه "دين ودولة"، وقدوتنا اليوم هو الدكتور محمد ضياء الدين الريس أستاذ التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ومن الذين أثروا المكتبة العربية بعشرات الكتب والأبحاث ...هذا الرجل الذى خفت ذكره ولم يعد يذكر برغم أنه ملأ الأرض علماً ويعرف قيمته الأعداء قبل الأصدقاء فى مصر ..مازالت كتبه الرائدة للبحث العلمى فى مصر والعالم الإسلامى ...مازال الناس يقبلون عايه ويودون أن تطبع مرات ومرات ... لقد فضح الرجل مزاعم التنوير المريب وفضح أمره واتجاهاته وهو الذى جعل الأستاذ على عبدالرازق يتنازل عن رأيه فى الخلافة الإسلامية، ومن هنا عدل عن نشر كتابه ..بل تراجع عن أفكاره فى حوار مع المفكر الكبير الأستاذ أحمد أمين فى مجلة "رسالة الإسلام" العدد الثانى والعدد الثالث من السنة الثالثة إبريل سنة 1951، ويوليو 1951.. كان منهجه في تدريس التاريخ والحضارة الإسلامية  يجمع بين حرارة الإيمان، والتوهج العقلي، والانتظام الفكري، والقدرة الفائقة على التصدي للمفتريات التاريخية التي يثيرها أعداء الحق والإسلام، وكذلك أكاذيب من ساروا علي درب المستشرقين والمبشرين والصليبيين بحجة التجديد الديني والفكري.

وهو من أبرز أساتذة التاريخ الإسلامي في مصر في عهده، وقد ولد في 17 من يناير 1912، حفظ القرآن الكريم كاملا، كعادة الطلاب فى هذا العصر ثم يلتحق بكلية دار العلوم التى قال عنها الإمام محمد عبده "تموت اللغة العربية فى كل مكان وتحيا فى دار العلوم" ويدرس فيها علوم العربية والشريعة والحضارة والتاريخ الإسلامى والفلسفة بمنهج عميق وأصيل ثم يحصل على دبلوم دار العلوم العليا 1935 وكان ترتيبه الأول، مما حدا باختياره ضمن بعثة دار العلوم لدراسة التاريخ بانجلترا 1938، ونجح في امتحان جامعة لندن الخاص 1939، كما نجح في امتحان شهادة الأدب المتوسط  في التاريـخ والأدب الإنجليزي والترجمة والفلسفة الأدبية 1941، نال شهادة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من جامعة لندن في التاريخ والعلوم السياسية، وأذنت له الجامعة بالتقدم للدكتوراه مباشرة، وأتم رسالته 1945، وكان موضوعها "فكرة الدولة كما تصورها النظريات السياسية الإسلامية"، وخلال إقامته فى لندن لم يتأثر بأطروحاته المستشرقين وسموم بعضهم التى كانوا يفرضونها على الطلاب العرب المسلمين وكم أوقعوا ضحايا فى هذا المجال والأمثلة عديدة وكثيرة ولكن تمسك الريس بالمنهج الإسلامى الأصيل وانتصر له،  ثم يعود إلى مصر ويعين مدرساً للتاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم، ومازال يتدرج فى المناصب والدرجات العلمية حصل على الأستاذية وعين رئيساً لقسم التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم.

أثرى الدكتور محمد الدين الريس المكتبة العربية بالعشرات من الكتب والأبحاث الفريدة فى مجالها ومن أبرز كتبه: "كتاب النظريات الإسلامية"، و"عبد الملك ابن مروان موحد الدول العربية"، و"في التاريخ الإسلامي الحديث"، و"الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية"، و"الإسلام والخلافة في العصر الحديث"، و"الدستور والاستقلال والثورة الوطنية 1935"، و"ثلاث شعراء مصريون" وغيرها...

   النظريات السياسية الإسلامية:

