الأستاذ الجوهرجي ... وفن التربية

د. محمد حسان الطيان

د. محمد حسان الطيان

رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت

عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق

[email protected]

[email protected]

كان التعليم في زماننا ضرباً من الإرهاب و الإعنات و التخويف, و أذكر أن أول عهدي بدخول مدرسة ارتبط بالفزع و الجزع و الخوف, و ما زالت في مخيلتي تعي بقعة من الدماء بل بركة خلفتها علقة ساخنة انهال بها معلم لا تعرف الرحمة والشفقة طريقاً إلى قلبه على تلميذ مسكين لا حول له ولا قوة, كان ذلك في اليوم الأول لي في المدرسة التجارية الخاصة التي سجلني فيها والدي رحمه الله مع أخي رضوان الذي يكبرني بعام ونصف, وسني لا تكاد تقارب الخامسة, فخلّف ذلك في نفسي ندوباً لا أزال أعاني من تأثيرها حتى يومي هذا.

على أن الله الذي وسعت رحمته السماوات و الأرض رحمني فقذف بي في أحضان معلم لقيت عنده الشفقة بعد القسوة والرحمة بعد العذاب والطمأنينة بعد الخوف, ذلكم هو المربي الفاضل الأستاذ عدنان الجوهرجي الذي نعمت برعايته وكلئه وعنايته في الصف الأول الابتدائي بعد أن انتقلت إلى مدرسة عمرو بن العاص الرسمية أو الميرية كما كنا نسميها في ذلك الزمان.

كان الأستاذ عدنان يرعانا رعاية الأب لأولاده, ويحنو علينا حنو الأم على فلذات أكبادها, وبالرغم من أنني لم أكن بعد مجتهداً ولا متفوقاً آنذاك, كنت أشعر في كنفه بالأنس والطمأنينة والعطف والسكينة بعد طول معاناة من الجور والظلم والعنف والإرهاب.

و قيدت نفسي في ذَراك محبة              ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا

أذكر أنّا كنا نستمتع في الفرصة- أي وقت الراحة -  التي يكون فيها الأستاذ عدنان مسؤولاً عن ضبط الطلبة في الساحة, حيث كان الأساتذة يتناوبون على ذلك, وكل منهم يستعرض عضلاته ويبسط ما شاء من سلطانه في كبت الطلبة وملاحقتهم وتقريعهم , فإذا ما جاء دور الأستاذ عدنان ارتاح الطلبة من كل ذلك العناء وأطلقوا لأنفسهم العنان في اللعب والمرح والتراكض والضحك, وما جعلت الفرصة أصلاً إلا لهذا, فالأستاذ يجول بينهم بهدوئه ودعته ووقاره وحنوه.

و إن أنس لا أنس موقفاً تجلى فيه حرص المربي على تلاميذه وحَدَب الأب على أولاده, ذلك أن مدير المدرسة وقف مرة في ساحة المدرسة يحضَّ على شراء بطاقات لحضور فِلم في السينما فما كان من الأستاذ عدنان حين دخلنا الصف  إلا أن حذرنا أشد التحذير من دخول السينما مشيراً إلى ما حصل في إحدى دور السينما من حريق ذهب ضحيته العشرات, وواعداً بأن يصطحبنا في زيارة للمسجد الأموي تعوضنا مئة فِلم في تلك السينما المبغوضة, وكان دخول السينما في أيامنا تلك بداية الفساد و الإفساد للولد! وحين قصصت القصة على والدي أعجب بالأستاذ عدنان أشد الإعجاب وأيقن أن ولده بيد أمينة.

