عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

سمية موسى الإبراهيم

إعداد : سمية موسى الإبراهيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد .

إهداء

إلى ذلك الوجه الملائكي المهيب ..

إلى تلك العيون الصافنة في أحداث الزمن الغابر ..

إلى ذلك الكاهل الذي أثقلته متاعب الحياة ..

إلى ذلك القلب العامر بحب الله ..

إلى العمر الذي انقضى في الجود والبذل والسخاء ..

إلى الروح التي ما عرفت الضن ولا التواني ولا الأنا ..

إلى التي تتحرك في الخفاء .. وتحترق لتنير الظلام ..

إلى التي جادت بوقتها الثمين .. وجهدها العظيم .. حتى أودعت في قلبي الصغير كتاب الله ..

وبذرت في نفسي الغضة حب الصالحين والصالحات ..

إلى أمي الحبيبة ..

ثم إلى كل أم سارت على خطى أمهات المؤمنين ..

أهدي جهدي المتواضع ..................."

المقدمة ...

في هذا الزمان المتلاطم الأمواج .. الغريب الأطوار .. وقد اختلطت فيه المفاهيم .. وأُسيء فهم المبادئ .. وصعب تطبيق الإسلام ، وغاب الوعي ، والإلمام الحقيقي بالإسلام .. ومواكبته لظروف الزمان ..

فمن متمسك بجهله .. إلى متزمت برأيه .. ومن متعبد لعادات أجداده البالية .. إلى متهور طائش يسير خلف كل ناعق .. سيما ما يمس شؤون المرأة .. وما يدخل في خصوصيات حياتها .. علمها .. بيتها .. رأيها .. ومشورتها ..

من هنا أحببت البحث في حياة المرأة في ظل الإسلام الذي ضمن لها حقوقها كاملة .. وتدخل في أخص خصوصياتها .. وراعى أدق مشاعرها .. ووعد بالجنة لمن أحسن تربيتها .. وجعل الخيرية فيمن أحسن معاملتها ..

فكان بحثي في لب هذا الموضوع .. لم لا ؟ وأنا أطرق بحديثي سيرة سيدة من أعظم سيدات التاريخ .. سيدة عاشت حياتها ومتغيراتها في بيت النبوة الكريم .. وتلقت حقوقها على يد سيد المرسلين .. فهل بعد هذه السيرة المثالية من سبيل ..؟؟  

ما أجمل سيرة حياتك يا عائشة ..!! منذ أن كنت طفلة لاهية مدللة عند أبيها .. أثيرة لدى أمها .. ثم يأتي رسول الله ليقول لها :

ـ يا أم درمان استوصي بعائشة خيراً ..

فتقول : ـ والله لا أزعجها بعد اليوم أبداً .

ثم تزف عروساً صغيرة.. وتدخل عش الزوجية .. وتأخذ معها لعبها الصغيرة ..!! وبين الفينة والأخرى تنادي على صويحباتها ليلعبن معها .. ويتوارى الزوج اللطيف صلى الله عليه وسلم عندما يراها سعيدة مع أترابها .. لئلا يحرجهن فيقطعن اللعب .. أو يغطي وجهه الكريم حين يراها تلهو وحدها في حجرتها ..

ثم حين يخرج من عندها لشؤون الناس .. يرسل لصاحباتها أن يذهبن إليها ليلاعبنها !!

وتنال الحظوة في قلب سيدها وحبيبها .. وهي موقنة بذلك .. ولكنها تحب بين كل حين وآخر أن تطمئن إلى مكانتها في قلبه .. فلا تفتأ تسأله :

ـ أتحب خديجة أكثر مني ؟؟.. كيف محبتك بي ؟؟ وكيف " عقدة الحبل " ..؟

ثم يمتد طمعها به إلى أبعد من ذلك .. فتقول :

ـ هل أنا زوجتك في الجنة ؟؟..

وتأتيها الإجابات شافية لقلبها مطمئنة لبالها .. مفرحة لفؤادها .. ما أعظمك يا رسول الله ..!!

وتمتد الأيام بها ..ويصبح لها ضرائر .. فتنالها الغيرة منهن .. وتكسر صحن حفصة فيضحك لها حبيبها .. ولا يزيد عن أن يقول :

" لاتؤذوني في عائشة .. إني أحب عائشة فأحبوها .. إنها ابنة أبي بكر .."