  وجاء كتابه  "النظريات السياسية الإسلامية" فريداً فى بابه ، فقد قدم الكتاب فى الواقع منذ صدرت طبعته بحثاً جديداً ظهر جانباً من جوانب التفكير الإسلامى كان يظن أنه غير موجود على النحو الذى عرف فى العصر الحديث وأن علم النظريات السياسية قاصر فقط على الثقافة الأوربية أو ما تفرع منها ..فأثبت فى هذا الكتاب أن المسلمين كان لهم تفكير عميق فى السياسة وان الفكر الإسلامى أنتج نظريات علمية حولها ، بل إن بعض هذه النظريات التى لم يتوصل إليها الفكر الأوربى إلا فى العصر الحديث ..فالكتاب كان إذن رائداً فى هذا المجال، ولذا كان موضع اهتمام الباحثين واستقبله رجال العلم والسياسة بالتقدير لما تناوله من مباحث ، والإطراء لما وصل إليه من نتائج... وقد أصبح الكتاب منذ صدوره مرجعا أساسيا فى الجامعات يدرس فى كليات القانون والحقوق والشريعة والتاريخ يعتمد عليه الباحثون عامة ...وقد كان باعثاً أن يتبنى فكرته العديد من السياسيين والمفكرين وقد صاحبه بعد ذلك اتجاهاً محموداً لبعث نهضة إسلامية وإحياء الروح الإسلامية ، وسعياً لإعادة بناء النظم والتشريعات على الأسس الإسلامية ، وعملا فى الوقت ذاته لتحقيق التضامن بين الدول الإسلامية التى ضمنت فى دساتيرها بمادة الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع ..وجاء الكتاب ردا على على عبدالرالرازق فى كتابه "الإسلام وأصول الحكم" وما صاحبه من تأييد بالباطل له من أحزاب لا تمثل الأغلبية فى الشارع المصرى ومن نخبة تعادى ثقافة البلاد التى جذرت فيها قرابة 1400 عام وانتصرت لثقافة المحتل العدوانى الذى قصد سلخ الأمة منن هويتها ومورثاتها الحضارية ..وقد فصل الريس هذا الأمر فى كتابه الآخر "الإسلام والخلافة فى العصر الحديث".

 وقد احتفى بالكتاب العديد من رموز السياسة والفكر:

 منهم على ماهر باشا رئيس الوزراء : "...وانى إذا اعبر لحضرتكم عن جزيل شكرى على هذه العناية الكريمة، وانوه بما طالعته فى كتابكم من اسلوب علمى مـتأنى وتعمق فى البحث وجهد مشكور فى التمحيص والدرس".

وكتب الصحفى الكبير محمد زكى عبدالقادر : "انفقت بعض ساعات الليل أقرأ كتاب النظريات السياسية الإسلامية - والموضوع يستهوينى ولا أكاد أعثر على كتاب فيه حتى أسارع إليه- وقد قرأت فى هذا الكتاب كثيرا مما صحح معلوماتى ، واضاء أمامى بعض الغموض الذى يحيط بنشأة الفرق والأحزاب الإسلامية وقد نهج المؤلف فيه نهجاً علمياً ومزج الفقه بالنظريات الحديثة مزجاً موفقاً".

وكتب العالم الجليل والفقيه الكبير محمد أبو زهرة : "اتجه المؤلف إلى فلسفة السياسة الإسلامية والمناحى التى نحت نحوها الطوائف الإسلامية والمذاهب المختلفة ، مبيناً ما تجتمع فيه من أصول ، وما تفترق عليه من فروع وقد جمع فى دراسته بين الأصول الدينية للنظريات المختلفة والأدوار التاريخية التى مرت بها..وهو فى كل ذلك قد استولى على موضوعه تفكيراً وتعبيراً، ودقة وعمقاً، وإحكام عرض، وحسن تأت لدقائق المسائل ومختلف الأقوال".

  تفنيد آراء على عبدالرازق وكتابه "الإسلام وأصول الحكم":

نشر الشيخ على عبدالرزاق كتابه الإسلام واصول الحكم فى عام 1926 وأحدث ضجة هائلة مما حدا بهيئة كبار العلماء بالأزهر أن تفصله من الأزهر وتسحب منه شهادة العالمية، وانتصر له رهط من العلمانيين من حزب الأحرار الدستوريين وغيرهم، ورد عليه بعض العلماء الأعلام منهم محمد فريد وجدى، والشيخ محمد الخضر حسين، ولقد أصدر الدكتور الريس كتابه "النظريات السياسية الإسلامية" سنة 1952، فند فيه آراء علي عبد الرازق، وفي سنة 1976 أصدر كتابا بعنوان "الإسلام والخلافة في العصر الحديث" نقد فيه الكتاب السابق، والجديد أنه شكك فيه بأدلة قوية أن يكون الكتاب من تأليف الشيخ علي، ومن هذه الأدلة:

ــ لم يعرف عن الشيخ قط أنه كان باحثا، أو مفكرا سياسيا، أو حتى مشتغلا بالسياسة.

ــ لا يعقل أن يقصد قاض شرعي مسلم من عائلة محافظة الهجوم علي الإسلام، وينكر ما فيه من سياسة وحكم، وجهاد وقضاء.

