رحيل العالم المُعلِم

رحيل العالم المُعلِم

الدكتور أحمد العسال

زينات أبو شاويش

[email protected]

كثيرا ما أشعر بأن الله عز وجل قد حباني بنعمٍ كثيرة، أهمها هي مجالسة العلماء والنهل من فيوضات علومهم، وأياً كانت انتماءاتهم الفكرية أو الأيديوجية، فقد كان لهم أكبر الأثر في حياتي، العلمية والعملية، حيث سكنت آثارهم نفسي، فكانوا دوما بالنسبة لى مداد النور الذي استمد منه زادى في حالات الجفاف التي تنتاب حياتي.

بيد أن للعالم الرباني في نفسي خصوصية شديدة، تتسق كثيرا مع نشأتى المحافظة التى ساهمت في تكويني الأول منذ أن تعلمت القرآن الكريم علي يد الشيخ عبد الباسط هارون، في منزلنا بمحافظة الشرقية حيث كان والدي رحمه الله حريصٌ أن يُحضره لنا الشيخ عبد الباسط هارون لتحفيظنا القرآن الكريم أنا وأخوتى، وقد كان لي نصيب الأسد في هذه الجلسات الربانية، التي تلازمنى ما حييت، بل أحسبها أنها المكون السلوكي الأول في حياتي، ومرورا بالشيخ عبد الباسط هارون ثم الأستاذ حسن مطر في الرحلة الاعدادية، وانتقالا إلى التتلمذ الروحاني علي يد الشيخين صفوت نور الدين و صفوت الشوادفي في المرحلة الثانوية، ومرورا بالشيخ عبد الرحمن الرصد في الجامعة والأستاذ علي متولي، وأخيرا مرحلة النضج ومجالسة العلماء والتعرف علي الشيخ الغزالي والدكتور القرضاوي والدكتور سليم العوا والدكتور العسال والدكتور سيد دسوقي وأخيرا وليس آخرا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، وغيرهم كُثُر، لا مجال هنا لذكرهم ولكن هؤلاء هم الثلة التي تربيت عليها يديها من الناحية الإيمانية واقتربت منهم، ونهلت من علومهم الربانية.

التقيت هذا العالم الرباني للذي أنا بصدد الحديث عنه للمرة الأولي، عندما كنت أعمل مسئولة الملفات الفلسطينية في شبكة اسلام اونلاين في تلك الفترة، وما أن تعرفت عليه حتي شعرت بأنني أمام قبسٌ من الملائكة، وربما يمكن ان تقول دون أدني مبالغة وكأن الجنة في أهدت الأرض قطعة من نورها تمثل في وجه هذا العالم الرباني، وما هي الا سويعات قليلة بعد انتهاء اللقاء حتي هرعت اليه مسرعة أعرفه بنفسى، وقد حدث ما كنت أصبو اليه، أن دعاني لزيارته في منزلة والتعرف إلى أسرته، فكلما سنحت لي الفرصة بزيارته كنت أطير فرحا لهذا اللقاء الذي سأستمد منه الكثير من الشحنات الايمانية.

والحقيقة أنني كنت صاحبة عادة مع العلماء، ولازالت تلازمني وهي تقبيل أيديهم إجلالا وإكبارا لدورهم، فقد اعتدت علي هذا الامر منذ نعومة اظافري عندما كنت اشاهد أخوتي يقبلون يد الشيخ عبد الباسط الذي يحفظنا القرآن الكريم، ولا أرى أدني غضاضة في ذلك فهذا حق العالم المُعلِم علي التلميذ المتعلم، بل أنني أزعم أنه أدني حقوق هؤلاء التي لا زلت ملتزمة بها حتي وقتنا هذا، تعلمت من هذا العالم الكثير من الاشياء التي لا يمكن اختزالها في سطور قليلة، فحياته مسيرة للعطاء الانساني، والتي تجلت أعظم تجلياتها في مشوارة التربوي، من أجل بناء الإنسان أينما حل أو رحل، كان مصري الجنسية إنساني الروح إسلامي الهوية، فلم تتوقف اسهاهامته فقط علي وطنه الأول مصر، بل تخطه إلي انجلترا، وباكستان، وأفغاستان، والكثير من دول الخليج، حيث شكل في تواجده في شتي بقاع الدنيا منظومة قيمية نادرة الوجود،  ويمكن أن نصف هذا العالم باختصار شديد أنه كان الاسلام يمشي علي الارض، وخلقه القرآن.

هذه شهادتي المتواضعة التي عايشتها بأم عيني في السنوات التي تعرفت فيها عليه قبل رحيلة عن عالمنا، فلم يكن يعامل الناس علي اساس تصنيفاتهم الايدلوجية، أو الاثنية أو حتي الفكرية، ولكن كان يتعامل مع الناس سواسية بوصفهم بشر لهم صفة التكريم، وكان يذكر لنا دوما قول الله عز وجل" ولقد كرمنا بنى آدم" وهو هنا يتعاطي مع الانسان لانسانيته بعيدا عن كل الصنوف البشرية الجمة التي فطر الله الناس عليها، كنت تلمس بركته إذا ما اقترب من حياتك،  نعم كنت اشعر دوما بأنه رجلٌ مبروك ليس فقط لما يحمله من علم، ولكن للنور الذي يمكن أن تقرأه في وجهه منذ اللحظة الاولي لتعرفك عليه، كان متواضعا أيما تواضع فكثيرا ما كان يسأل عني ويتفقد أحوالى ويسأل عن أسرتي، بل عن كل فلسطين، كان مهموما بكل من حوله صغيراً كان، أو كبيراً، عالماً كان أو متعلماً، كان عنوانا جميلا للاسلام في أبهي صوره الانسانية، كان سمحا بسيطا في اسلوبة، بيد انها لم تكن البساطة التي تأخذ عقلك الي السطحية والاستخفاف، ولكنها البساطة التي تنير دربك وتحيل اليك تفكيك أعتي الاشكاليات الفكرية في صورة واضحة دون تسطيحٍ مخل ولا تعقيدٍ ممل، كان بيته واحة لكل تلامذته، ويبدو أن هذه سمة غالبة في معظم علماء ذلك الجيل، أياً كانت توجهاتهم وانتماءاتهم.