ويدخل الحبيبان ليغتسلا .. فيتنازعان إناء الماء .. فتصب عليه الماء .. ويصب عليها .. ثم يجلسان على الطعام .. فتعرق العظم .. فيضع فاه على موضع فيها .. ليتذوق ريقها ..!!

ثم يجري بين الضرائر ما يجري من غيرة وحيل .. ويشكين عائشة لرسول الله فيعيد الرسول الرحيم قوله :

" لا تؤذوني في عائشة ......................."!

بل ويسأله سائل من أصحابه أمام الملأ كلهم :

" من أحب الناس إليك ؟ .. فيقول : عائشة ..!

وتخرج معه في غزواته .. وينفرط عقدها ليضيع في الصحراء .. وتبدي لرسول الله حزنها على فقده .. فيوقف جيشاً بأكمله .. ريثما يبحث لها عن العقد الغالي عليها ..

ويعلمها أمور دينها .. ويفقهها .. ثم يقول :

" خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء ""

ما أعظمها من سيرة .. وما أعظمه من حب ..!! وما أوفقه من زواج مبارك .. تخطئ الزوجة القاصرة ويستوعبها الزوج الحكيم .. تارة بحكمته .. وتارة بحبه ..

ولا ينسى الحبيب المصطفى أن يذكر الرجال دائماً بنسائهم : " استوصوا بالنساء خيراً .." و " خياركم .. خياركم لنسائه .. وأنا خيركم لنسائي .."

ألا فليفهم العالم كله أين وضع الإسلام المرأة ..!! وكيف قدم نموذجاً عملياً لمعاملتها .. في كل صور حياتها .. وأدقها .. وفي داخل بيتها .. بل في علاقتها الخاصة مع زوجها ..

ولتخرس ألسنة المتبجحين الذين يدعون فهم الإسلام .. ثم يعاملون المرأة كما كان أهل الجاهلية تماماً .. غير أنهم يُبقون على حياتها .. لا يئدونها .. إنما يتركوها لتموت موتاً بطيئاً ..

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

·        اسمها ونسبها :

هي عائشة بنت الإمام الصدّيق الأكبر ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشية ، التيمية ، المكية ، أم المؤمنين ، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ، أفقه نساء الأمة على الإطلاق .

وأمها : هي أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب الكنانية .

·        مولدها وزواجها :

ولدت عائشة في السنة الرابعة من النبوة ، وعقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة في شوال ، وهي ابنة ست ـ أي قبل هجرته بثلاث سنين ـ ثم تزوجها لما بلغت تسعاً . تقول عائشة رضي الله عنها : " تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست سنين في شوال سنة عشر من النبوة قبل الهجرة لثلاث سنين ، وهاجر رسول الله فقدم المدينة يوم الإثنين لاثني عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ، وأعرس بي في شوال على رأس ثمانية أشهر من المهاجر ، وكنت يوم دخل بي ابنة تسع سنين "

ـ وكان تزويجه بها إثر وفاة خديجة ، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد ، ثم دخل بسودة ، فتفرد بها ثلاثة أعوام ، حتى بنى بعائشة بعد غزوة بدر .

فما تزوج بكراً سواها ، وأحبها حباً شديداً كان يتظاهر به ، [ حيث عمرو بن العاص سأله : أي الناس أحب إليك يا رسول الله ؟ قال : عائشة . قال : فمن الرجال ؟ قال : أبوها ] وهذا خبر ثابت رغم أنوف الروافض .. وما كان رسول الله ليحب إلا طيباً .. فمن أبغض حبيبَي رسول الله فهو حريٌّ أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله ..

ـ قالت عائشة رضي الله عنها : " لما ماتت خديجة ، جاءت خولة بنت حكيم فقالت : يا رسول الله ، ألا تتزوج ؟ قال : ومن ؟ قالت : إن شئت بكراً أو شئت ثيباً ؟ أما البكر ، فعائشة ابنة أحب خلق الله إليك . وأما الثيب ، فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك . قال : اذكريهما عليّ . قالت : فأتيت أم رومان فقلت : يا أم رومان ، ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة ؟ قالت : ماذا ؟  قالت : رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عائشة . قالت : انتظري ، فإن أبا بكر آت . فجاء فقال : أو تصلح له وهي ابنة أخيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أخوه وهو أخي ، وابنته تصلح لي " فقال أبو بكر لها : قولي لرسول الله فليأت . فجاء . فملكها .