وشاء الله سبحانه أن تستمر رعاية هذه اليد الأمينة إلى نهاية العام الدراسي, بل إلى ما بعد ذلك, لأن الأستاذ عدنان همس في أذن والدي همسة غيّرت مجرى حياتي, ذلك أنّه نبّه والدي رحمه الله على ضعفي في القراءة مشيراً إلى أن الحل يكمن في قراءة القرآن الكريم, وأخذ الوالد بهذه الوصية أخذاً حازماً فما زال يقرئني القرآن ويتعهّدني به حتى استقام لساني وقوي جناني وغدوت الأول في صفي ومهوى الأفئدة بين أترابي وأصحابي بعد أن كان الجميع ينفرون مني لضعفي وقلة حيلتي, وما نفعني والله شيء في حياتي كما نفعني القرآن, وما زال ينفعني ويمنحني, وأرجو الله سبحانه أن يكون شفيعي وحجتي في الآخرة كما كان نصيري ومعلمي في الدنيا.

وقدّر المولى سبحانه لي بفضل القرآن الكريم أن أدخل قسم اللغة العربية, وهناك عرفت الأستاذ النفاخ علامة العربية وشيخها وحارسها الأمين, وكم كانت دهشتي عظيمة حين علمت أن أستاذي الجوهرجي من أصحاب النفاخ, وأنه سأله عني فأجابه النفاخ: "يبدو أنه من أفضل دفعته " كلمة كان لها في نفسي أعظم الأثر,وقد نـقلها لي أستاذنا الجوهرجي, فسعدت بها أيـما سعادة, ولـزمت على أثـرها الشيخ ونعمت بصحبته وأفدت من علمه وفضله رحمه الله, و بقي الأستاذ عدنان يمدني بالكتب النادرة, ويطلعني على نفائس المخطوطات, ويعلمني من علمها, وهو صاحب اختصاص في هذا المجال عزَّ نظيره, بل لعله من نوادر الزمان في العلم بالمخطوطات ومعرفة أنواع الخطوط وتاريخها والأحبار وأنواع الورق والبَردي وما إلى ذلك. وقد حضرت له مع لفيف من أصدقائي دورة له في هذا الميدان انتفعنا فيها بسعة بعلمه وفضله ودقة ملاحظته.

 ولا بد لي أن أذكر هنا خُلقاً نبيلاً في أستاذنا الجوهرجي يعزّ وجوده لدى كثير من المعلمين, ذلك هو التواضع المحبب والتقدير البالغ لمن نبغ من طلابه، و قد حظيت منه بدليل مادي على ما أقول أحتفظ فيه في مكتبي وأعتز به ما حييت, فقد أهداني نسخة نفيسة من كتاب دلائل الإعجاز بتحقيق شيخ العربية أبي فهر محمود محمد شاكر, و هو يعلم مقدار افتتاني بأبي فهر وكتاباته وتحقيقاته,  وكتب على طرته عبارة إهداء أعتذر إلى القارئ الكريم مما تشتمل عليه من مديحي, ولكني أثبتها هنا لدلالتها على ما نحن فيه. يقول فيها :

"إلى السابق بفضله, اللاحق بكرمه, التالي بجوده, إلى الأستاذ حسان الطيان هدية وتحية إعجاب و تقدير. من أخيكم محمد عدنان الجوهرجي 6  رمضان سنة 1404 "

و أنا والله أقول: إن الأستاذ عدنان الجوهرجي هو السابق بفضله إذ علمني في الصف الأول من سني دراستي, وهو اللاحق بكرمه إذ تابعني وترادفت عليَّ أياديه البيضاء في تبصيري بالمخطوطات وإطرافي بنوادر الكتب والمطبوعات, وهو التالي بجوده إذ يتابع ما أكتبه من مقالات ويسأل عني ويبثُّ فيَّ من روحه تشجيعاً وتقديراً, وإني لأحسبه والله سبحانه حسيبه من معلمي الخير الذين يصلي الله جل وعلا عليهم  والملائكة والناس أجمعون وفاق ما جاء في الأثر:

"إن الله وملائكته حتى النمل في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير".

 وله مني كل المودة مقرونة بالدعاء الخالص و الرجاء من المولى الجليل أن يجعله من سعداء الدارين وأن يقر عينه بأولاده وتلامذته, و أن يجزيه عنا جميعاً خير الجزاء.

والحمد لله الذي بعمته تتم الصالحات.