شبيب بن يزيد

محمد فاروق الإمام

القائد الخارجي الذي دوخ دولة بني أمية

محمد فاروق الإمام

[email protected]

هو شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت بن قيس بن شراحيل بن صبرة بن ذهل بن شيبان الشيباني. ولد يوم النحر 10 من ذي الحجة سنة 26 هـ/16 تشرين الأول عام 647م, وكان شبيب رجلاً طويلاً أشمط جعداً , وكان يدعي الخلافة. يقول ابن كثير الدمشقي صاحب البداية والنهاية: (ولولا أن الله تعالى قهره بما قهره من الغرق لنال الخلافة إن شاء الله ) ويتسمى بأمير المؤمنين).

كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قد بويع له بالخلافة ويدين له المسلمين من خرسان إلى جبال الأطلسي, وواليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي رجل بني أمية القوي, والمعروف عنه سطوته وقهره وقسوته وجبروته.

كان يزيد يرى رأى الصفرية من الإيمان وهو أنهم قالوا في المعاصي صغارها وكبارها كفر وشرك، ما فيه إلا المغفور منها خاصة, والذي لا يغفره الله يكون كفراً وشركا، حتى اللطمة، وحتى السبّ، وحتى اللطمة الخفيفة، وما أشبه ذلك يسمى كفر وشرك.

ومنها أنهم أيضاً حين يتطرقون إلى الصحابة فيثنون على أبى بكر وعمر ويذمون في عثمان بن عفان ذو النورين رضي الله عنه الذي تستحي منه الملائكة , ويقدحون فيه قدحاً غليظاً.

وكان صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس يرى رأي الصفرية, وقيل إنه أول من خرج من الصفرية كان له جماعة يلوذون به ويعتقدون به، من أهل دارا وأرض الموصل، وكان يعلمهم القرآن ويقص عليهم وكان مصفراً كثير العبادة، وكان إذا قص يحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله، ثم يأمر بالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ويحث على ذكر الموت ويترحم على الشيخين أبي بكر وعمر، ويثني عليهما ثناءً حسناً، ولكن بعد ذلك يذكر عثمان فيسبه وينال منه وينكر عليه أشياء من جنس ما كان ينكر عليه الذين خرجوا عليه وقتلوه من فجرة أهل الأمصار، ثم يحض أصحابه على الخروج مع الخوارج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنكار ما قد شاع في الناس وذاع، ويهون عليهم القتل في طلب ذلك، ويذم الدنيا ذماً بالغاً ويصغر أمرها ويحقره، فالتفت عليه جماعة من الناس.

كان شبيب مقرباً من صالح بن مسرح، وحج بالناس ومعه شبيب بن يزيد، والبطين وأشباههم من رؤوس الخوارج واتفق ذلك حج أمير المؤمنين عبد الملك.

هم شبيب بالفتك بأمير المؤمنين فبلغ عبد الملك ذلك من خبره بعد انصرافه من الحج، فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يتطلبهم.

وكتب شبيب بن يزيد الخارجي إلي صالح يستبطئه في الخروج ويحثه عليه ويندب إليه، ثم قدم شبيب وأخوه مصاد والمجلل والفضل بن عامر، على صالح وهو بدارا فتواعدوا وتوافقوا على الخروج فاجتمع عليه من الأبطال وهو بدارا نحو مائة وعشرة رجال يدينون باعتقاده.

فقام فيهم صالح بن مسرح فأمرهم بتقوى الله وحثهم على الجهاد، وأن لا يقاتلوا أحداً حتى يدعوه إلى الدخول معهم، ثم مالوا إلى دواب محمد بن مروان نائب الجزيرة فأخذوها فنفروا بها، وأقاموا بأرض دارا ثلاثة عشر ليلة، وتحصن منهم أهل دارا ونصيبين وسنجار.