ــ لا يعقل أن يكون هذا الشيخ الأزهري قد تعلم قي الأزهر ما يورده في كتابه " من أحاديث عن "قيصر" و"عيسي" و"متي" و"الإصحاح" و"الإنجيل".

ــ يتكلم الكتاب عن المسلمين بضمير الغائب. ككقوله: ذلك الزعم بين المسلمين... غير مألوف في لغة المسلمين... الخلافة في لسان المسلمين... الخ.

ــ الكتاب يدافع عن المرتدين، وينتقد أبا بكر.

ــ شهادة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية في أحد كتبه، يقول الشيخ بخيت "...علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له فيه إلا وضع اسمه عليه فقط، فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه ــ من غير المسلمين ــ ضحية هذا العار".

ــ قدم الدكتور الريس كتابه الذي أصدره سنة 1952 وهو "النظريات السياسية الإسلامية" قدمه لعلى عبد الرازق وطلب منه الرد على ما جاء فيه من تفنيد لكتاب "الإسلام وأصول الحكم". ولم يرد علي عبد الرازق.

ــ رفض على عبد الرازق أن يعيد طبع كتابه بعد أن ألحت عليه "دار الهلال" في إعادة طبعه.

ويخلص الدكتور الريس ــ رحمه الله ــ إلى ترجيح أن يكون المؤلف الأصلي لهذا الكتاب أحد المستشرقين الإنجليز وهو مرجليوث ..

 ويقول كاتب سيرته الدكتور جابر قميحة فى مقال له: "ولا أنسى أنه قبض عليه خطأ في عهد الوزارة السعدية في أواخر الأربعينيات، والسبب أنهم وجدوا ورقة في جيب عبد المجيد حسن (الذي قتل النقراشي باشا رئيس الوزراء)، وهذه الورقة مكتوب فيها كلمة واحدة هي "ضياء"، فألقت الحكومة القبض على كل من يحمل اسم "ضياء"، وكان منهم أستاذنا، مع أن اسمه الكامل "محمد ضياء الدين الريس"، وأودع معتقل الطور.

  ويكمل الدكتور قميحة: "ولا أنسى أنه في حديثه عن الدولة الإسلامية ــ بعد خروجه من المعتقل ــ قال: "لقد اعتقلوني مع عدد كبير من الإخوان، وفي المعتقل رأيت فيهم الدولة الإسلامية مصغرة، فالعلاقة بينهم تقوم في المعتقل على النظام، والتعاون، والإيثار، والحب العميق... كان الواحد منهم يزوره أهله في المعتقل يحملون إليه صفيحة كبيرة جدا وقد غصت بما فيها من كعك، فيوزعها على الإخوان، ولا يُبقي لنفسه إلا كعكة واحدة، مما يذكرني بقوله تعالى: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا". (الفتح 29)".

أكاذيب اليهود حول أرض الميعاد:

 منذ نكبة 1948 وما بعدها من نكبات وهزائم، ظهرت العديد من الدراسات التى تفند أكاذيب اليهود حول وعد الله جل شأنه لإبراهيم فى أرض الميعاد (فلسطين) وشاركهم الدكتور ضياء الدين الريس فى دراسة متعمقة بعنوان "الأرض الموعودة خرافة الصهيونية ..دراسة علمية فى تاريخ اليهود وتوراتهم" نشرت فى مجلة الوعى الإسلامى عدد45 السنة الرابعة غرة رمضان 1388هـ (21نوفمبر 1968).  رجع فيها إلى أصول كتابهم وبين ما به من تناقضات وحجج واهية لا ترقى لمرتبة الدليل ومن قوله: "من أهم العوامل التى دفعت الساسة البريطانيين إلى احتضان المشروع الصهيونى وتعضيده – فوق الأغراض الإستعمارية- المشاعر الدينية وهى المشاعر المقرونة بالتعصب وهذه حقيقة ، لأن الساسة البريطانيين- ولا سيما هؤلاء الذين كانوا متدينين وكانوا السبب فى إصدار وعد بلفور والعمل على تنفيذه- يقرءون الكتاب الذى يعتبره اليهود كتابهم المقدس وهو (العهد القديم) ويقرؤه أيضا الشعب الانجليزى وكذلك الشعوب الأوربية والأمريكية بوجه عام ".