تقول عائشة : " فلما قدمنا المدينة ، جاء رسول الله فدخل بيتنا ، فجاءت بي أمي وأنا في أرجوحة ، فأنزلتني ولي جُمَيمة من الشعر ، ففرقتها ، ومسحت وجهي بشيء من الماء ثم أقبلت بي تقودني وأنا ألهث حتى سكن نفَسي ، ثم دخلت بي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا ، فقالت : هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك " .

وقالت عائشة : " تزوجت وأنا ابنة تسع ، فكنت ألعب بالبنات ، ويجئن صويحبات لي فيلعبن معي ، فإذا رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم انقمعن منه ، فكان يدخلهن ليلعبن معي ".

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد على خديجة حتى خُشي عليه ، حتى تزوج بعائشة ، عن حبيب مولى عروة قال : " لما ماتت خديجة رضي الله عنها ـ حزن عليها النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً ، فبعث الله جبريل فأتاه بعائشة في مهدٍ فقال : يا رسول الله هذه تُذهب بعض حزنك ، وإن في هذه خلفاً لك من خديجة .. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إلى بيت أبي بكر ويقول : يا أم رومان استوصي بعائشة خيراً " .

·        فضلها ومكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم :

ـ كانت عائشة رضي الله عنها ممن ولد في الإسلام ، وكانت تقول : لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين . وعائشة نفسها أسلمت وهي صغيرة . بعد ثمانية عشر إنساناً ، فكانت من أوائل المسلمين ..

ـ كانت امرأة بيضاء جميلة ومن ثم يقال لها : الحميراء ، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها ، ولا أحب امرأة حبها ، وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها .. فنحن نشهد أنها زوجة نبينا في الدنيا والآخرة .. وهل فوق ذلك من فخر !..

وإن كان للصديقة خديجة رضي الله عنها شأْوٌ وفضل .. بل ونجزم بأفضلية خديجة .. فقد صرح رسول الله عليه وسلم بذلك لعائشة حين قالت له : قد أبدلك الله خيراً منها . فقال : " ما أبدلني الله خيراً منها ، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الله ، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس " رواه مسلم .

هذا ، ويبقى لعائشة شأوها الخاص .. وكأنها الرفيقة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقد كان حبه عليه السلام لعائشة أمراً مستفيضاً مشتهراً .. بل كان لا يملك أن يساويها مع باقي نسائه في المحبة القلبية حتى قال : " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ".

·        وقال عليه الصلاة والسلام : " إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".

·   وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب على عائشة وضع يده على منكبها وقال : " اللهم اغفر لها ذنبها ، وأذهب غيظ قلبها ، وأعذها من مُضلاّت الفتن " .

·   ومن حديث عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : لما رأيت رسول الله طيّبَ نفسٍ قلت : يا رسول الله ادع لي ، قال : " اللهم اغفر ما تقدم من ذنبها وما تأخر ، وما أسرت وما أعلنت " . وضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها . فقال : أيسرك دعائي ؟ قالت : وما لي لا يسرني دعاؤك ؟! فقال : " والله إنها دعوتي لأمتي في كل صلاة " .

·   وعن عائشة أنها جاءت هي وأبواها . فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا نحب أن تدعو لعائشة بدعوة ونحن نسمع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اغفر لعائشة بنت أبي بكر الصديق مغفرة واجبة ظاهرة باطنة " .

·        وسألت عائشة رسول الله : " من أزواجك في الجنة ؟ قال : أنت منهنّ "

·        وعن مصعب ابن اسحاق قال : أخبرت أن رسول الله قال : " لقد أريتها في الجنة ليُهوّن بذلك عليّ موتي " !

·   وعن عائشة قالت : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : " يا رسول الله كنيت نساءك فاكنني ، قال : اكتن بابن اختك عبد الله .. "

·   وعن ربيعة بن عثمان قال : أسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً . ثم قال لعائشة : " لأنت أحبّ ألي من زُبدٍ بتمرٍ "

·   وعن أنس : " أن رجلاً فارسياً كان جار النبي صلى الله عليه وسلم ، فصنع طعاماً ثم جاء إلى النبي فدعاه وعائشة إلى جنبه ، فقال النبي : وهذه معي ؟ قال : نعم . فذهبت عائشة ".