فبعث إليهم محمد بن مروان نائب الجزيرة خمسمائة فارس عليهم عدي بن عدي بن عُميرة، ثم زاده خمسمائة أخرى فسار في ألف من حران إليهم، وكأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. لما يعلموا من جلد الخوارج وقوتهم وشدة بأسهم.

فلما التقوا مع الخوارج هزمتهم الخوارج هزيمة شنيعة بالغة، واحتووا على ما في معسكرهم، ورجع فلّهم إلى محمد بن مروان.

فغضب ابن مروان وبعث إليهم ألفاً وخمسمائة مع الحارث بن جعونة وألفاً وخمسمائة مع خالد بن الحر، وقال لهما‏:‏ أيكما سبق إليهم فهو الأمير على الناس، فساروا إليهم في ثلاثة آلاف مقاتل والخوارج في نحو من مائة نفس وعشرة أنفس. فلما انتهوا إلى آمد توجه صالح في شطر الناس إلى خالد بن الحر ووجه شبيباً في الباقي إلى الحارث ابن جعونة، فاقتتل الناس قتالاً شديداً إلى الليل، فلما كان المساء انكشف كل من الفريقين عن الآخر، وقد قتل من الخوارج نحو السبعين وقتل من أصحاب ابن مروان نحو الثلاثين، وهربت الخوارج في الليل فخرجوا من الجزيرة وأخذوا في أرض الموصل ومضوا حتى قطعوا الدسكرة.

بعث إليهم الحجاج ثلاثة آلاف مع الحارث بن عميرة لمطاردة فلولهم، فسار نحوهم حتى لحقهم بأرض الموصل وليس مع صالح سوى تسعين رجلاً، فالتقى معهم وقد جعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس، فهو في كردوس، وشبيب عن يمينه في كردوس، وسويد بن سليمان عن يساره في كردوس، وحمل عليهم الحارث بن عميرة، وعلى ميمنته أبو الرواع الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، فصبرت الخوارج على قلتهم صبراً شديداً.ثم انكشف سويد بن سليمان، ثم قتل صالح بن مسرِّح أميرهم، وصرع شبيب عن فرسه, فالتف عليه بقية الخوارج حتى احتملوه فدخلوا به حصناً هنالك، وقد بقي معهم سبعون رجلاً، فأحاط بهم الحارث بن عميرة وأمر أصحابه أن يحرقوا الباب ففعلوا، ورجع الناس إلى معسكرهم ينتظرون حريق الباب فيأخذون الخوارج قهراً، فلما رجع الناس واطمأنوا، خرجت عليهم الخوارج على الصعب والذلول من الباب فبيتوا جيش الحارث بن عميرة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب الناس سراعاً إلى المدائن، واجتاز شبيب وأصحابه ما في معسكرهم، وكان جيش الحارث بن عميرة أول جيش هزمه شبيب.

واجتمعت على شبيب الخوارج وبايعوه، فدخل الكوفة ومعه زوجته غزالة، وبعث إليه الحجاج جيشاً آخر فقاتلوه فهزموه ثم هزمهم بعد ذلك، ثم سار فجاز المدائن فلم ينل منهم شيئاً فسار فأخذ دواباً للحجاج من كلوذا، وفي عزمه أن يبيت أهل المدائن فهرب من فيها من الجند إلى الكوفة، فلما وصل فلُّهم إلى الحجاج جهز جيشاً من أربعة آلاف مقاتل إلى شبيب، فمروا على المدائن، ثم ساروا في طلب شبيب فجعل يسير بين أيديهم قليلاً قليلاً، وهو يريهم أنه خائف منهم، ثم يكر في كل وقت على المقدمة فيكسرها وينهب ما فيها، ولا يواجه أحداً إلا هزمه، والحجاج يلح في طلبه ويجهز إليه السرايا والبعوث والمدد وشبيب لا يبالي بأحد وإن ما معه مائة وستون فارساً، وهذا من أعجب العجب.