"وقد بنى الصهيونيون دعواهم على ما جاء فى الكتاب المقدس أن الله وعد إبراهيم أو (عقد معه صفقة) لأن هذا الإله الذى تصوره اليهود كان- وذلك كما يقول المؤرخ ويلز- كان إلها تجاريا ، اتفق مع إبراهيم على أن يعطيه هذه الأرض – أى فلسطين- له ولنسله من بعده ، كثمن لعبادته ..أيضا يقرأ الأوربيون والأمريكيون أساطير بنى إسرائيل فى هذا الكتاب ، وهى قصص مطولة متعددة، أو لا يقرءونها ويكتفون بعناوينها أو يسمعون نبذا منها فى الكنائس، فيخيل إليهم أن فلسطين لا زالت كما كانت فى تلك الأزمنة السحيقة منذ ثلاثة آلاف عام أو أكثر."

وأثبت ان هذا الوعد ما هو إلا خرافة بالأدلة التاريخية ومن التوارة التى بأيدى اليهود نفسها، وقال أن كثير من السماء التى وردت فى العهد القديم ما هى إلا شخصيات وهمية ، وكثير من القصص والأخبار التى وردت ما هى إلا اساطير متخيلة ما انزل الله بها من سلطان وبين هذه المسائل من الوجهة العلمية كما يلى:

قال أن الحقيقة التاريخية الأولى والثابتة من هذا الكتاب نفسه (العهد القديم) وايضاً كل المصادر الأخرى ، أن هذه الأرض أى فلسطين وهى أرض كنعان كانت ملكاً لشعب كنعان ووطنه ومقامه وان الجماعة العبرية ، التى هى أصل بنى إسرائيل أو اليهود ، كانت طارئة غريبة على هذه البلاد ، أجنبية عنها ، لأن إبراهيم جد هذه العشيرة البدوية فيما يزعمون – أصله من (أور) فى بلاد الكلدانيين فى جنوب فى جنوب العراق ، وكان كلدانياً وعبر هو عن نفسه حينما جاء إلى أرض كنعان بأنه – كما ورد فى هذا الكتاب نفسه- (غريب) و(نزيل فى أرض غربة) . ولما أراد ابنه اسحاق أن يتزوج وايضاً حفيده يعقوب الذى سمى (إسرائيل) فيما بعد – عاد كل منهما إلى قومهما فى العراق وتزوجا هناك فى (فدان إرم) ونص هذا الكتاب على ان جميع أبناء يعقوب –أى بنى إسرائيل- ولدوا فى تلك الجهة خارج فلسطين .

ولم يستقر إبراهيم ولا ذريته فى فلسطين بل نزحوا إلى مصر وتجولوا ثم رجعوا ثم استدعى يوسف – بعد حادث مؤامرة أخوته – أباه يعقوب وأولاده ، فعاشوا فى مصر تحت حكم ملوك مصر قرونا ، بلغت نحو خمسمائة ، وخدموا فى أعمال الحفر والبناء . ولم يدخلوا فلسطين إلا بعد أن خرجوا من مصر ، وبعد تيهم فى الصحارى مشردين ، ثم تمكنوا من دخولها فى عهد يوشع مغيرين ، وذلك بعد إبراهيم بستمائة أو سبعمائة عام، حيث أن المؤرخين يقدرون أن إبراهيم عاش فى القرن العشرين قبل الميلاد أو القرن الذى بعده ، وأما خروج العبرانيين من مصر فلم يحدث إلا فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، فأين إذن وعد الله لإبراهيم المزعوم طوال هذه الحقب ؟ إنه لم يتحقق لا لإبراهيم ولا لذريته طوال سبعمائة عام فهل كان وعد الله كاذباً (سبحانه وتنزه عن ذلك)؟ أم لم يستطع انجاز وعده ؟ (تعالى جل شأنه)."

 وبعد هذا الطرح كله يقرر الريس :"هذا وحده يمكن أن ينهض دليلا كافياً على زيف هذا الوعد وانه وعد موهوم مكذوب لا حقيقة له".