·   وعن عائشة قالت : " دخل عليّ رسول الله وأنا أبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قلت : سبّتني فاطمة . فدعا فاطمة فقال : يا فاطمة ! ألست تحبين من أحب ؟ قالت : نعم . قال : وتُبغضين من أبغض ؟ قالت : نعم . قال : فإني أحب عائشة ، فأحبيها . قالت فاطمة : فلا أقول لعائشة شيئاً يؤذيها أبداً ".

·        روى عمار بن ياسر ، أنه قال على المنبر يوماً : " إنها لزوجة نبينا في الدنيا والآخرة " .

·   ونال رجل من عائشة عند عمار يوم الجمل ، فقال عمار : " اغرب مقبوحاً ، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! ".

·   وعن مصعب بن سعد قال : " فرض عمر لأمهات المؤمنين عشرة آلاف ، وزاد عائشة ألفين ، وقال : إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

·   وفي إحدى الغزوات في عهد عمر ، قدم عليه در من العراق ، فيه جوهر : فلم يعرف الصحابة ثمنه ولم يدروا كيف يقسمونه . فقال عمر : أتأذنون أن أرسل به إلى عائشة ، لحب رسول الله إياها ؟ قالوا : نعم . فبعث بها إليها .

·   وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة قال: " حدثتني الصدّيقة بنت الصدّيق ، حبيبة حبيب الله ، المبرأة من فوق سبع سموات . فلم أكذبها ".

* * *

ما خصّت به وتفردت عن أمهات المؤمنين

1 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى اللخ عليه وسلم قال : " كمل من الرجال كثير ، ولم يكتمل من النساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".

2 ـ وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال لها : " أريتك في المنام مرتين ، أرى رجلاً يحملك في سرقة من حرير فيقول : هذه امرأتك في الدنيا والآخرة ، فأكشف عنها فإذا هي أنتِ ، فأقول : إن يك هذا من عند الله يُمضه "

3 ـ وتقول عائشة أيضاً : " أعطيت خلالاً ما أعطيتها امرأة بعد مريم ابنة عمران ، وفُضّلت على نساء النبي ولا فخر ، لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ، ولقد تزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري ، وكنت أحب نسائه إليه ، وكان أبي أحب رجاله إليه ، ولم ينكح امرأة أبواها مهاجران غيري ، وإني لابنة خليفته وصدّيقه ، وتزوجني لسبع وبنى بي لتسع ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد كان الوحي ينزل عليه وإني لمعه في لحافه ولم يكن ينزل عليه وهو في لحاف نسائه من غيري ، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في مرضه ، فقال : إنه ليشقُّ علي الاختلاف بينكنّ ، فاذن لي أن أكون عند بعضكن ، فقالت أم سلمة : قد عرفنا من تريد ، تريد عائشة ، قد أذنّا لك . حتى قبض الله نفسه ورأسه في حجري بين سحري ونحري ، وقبرته في بيتي ، ولقد حفّت الملائكة بيتي ، وكان آخر زاده من الدنيا ريقي ، إذ أُتي بسواك ، فقال : انكثيه يا عائشة ، فنكثته وطيبته ، ثم دفعته إليه ، فاستن به كأحسن ما رأيته مُستناً قط ، ثم ذهب يرفعه إلي ، فسقطت يده ، فأخذت أدعو له ، فرفع بصره إلى السماء وفاضت نفسه . فالحمد لله الذي جمعني بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا . ولقد رأيت جبريل ولم تره امرأة غيري ، وأبلغني السلام ولم يبلغ أحداً غيري .

وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد ولم يكن يصنع ذلك مع أحد من نسائه غيري ، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه ، ولم يفعل ذلك مع غيري ، ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً " رضي الله عنها وأرضاها .

4 ـ عن هشام بن عروة عن عائشة قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقدي ، فأقام رسول الله على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء فأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا : ما صنعت عائشة برسول الله وبالناس وليسوا على وضوء وليس معهم ماء ! فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وجدوا العقد ، حتى حضرت الصلاة ولم يكن ماء ، فصلوا بغير وضوء ، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا .

فقال أسيد بن الخضير : ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، جزاك الله خيراً ، فوالله ما نزل بك أمرٌ قط تكرهينه إلا جعل الله لك فيه خيراً ومخرجاً .

وقال أبو بكر : " والله ما علمتُ يا بنية إنك لمباركة ! ماذا جعل الله للمسلمين في حبك إياهم من البركة واليسر .. ".

5 ـ قال حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : " كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة . فاجتمعت صواحبي إلى أم سلمة ، فقلن لها : إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة ، فقولي لرسول الله يأمر الناس أن يهدوا له أينما كان . فذكرت أم سلمة له ذلك ، فسكت فلم يرد عليها ، فعادت الثانية فلم يرد عليها ، فلما كانت الثالثة قال : " يا أم سلمة ، لا تُؤذِيَنِّي في عائشة ، فإنه والله ما نزل عليّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها !" وهذا الجواب منه عليه السلام دالٌّ على أن فضل عائشة أمهات المؤمنين بأمرٍ إلهي وراء حبه لها ، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها .

6 ـ عن الشعبي عن أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " رأيتك يا رسول الله وأنت قائم تكلم دحية الكلبي ، فقال : وقد رأيته ؟ قالت : نعم . قال : لقد رأيت خيراً كثيراً ، ذاك هو جبريل . فسكت قليلاً ثم قال : يا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام . قالت : وعليه السلام ورحمة الله ، جزاه الله من زائرٍ ، ودخيل ، فنعم الصاحب ، ونعم الدخيل " .

7 ـ الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : " قدم وفد الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاموا يلعبون بالحراب في المسجد ، فرأيت رسول الله يقوم على باب حجرتي ليسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم ، ثم يقف من أجلي حتى أسأم وأكون أنا التي أنصرف . فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو " .

8 ـ عن أبي قيس قال : بعثني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة لأسألها " أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبل وهو صائم ؟ فإن قالت : لا ، فقل لها : إن عائشة تخبر الناس أنه كان يُقبل وهو صائم . قالت : لعله لم يكن يتمالك عنها حباً ، أما إياي ، فلا " .

9 ـ عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : " أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير يومي يطلب مني ضَجعاً . فدقّ ، فسمعت الدق ، ثم خرجت ، ففتحت له فقال : ما كنت تسمعين الدقّ ؟ قلت : بلى ، ولكنني أحببتُ أن يعلم النساء أنك أتيتني في غير يومي " .

10 ـ عن المقدام بن شرع ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العظم فأتعرقه ، ثم يأخذه ، فيديره حتى يضع فمه على موضع فمي " .

11 ـ وعن عروة ، عن عائشة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مرضه يسأل : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ ـ يريد عائشة ـ فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء . فكان في بيت عائشة حتى مات عندها ". رضي الله عنها وأرضاها .

غَيرتها

كانت غيرة السيدة عائشة أكثر ما كانت من الراحلة الكريمة السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ وذلك لكثرة ما كانت تسمعه من ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة ، وتفخيمه لشأنها .. فلا عجب من الغيرة إذن .. وقد صرّحت بذلك السيدة عائشة فقالت : " ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها " .

يقول الحافظ الذهبي : وهذا من أعجب شيء أن تغار رضي الله عنها من امرأة عجوز توفيت قبل زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة بمُديدة ، ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي لئلا يتكدر عيشهما ، ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حب النبي صلى الله عليه وسلم لها ، وميله إليها أكثر من غيرها .. فرضي الله عنها وأرضاها ..

وها هي تريد أن تتعرف على مكانتها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالقول الصريح .. فتسأله : " كيف حبك لي ؟ قال : كعقدة الحبل . تقول عائشة : فكنت أسأله دوماً : كيف عقدة الحبل يا رسول الله ؟ فيقول : على حالها " .

وهذا وإن كان يرضيها فلا يكفيها . بل تريد أن تطمئن على جوارها للنبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة أيضاً " فتسأله : من أزواجك في الجنة ؟ فيقول لها : أنت منهن " .

زهدها وكرمها وإنفاقها

* باعت السيدة عائشة رضي الله عنها داراً بمائة الف ، ثم قسمت الثمن على الناس . فبلغ ذلك ابن أختها عبد الله بن الزبير فقال : قسمتِ مائة الف ! والله لتنتهين عن بيعها أو لأحجزنّ عليك . فقالت : لأحجزن أو تحجز عليّ ! لله نذرٌ ألا أكلمه أبداً .

فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة .. وطفق يقبل رأسها ويبكي ويناشدها .. حتى طفقت تبكي وتقول :

ـ إني نذرت والنذر شديد .. فكلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك (أربعين رقبة) .. فكانت تذكر نذرها ذاك بعد ذلك وتبكي حتى تبل خمارها بدموعها ..

*وعن عطاء قال : " بعث معاوية إلى عائشة بطوق ذهب فيه جوهر قُوّم بمائة ألف فقسمته بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ".

* وعن عروة : أن معاوية بعث مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم ، فوالله ما أمست حتى فرّقتها ، فقالت لها مولاتها : لو اشتريت لنا منها بدينار لحماً ؟ قالت : ألا قلت لي !"

* عن أم ذرة قالت : " بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين ، يكون مئة ألف ، فدعت بطبق ، فجعلت تقسم في الناس ، وهي يومئذ صائمة ، فأمست وما عندها منها درهم ، فلما أمست نادت : يا جارية هلمي فطوري ، فجاءتها بخبز وزيت ، فقالت لها أم ذرة : أما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهم ؟ فقالت لها : لا تعنفيني ، لو ذكرتني لفعلت ".

لباسها وزينتها وتجملها

*وإن كانت السيدة عائشة تجود بمالها في سبيل الله ولا تدع لنفسها نصيباً من ذلك ولو قلّ فإنها لا تنسى أن تكون بمظهرٍ حسن ولا تهمل زينتها ولا تبتذل في لباسها ، فقد جمعت بين الجود وجمال المظهر .. رضي الله عنها وأرضاها .. وهاهم أهل زمانها يشهدون لها بذلك ..

عن شميسة : أنها دخلت على عائشة وعليها ثياب صفاق ودرع وخمار قد لُوّنت بعصفر ".

*وعن القاسم قال : " كانت عائشة تلبس الأحمرين : الذهب والمعصفر ، وهي محرمة "

*وعن بكرة بن عقبة : " أنها دخلت على عائشة وهي جالسة في معصفرة ، فسألتها : عن الحنّاء ؟ فقالت : شجرة طيبة ، وماء طهور .. وسألتها عن الحفاف ، فقالت لها : إن كان لك زوج ، فاستطعت ان تقلعي مقلتيك ، فتضعينهما أحسن مما هما ، فافعلي " .

*وعن أم المغيرة " سألت عائشة : عن الحرير ، فقالت : كنا نكتسي ثياباً على عهد الرسول فيها شيء من حرير ".

*وعن أنس : أن محمد بن الأشعث قال لعائشة : ألا نجعل لك فرواً نهديه إليك فإنه أدفأ تلبسينه ؟  فجعله لها ، فأرسل به إليها ، فكانت تلبسه ".

= وقد اشتهرت السيدة عائشة رضي الله عنها بحبها للزينة وبأناقتها وذوقها الرفيع ، لذا كانت نساء المدينة يستعرن بعض ثيابها ليلبسنها عرائسهن يوم زفافهن . قالت عائشة : كان لي درع ألبسه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كانت امرأة تزين لزفافها إلا تستعيره "

بيتها

= كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بنى حجرتين ، واحدة للسيدة سودة ، وواحدة أعدها لاستقبال عائشة ، وكانت بيوته حول المسجد تسعاً ، بعضها من جريد مطيّن وسقفها جريد ، وبعضها من حجارة مرصوصة وسقفها جريد النخل . وكان بابه عليه الصلاة والسلام كان يقرع بالأظافر ، أي لا حلق له . وكان السقف يُنال باليد ، لقلة ارتفاعه .

= وكان باب حجرة السيدة عائشة مواجه للشام ، وكان بمصراع واحد من خشب ، وسقفه منخفض . وكان بيتها رضي الله عنها ، حجرة واحدة من اللبن والطين ، ملحقٌ بها حجرة من جريدٍ مستورة بمسوخ الشعر . وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه باباً في المسجد وجاه باب عائشة .