ثم سار شبيب من طريق أخرى حتى واجه الكوفة وهو يريد أن يحاصرها، فخرج الجيش بكماله إلى السبخة لقتاله، وبلغه ذلك فلم يبال بهم بل انزعج الناس له وخافوا منه وفروا منه، وهم الجيش أن يدخل الكوفة خوفاً منه، ويتحصنوا بها منه حتى قيل لهم إن سويد بن عبد الرحمن في أثرهم وقد اقترب منهم، وشبيب نازل بالمدائن بالدير ليس عنده خبر منهم ولا خوف، وقد أمر بطعام وشواء أن يصنع له فقيل له‏:‏ قد جاءك الجند فأدرك نفسك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك ولا يكترث بهم ويقول للذي يصنع له الطعام‏:‏ أجده وأنضجه وعجل به، فلما استوى أكله ثم توضأ وضوءاً تاماً ثم صلى بأصحابه صلاة تامة بتطويل وطمأنينة، ثم لبس درعه وتقلد سيفين وأخذ عمود حديد ثم قال‏:‏ أسرجوا لي البغلة، فركبها فقال له أخوه مصاد‏:‏ اركب فرساً، فقال‏:‏ لا ‏!‏ حارس كل أمر أجله فركبها ثم فتح باب الدير الذي هو فيه وهو يقول‏:‏ أنا أبو المدله لا حكم إلا لله، وتقدم إلى أمير الجيش الذي يليه بالعمود الحديد فقتله، وهو سعيد بن المجالد، وحمل على الجيش الآخر الكثيف فصرع أميره وهرب الناس من بين يديه ولجأوا إلى الكوفة، ومضى شبيب إلى الكوفة من أسفل الفرات، وقتل جماعة هناك، وخرج الحجاج من الكوفةهاربا ًإلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، ثم اقترب شبيب من الكوفة يريد دخولها، فأعُلم عروة بن المغيرة بذلك فكتب إلى الحجاج يعلمه بذلك فأسرع الحجاج الخروج من البصرة وقصد الكوفة فأسرع السير، وبادره شبيب إلى الكوفة فسبقه الحجاج إليها فدخلها العصر، ووصل شبيب إلى المربد عند الغروب، فلما كان آخر الليل دخل شبيب الكوفة وقصد قصر الإمارة فضرب بابه بعموده الحديد فأثرت ضربته في الباب، فكانت تعرف بعد ذلك، يقال هذه ضربة شبيب، وسلك في طرق المدينة وتقصد محالا لقتال، وقتل رجالاً من رؤساء أهل الكوفة وأشرافهم، منهم أبو سليم والدليث بن أبيسليم، وعدي بن عمرو، وأزهر بن عبد الله العامري، في طائفة كثيرة من أهل الكوفة، وكان مع شبيب امرأته غزالة، وكانت معروفة بالشجاعة، فدخلت مسجد الكوفة وجلست على منبره وجعلت تذم بني مروان‏.‏ ‏

ونادى الحجاج في الناس‏:‏ يا خيل الله اركبي، فخرج شبيب من الكوفة إلى مجال الطعن والضرب، فجهز الحجاج في أثره ستة آلاف مقاتل، فساروا وراءه وهو بين أيديهم ينعس ويهز رأسه، وفي أوقات كثيرة يكر عليهم فيقتل منهم جماعة، حتى قتل من جيش الحجاج خلقاً كثيراً، وقتل جماعة من الأمراء منهم رائدة بن قدامة، قتله شبيب، وهو ابن عم المختار الثقفي، فوجه الحجاج مكانه لحربه عبد الرحمن بن الأشعث، فلم يقابل شبيباً ورجع، فوجه مكانه عثمان بن قطن الحارثي، فالتقوا في أواخر السنة فقتل عثمان بن قطن وانهزمت جموعه بعد أن قتل من أصحابه ستمائة نفس، فمن أعيانهم عقيل بن شداد السلولي، وخالد بن نهيك الكندي، والأسود بن ربيعة، واستفحل أمر شبيب وتزلزل له عبد الملك بن مروان والحجاج وسائر الأمراء وخاف عبد الملك منه خوفاً شديداً، فبعث له جيشاً من أهل الشام. ولم يكن مع شبيب إلا شرذمة قليلة، وقد ملأ قلوب الناس رعباً