ثم يواصل طرح براهينه وادلته ومعظمهما من العهد القديم بعد أن وعى أسفاره جيدا وقرأءه بدقة وتمعن:"ومذ دخل إسرائيل هذه البلاد ظلوا فى حروب متوالية مع أهل البلاد الأصليين من كنعانيين وأموريين وأدوميين وفلسطينيين وغيرهم ممن ذكرهم كتابهم هذا .وقد سجل كتابهم أنهم هزموا مراراً وخضعوا لحكم غيرهم فترات عديدة ، فلم يستطيعوا أن ينشئوا فى القرن العاشر (ق.م) ملكاً صغيراً فى عهد داوود فابنه سليمان ، لم تزد مدته عن ثلاثة وسبعين عاماً.كان فى الواقع تحت وصاية ملك مصر من جهة وملك صور من جهة أخرى .ثم انقسمت هذه المملكة وظلت فى حروب واضطرابات حتى جاء ملك أشور (سرجون) وذلك فى 721 ق.م – فقضى على دولة إسرائيل فى الشمال ، فانتهت من التاريخ . ثم جاء ملك بابل (بختنصر) فى عام 586 ق.م فقضى على الدولة الأخرى يهوذا وهدم عاصمتها (أورشاليم) وأحرق هيكلها ، ونقل من بقى من الأسرائيليين اسارى أذلاء بقوا فى الأسر مدة طويلة.فمنذ هذا التاريخ الثابت أى منذ مدة ستة قرون قبل الميلاد (او منذ أكثر من ألفى وخمسائة عام) انتهى التاريخ السياسى لبنى إسرائيل أو اليهود فى فلسطين وبعد أن انقضت مدة السبى وسمح ملك الفرس بعودة من بقى منهم ، رجعوا رعية خاضعين لدولة الفرس ، ثم اليونان، ثم الرومان، إلى أن جاء الامبراطور طيطوس فطردهم من القدس ، وأحرق المدينة وبنى مدينة أخرى على انقاضها، وذلك عام 70م فصاروا منذ هذا التاريخ مشردين فى أنحاء الأرض منبوذين مكروهين من جميع شعوب العالم – اى منذ عشرين قرناً انقطعت صلتهم بفلسطين".           

مؤرخ ثورة 1935:

  أرخ الدكتور محمد ضياء الريس لثورة 1935 فى كتابه "الدستور والاستقلال والثورة الوطنية 1935" الصادر عن دار الشعب 1975، وهى التى تجاهلها كل المؤرخين حتى منتصف السبيعينيات حتى الأستاذ عبدالرحمن الرافعى وهو قد أرخ لثورة 1919 فى مجلدين وأرخ لنتائجها فى كتابه "فى أعقاب الثورة" فى ثلاثة مجلدات، ولم يستغرق حديثه عنها إلا صفحتين يتميتين قال: "شهدت البلاد فى ختام سنة 1935حادثا هاما من أعظم حوادثها التاريخية وهو استئناف الحياة الدستورية وعودة دستور سنة 1923، بعد ظل معطلاً نيفا وخمس سنوات فكانت هذه السنة من هذه الناحية فوزا للحركة الوطنية، أعاد إلى الأذهان فوزها فى ختام سنة 1925، إذ ظفرت بعودة الحياة السياسية" .

 وقال أيضاً: "كانت مظاهرات الطلبة فى نوفمبر وديسمبر من تلك السنة مظاهرات سلمية فى تكوينها بريئة فى مقصدها، إذ كانوا مدفوعين بشعور وطنى عام يهدف إلى تحقيق مطالب البلاد ولم يكن موعزا إليهم من أحد، بل كانت فيض الوطنية الصادقة: كانوا يهتفون الاستقلال والحرية والدستور".

 ثم قال:"وفى الجملة كانت مظاهرات نوفمبر وديسمبر سنة 1935صفحة مجيدة من تاريخ الشباب، وقد سميناها شبه ثورة إذ كانت صورة مصغرة من ثورة 1919وكان لها أثرها فى عودة الحياة الدستورية وجاءت تضحية الشباب فى تلك الفترة خيرا وبركة على البلاد ، إذ تم على أثرها ائتلاف الأحزاب وعودة الدستور".

 والحقيقة أن كثير من الناس تساءلوا عن تاريخ الفترة ما بين الثورتين 1919 وانقلاب 23يوليو 1952 وسأله كثير من الطلاب والأساتذة حول هذا الموضوع ...وهذه الثورة تشبه ثورة 1919 فى روحها وطبيعتها ، وإن كانت أقل منها فى حجمها ومدتها .كانت ثورة طبيعية انبثقت من روح الشعب معبرة عن الشعور الوطنى، لم تكن من صنع أحد ولم يسبقها تدبير فهى فى ذلك تشبه الثورة الأم الكبيرة، لكنها فى مظهرها العملى اقتصرت على الشباب والطبقات المثقفة، ولم تشمل الشعب بأسره ولم تطل مدتها اكثر من بضعة أشهر ولكن نجاحها مع ذلك كان أسرع مما حدث لثورة 1919 .

 وبعد رحلة مع العلم قضاها بين الدرس والتأليف توفى الأستاذ الدكتور محمد ضياء الدين الريس  في 26 من ابريل 1977وقد نعاه تلامذته ورفقاه وشيعوه إلى مثواه الأخير ..