تغيبت فترة طويلة فلم اتصل به لانشغالي برسالة الدكتورة فإذا بي أرى له مناما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرني أن أبشره بالجنة، رأيت هذه الرؤيا ثلاث مرات في ليلة واحدة واستيقظت علي إقامة صلاة الفجر فاسترحت تماماً، وعلمت أنها بشري من الله عز وجل، ولكني خشيت أن تكون هذه الرؤية إيذانا بقرب الرحيل، فبكيت كثيراً، ولكني استخرت الله عز وجل أن أخبره بها، فاتصلت به في في العاشضرة صباحاً وكان سعيداً أيما سعادة لاتصالى، ودوداً كعادته سائلا عنى وعن أحوالي، فقلت له غبت عن فضيتك وجئت إليك ببشري من رسول الله فصاح مكبراً الله اكبر الله اكبر بشريني، فقصصت عليه الرؤيا فإذا به يبكى كطفلٍ ملائكي،  ويعلو نحيبه فلم أستطع أن أحتمل الموقف فاغلقت السماعة، و،نا ابكي دون ان انبس ببنت شفة.

كان كلما هم بي أمرٍ ما استشيره،  وأحرص أن أأخذ بنصيحته، فنصائح العلماء تبقي كاللوح المحفوظ في نفسى،  ولا يعلمها خيرها إلا إلا من آتي الله بقلبٍ سليم.

 لم يقدر الله عز وجل لأن يكون لهذا العالم الجليل أبناءٌ من دمه، ولكنه تبني الأمة، في أرقى صنوف التبني الإنساني والرباني في آنٍ واحد حيث قدر الله له أن يكون هذا العالم أباً لأبناء الأمة جميعا، فقد كان بيته بحق روضة من رياض الجنة، وقد أكرمه الله عز وجل بزوجة أحسبها من العطاءات الربانية في حياته، فما رأيت سيدة في بشاشتها وحسن خلقها مع ضيوف هذا العالم لقد كان القاسم المشتري بينهم كبيرا، ومن الأِياء الجميلة التي لا يمكن أن أنساها عشه للغة العربية، فبرغم دراسته للدكتوراة في انجلترا، إلا إننى لا أذكر أني سمعت منه ذات مرة لفظة انجليزية، في حديثه معنا كان حريصا علي أن يعملنا بالعمل لا بالقول، لم يكن وجهاً فضائيا كعادة الكثير من العلماء، فلم تهرع له وسائل الاعلام لأنه اختار أن يعمل في صمت، يربى أجيالا ويقدم نصائحة ومشاريعه وافكاره لتلامذته، دون ضجيج، سمحا في سمته بشوشاً في لقائه بتلامذته وذويه.

يفيض وجهه الربانى بنور يسكن نفس كل من يلتقى به منذ الوهلة الأولى،  كان يحمل بين جنبات قلبه روحاً ثائرة، متأججه في الحق، فلا يخشي في قول الحق لومة لائم، ومع هذه الروح الثائرة تسكن نفسه وداعةٌ ورحمة، وروحٌ ربانية،  قلما نجدها بين الكثير من العلماء العاملين أمثاله، كان تواضعه الجم تجعل تقف حائراً امام هذه الصورة الانسانية التي تتدثر بثوب رباني، فهل نحن بصدد الحديث عن إنسان، أم ملاك في صورة إنسان أم كلاهما معاً، وكيف يمكن تتناول هذه الصفات والسمات الإنسانية، ومن أى الجوانب يمكنك أن تبدأ، فهل تتحدث عن رحمته مع أهله وارتباطه الشديد بأسرته، وحرصة الدائم علي تفقد الكبير والصغير في عائلته، حتي إنك لا تجد منزلة في منطقة المعادي بالقاهرة لا يكاد يخلوا منهم أبدا، أم تتناول سماحته وترفعه عن صغائر الامور، إضافة الي حيويته المتدفقة بالرغم من سنوات عمره المتقدمة، غير أنه دائم الحيوية والنشاط في كل ما يخدم الانسان في دينه ودنياه، ربما يبقي التساؤال الأعظم كيف كان يقوم هذا العالم الجليل بما يقوم به من أعمال في ظل مرحلته العمرية التي تخطت الثمانين عام.

إذن نحن الآن أمام لوحة إنسانية نادرة، مليئة بالتراكيب الحياتية والانسانية، واضحة الهوية والبناء، مملؤة بالأمل والسعي الجاد في نصرة الأمة وبناء الانسان المسلم، متقدة العزم والعزيمة، ربما لا تستطيع كلماتي ان توفي هذا العالم الجليل حقه إنه العالم والإنسان والأب الرحيم الدكتور أحمد العسال، لأنه كان من القليليون الذين لهم أكبر الأثر في حياتي، وسأبقي وفية له بعد رحلية كما كنت من قبل.