وأخرج الحجاج مقاتلة أهل الكوفة وكانوا أربعين ألفاً، وانضاف إليهم عشرة آلاف، فصاروا خمسين ألفاً، وأمر عليهم عتاب بن ورقاء وأمره أن يقصد لشبيب أين كان، وأن يصمم على قتاله - وكان قد اجتمع على شبيب ألف رجل – وأن لا يفعلوا كما كانوا يفعلون قبلها من الفرار والهزيمة‏.‏ ولما بلغ شبيباً ما بعث به الحجاج إليه من العساكر والجنود، لم يعبأ بهم شيئاً، بل قام في أصحابه خطيباً فوعظهم وذكرهم وحثهم على الصبر عند اللقاء ومناجزة الأعداء، ثم سار شبيب بأصحابه نحو عتاب بن ورقاء، فالتقيا في آخر النهار عند غروب الشمس، فأمر شبيب مؤذنه سلام بن  يسار الشيباني فأذن المغرب ثم صلى شبيب بأصحابه المغرب صلاة تامة الركوع والسجود، وصف عتاب، أصحابه - وكان قد خندق حوله وحول جيشه من أول النهار - فلما صلى شبيب بأصحابه المغرب انتظر حتى طلع القمر وأضاء ثم تأمل الميمنة والميسرة ثم حمل على أصحاب رايات عتاب وهو يقول‏:‏ أنا شبيب أبو المدله لا حكم إلا لله فهزمهم وقتل أميرهم قبيصة بن والق وجماعة من الأمراء معه، ثم كر على الميمنة وعلى الميسرة ففرق شمل كل واحدة منهما، ثم قصد القلب فما زال حتى قتل الأمير عتاب بن ورقاء وزهرة بن جون، وولى عامة الجيش مدبرين وداسوا الأمير عتاب، وزهرة فوطئته الخيل‏.‏ وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي‏.‏ ثم قال شبيب لأصحابه‏:‏ لا تتبعوا منهزماً، وانهزم جيش الحجاج عن بكرة أبيهم راجعين إلى الكوفة، وكان شبيب لما احتوى على المعسكر أخذ ممن بقي منهم البيعة له بالإمارة وقال لهم‏:‏ إلى أي ساعة تهربون‏؟‏ ثم احتوى على ما في المعسكر من الأموال والحواصل، واستدعى بأخيه مصاد من المدائن، ثم قصد نحو الكوفة، وقد وفد إلى الحجاج سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ستة آلاف فارس ومعهما خلق من أهل الشام، فاستغنى الحجاج بهم عن نصرة أهل الكوفة، وقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، فلا يقاتلن معنا إلا من كان عاملاً لنا، ومن لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء، وعزم الحجاج على قتال شبيب بنفسه وسار شبيب حتى بلغ الصراة، وخرج إليه الحجاج بمن معه من الشاميين وغيرهم، فلما تواجه الفريقان نظر الحجاج إلى شبيب وهو في ستمائة فخطب الحجاج أهل الشام وقال‏: ‏يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين لا يغلبن باطل هؤلاء الأراجس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب، واستقبلوا بأطراف الأسنة، ففعلوا ذلك، وأقبل شبيب وقد عبأ أصحابه ثلاث فرق، واحدة معه، وأخرى مع سويد بن سليم، وأخرى مع المجلل بن وائل.