= أما الأثاث ، بسيط ، سريرٌ من خشبات مشدودة بحبال من ليف ، عليه وسادة من جلد حشوها ليف ، وقربة للماء ، وآنية من فخار لطعامه ووضوءه صلى الله عليه وسلم .

= وعندما أراد الوليد بن عبد الملك ـ هدمها ـ بعد زمن ـ قال : " والله لوددت أنهم تركوها على حالها ، ليقدم القادم من الآفاق ، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، ويكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر في الدنيا ".

جهادها

*ساهمت السيدة عائشة رضي الله عنها في معارك الإسلام الأولى . ففي غزوة أحد خرجت مع النساء تسقي الجرحى ، قال أنس بن مالك : " ولقد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان ينقلان القرب على عاتقهما ثم يفرغانها في أفواه القومك ثم ترجعان فتملآنها .. "

*وها نحن نراها في غزوة الخندق تخترق الصفوف الأمامية ، وتقتحم حديقة فيها جند المسلمين وعمر بن الخطاب . فيقول لها عمر : ما جاء بك لعمري إنك لجريئة ، ما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تراجع .. تقول عائشة : فما زال ينكر علي ويلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ .

*وما خروجها يوم الجمل إلا لتجاهد البغاة الظالمين الذين استباحوا دم سيدنا عثمان رضي الله عنهما ، وإن كانت قد اجتهدت فأخطأت .. فهي مأجورة ..

*وحين لم تتمكن من الجهاد ، كانت تشجع عليه . " فعن عائشة أن مكاتباً دخل عليها ببقية كتابته فقالت له : ما انت بداخل عليّ بعد الآن ، فعليك بالجهاد في سبيل الله ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما خالط قلب امرئ وهج الجهاد في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار ".

حادثة الإفك

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأقرع بيننا في غزوة بني المصطلق فخرج فيها سهمي ، فخرجت معه ، حتى إذا فرغ رسول الله من غزوه وقفل ، وآذنونا بالرحيل .. لمست صدري فإذا عقدي قد انقطع ، فرجعت فالتمسته ، فإذا بالقوم قد حملوا هودجي فرحلوا على بعيره وهم يحسبون أني فيه ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون غلي . فغلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل يتفقد ما وراء الجيش ، فأتاني فعرفني ، ووالله ما كلمني كلمة غير استرجاعه . حتى أناخ راحلته فركبتها فانطلق حتى أتينا الجيش ، وقد هلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبدالله بن أبي بن سلول ، فقدمت المدينة فاشتكيت المرض شهراً ، والناس يفيضون في الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، إنما كان يريبني أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف في مرضي ، إنما كان يدخل فيقول : كيف بنتيكم ؟

حتى خرجت ومعي أم مسطح ليلة ، حتى إذا فرغنا من شأننا عثرت أم مسطح بمرطها ، فقالت : تعس مسطح . فقلت : أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت : أولم تسمعي ما قال ؟ فأخبرتني الخبر .. فازددت مرضاً إلى مرض ، فلما رجعت إلى بيتي .. استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتي أبواي فأذن لي . فقلت لأمي : يا أماه ما يتحدث الناس ؟ قالت : أي بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط حظية عند زوجها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها القول . فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا ترقأ لي دمعة .

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد ، يستشيرهما في فراق أهله . فقال أسامة : هم أهلك ولا اعلم فيهم إلا خيراً . وقال علي : لن يضيق الله عليك والنساء سواها كثير .. فدعا النبي جاريتها بريرة ، فقال : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : لا والذي بعثك بالحق ، إنما كان ما أعيبه لا أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام على عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله ..

قالت عائشة : وبكيت يومي التالي وليلتي لا ترفأ لي دمعة ولا أكتحل بنوم . فبينا نحن جالسون دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسلم ثم جلس عندي وقال : يا عائشة ، إن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت لممت بذنب فاستغفري ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه تاب الله عليه . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ، فقال : والله لا أدري ما أقول .. فقلت لأمي : أجيبي عني ، فقالت : والله ما أدري ما أقول . فقلت : إني والله قد عرفت أنكم سمعتم وصدقتم ، وإني لا أجد ما أقوله لكم إلا قول يعقوب : " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون "

ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وانا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرّئي ، وإني كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني اللخه بها ، ولكن ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يتلى ، ولشأني أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى . قالت : فوالله ما خرج رسول الله من مجلسه حتى أنزل الله تعالى عليه . فلما سُري عنه ضحك وقال : أبشري يا عائشة ، أما إن الله تعالى قد برأك . فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله تعالى الذي أنزل براءتي .. فأنزل إليه : [ إنّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ....] العشر آيات ، سورة النور .