وأمر شبيب سويداً أن يحمل فحمل على جيش الحجاج فصبروا له حتى إذا دنا منهم وثبوا إليه وثبة واحدة فانهزم عنهم، فنادى الحجاج‏:‏ يا أهل السمع والطاعة هكذا فافعلوا، ثم أمر الحجاج فقدم كرسيه الذي هو جالس عليه إلى الأمام، ثم أمر شبيب المجلل أن يحمل فحمل فثبتوا له وقدم الحجاج كرسيه إلى أمام، ثم إن شبيباً حمل عليهم في كثيبته فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنة وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلاً، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى‏:‏ يا سويد احمل في خيلك على أهل هذه السرى لعلك تزيل أهلها عنها فأت الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه ‏,فحمل فلم يفد ذلك شيئاً وذلك أن الحجاج كان قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة فارس ردءاً له من ورائه لئلا يؤتوا من خلفهم، وكان الحجاج بصيراً بالحرب أيضاً، فعند ذلك حرض شبي أصحابه على الحملة وأمرهم بها ففهم ذلك الحجاج، فقال‏: ‏يا أهل السمع والطاعة اصبروا لهذه الشدة الواحدة، ثم ورب السماء والأرض ما شيء دون الفتح فجثوا على الركب وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويطعنون وهم مستظهرون على شبيب وأصحابه حتى ردوهم عن مواقفهم إلى ما ورائها، فنادى شبيب في أصحابه يا أولياء الله الأرض الأرض، ثم نزل ونزلوا ونادى الحجاج‏:‏ يا أهل الشام يا أهل السمع والطاعة هذا أول النصر، والذي نفسي بيده وصعد مسجداً هنالك وجعل ينظر إلى الفريقين، ومع شبيب نحو عشرين رجلاً معهم النبل، واقتتل الناس قتالاً شديداً عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد منهم لصاحبه، والحجاج ينظر إلى الفريقين من مكانه، ثم إن خالد بن عتاب، استأذن الحجاج في أن يركب في جماعة فيأتي الخوارج من خلفهم فأذن له، فانطلق في جماعة معه نحو من أربعة آلاف، فدخل عسكر الخوارج من روائهم فقتل مصاداً أخا شبيب، وخرق في جيش شبيب، ففرح بذلك الحجاج وأصحابه وكبروا، وانصرف شبيب وأصحابه كل منهم عل فرس، فأمر الحجاج أن ينطلقوا في طلبهم، فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس، وقتلت غزالة امرأة شبيب قتلها رجل يقال له فروة بن دقاق الكلبي، وكانت أيضاً شديدة البأس تقاتل قتالاً شديداً يعجز عنه الأبطال من الرجال، وكان الحجاج يخاف منها أشد خوف حتى قال فيه بعض الشعراء‏:‏

أسد علي وفي الحروب نعامة * فتخاء تنفر من صفير  الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغا * بل كان قلبك في جناحي طائر

ثم انطلق شبيب واتبعه الطلب فجعل ينعس وهو على فرسه حتى يخفق برأسه، ودنا منه الطلب فجعل بعض أصحابه ينهاه عن النعاس في هذه الساعة فجعل لا يكترث بهم‏.‏ ويعود فيخفق رأسه فلما طال ذلك بعث الحجاج إلى أصحابه يقول‏:‏ دعوه في حرق النار فتركوه ورجعوا.

‏ثم دخل الحجاج الكوفة فخطب الناس فقال في خطبته‏:‏ إن شبيباً لم يهزم قبلها.

وقصد شبيب الكوفة ثانية فخرجت إليه سرية من جيشالحجاج فالتقوا يوم الأربعاء، فلا زالوا يتقاتلون إلى يوم الجمعة وكان على سرية الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي في ألف معه، فحمل شبيب على الحارث ابن معاوية فكسره ومن معه، وقتل منهم طائفة، ودخل الناس الكوفة هاربين، وحصّن الناس السكك فخرج إليه أبو الورد مولى الحجاج في طائفة من الجيش فقاتل حتى قتل، ثم هرب أصحابه ودخلوا الكوفة ثم خرج إليه أمير آخر فانكسر أيضاً، ثم سار شبيب بأصحابه نحو السواد فمروا بعامل الحجاج على تلك البلاد فقتلوه، ثم خطب أصحابه وقال‏:‏ اشتغلتم بالدنيا عن الآخرة، ثم رمى بالمال في الفرات، ثم سار بهم حتى افتتح بلاداً كثيرة ولا يبرز له أحد إلا قتله، ثم خرج إليه بعض الأمراء الذين على بعض المدن فقال له‏:‏ يا شبيب ابرز إلى وأبرز إليك - وكان صديقه – فقال له شبيب‏:‏ إني لا أحب قتلك، فقال له‏:‏ لكني أحب قتلك فلا تغرنك نفسك وما تقدم من الوقائع، ثم حمل عليه فضربه شبيب على رأسه فهمس رأسه حتى اختلط دماغه بلحمه وعظمه، ثم كفنه ودفنه، ثم إن الحجاج أنفق أموالاً كثيرة على الجيوش والعساكر في طلب شبيب فلم يطيقوه ولم يقدروا عليه.

كتب الحجاج إلى نائبه على البصرة – وهو الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل وهو زوج ابنة الحجاج - يأمره أن يجهز جيشاً أربعة آلاف في طلب شبيب، ويكونون تبعاً لسفيان بن الأبرد، ففعل وانطلقوا في طلبه فالتقوا معه‏.‏ وكان ابن الأبرد معه خلق من أهل الشام، فلما وصل جيش البصرة إلى ابن الأبرد التقوا معه جيشاً واحداً هم وأهل الشام، ثم ساروا إلى شبيب فالتقوا به فاقتتلوا قتالاً شديداً وصبر كل من الفريقين لصاحبه، ثم عزم أصحاب الحجاج فحملوا على الخوارج حملة منكرة والخوارج قليلون ففروا بين أيديهم ذاهبين حتى اضطروهم إلى جسر هناك، فوقف عنده شبيب في مائة من أصحابه، وعجز سفيان بن الأبرد عن مقاومته، ورده شبيب عن موقفه هذا بعد أن تقاتلوا نهاراً طويلاً كاملاً عند أول الجسر أشد قتال، يكون ثم أمر ابن الأبرد أصحابه فرشقوهم بالنبال رشقاً واحداً، ففرت الخوارج ثم كرت على الرماة فقتلوا نحواً من ثلاثين رجلاً من أصحاب ابن الأبرد، وجاء الليل بظلامه فكف الناس بعضهم عن بعض، وبات كل من الفريقين مصراً على مناهضة الآخر، فلما طلع الفجر عبر شبيب وأصحابه على الجسر، فبينما شبيب على الجسر نفر فرسه فسقط في الماء. فقال‏:‏ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.. ثم انغمر في الماء ثم ارتفع، وهو يقول‏:‏ ‏‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏‏ [‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏ فغرق‏.‏ فلما تحققت الخوارج من سقوطه في الماء كبروا وانصرفوا ذاهبين متفرقين في البلاد، وجاء أمير جيش الحجاج فاستخرج شبيباً من الماء وعليه درعه، ثم أمر به فشق صدره فاستخرج قلبه فإذا هو مجتمع صلب كأنه صخرة، وكانوا يضربون به الأرض فيرتفع قامة الإنسان.

ولما نعي شبيب إلى أمه قالت‏:‏ صدقتم إني كنت رأيت في المنام وأنا حامل به أنه قد خرج منها شهاب من نار فعلمت أن النار لا يطفئها إلا الماء، وكانت أمه جارية اسمها‏:‏ جهبرة، وكانت جميلة، وكانت من أشجع النساء، تقاتل مع ابنها في الحروب.