موقعة الجمل والفتنة

بعد أن استشهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، تمت البيعة للإمام علي ، وكانت السيدة عائشة بمكة تؤدي الحج ، فلما خرجت للعودة علمت باستشهاد عثمان ، وسيطرة الثوار على المدينة ، فعادت إلى مكة تطالب بدم عثمان . واجتمع إليها طلحة والزبير ، واتفقوا على الرحيل إلى البصرة .

ولما علم والي البصرة بقدومهم أرسل رجاله يستوضحهم . فقالت لهم عائشة : إنها قادمة لتعرفهم بما فعل الثوار بالمدينة وتبصرهم بما يصلح الأمر . فقيل لها : ألم تبايعوا علياً . قالوا : والسيف على رقابنا . فلاقاهم والي البصرة ودار قتال بينهما قتل فيه ستمائة رجل أما الإمام علي لما علم بخروجهم أرسل لهم القعقاع بن عمرو ، فالتقى بهم واتفق معهم على إقامة الحد على القتلة بعد استتباب خلافة علي . وسرّ علي بهذا الاتفاق ، ولكنه ساء القتلة ، فدبروا أمراً وأغاروا على عائشة ومن معها ، ليظنوا أن علياً غدر بهم فيهاجموه ، ويظن أنهم غدروا به فينشب القتل بين الطرفين . وانتهت المعركة بالنصر لجند الخليفة . ثم نقل السيدة عائشة بهودجها خارج المعركة تأميناً لسلامتها ، أنزلها في دارٍ بالبصرة إلى أن أرادت الرحيل فجهزها ومن معها ، واختار لها أربعين من نساء البصرة كمرافقات تكريماً لها ، واجتمع الناس لوداعها ، وشيعها الإمام علي كرم الله وجهه أميالاً ، ومشى بنوه معها يوماً ..

وقد كان خروج السيدة عائشة إلى البصرة متأولة قاصدة الخير ، وكذلك اجتهد كبار الصحابة وما كانت رضوان الله عليها تظن أن الأمر يبلغ ما بلغ ، وكانت تذكر هذا الأمر وتندم كثيراً .. وما كانت تقرأ . " وقرن في بيوتكن .." إلا بكت حتى تبل خمارها .. رضي الله عنها وأرضاها ..

غزارة علمها

*قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو جمع علم نساء هذه الأمة ، وأزواج النبي ، كان علم عائشة أكثر من علمهن ". وقال عليه الصلاة والسلام : " خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء ".

*وقال أبو موسى الأشعري : " ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط ، فسألنا عائشة ، إلا وجدنا عندها منه علماً ".

*وعن عروة عن الزبير قال : " ما رأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة  ولا بفقه ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بطب ولا بحديث العرب ولا بنسب من عائشة رضي الله عنها ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلاً"

*وكان عروة يقول لها : " يا أمتاه ، لا أعجب من فقهك ، أقول زوجة نبي الله ، ولا أعجب من علمك الشعر وأيام العرب ، أقول : ابنة أبي بكر ، إنما أعجب من علمك بالطب ، فمن أين هو ؟ فضربت على منكبه وقالت : إن رسول الله كان يسقم عند آخر عمره ، فتقدم عليه وفود العرب تنعت له الأنعات ، وكنت أعالجه له ، فمن ثم حفظتها ".

*وعن مسروق ، قيل له : هل كانت عائشة تحسن الفرائض ؟ قال : والله لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض .

ودخل معاوية على عائشة فكلمها ، فلما قام قال : والله ما سمعت قط أبلغ من عائشة إلا رسول الله . وقال الأحنف ، سمعت خطبة أبي بكر ، وعمر وعثمان وعلي والخلفاء بعدهم ، فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا احسن منه من فيِّ عائشة.

وعن الشعبي : أن عائشة قالت : رويت للبيد نحواً من ألف بيت .

فكان الشعبي يذكرها ، فيتعجب من فقهها وعلمها ، ثم يقول : ما ظنكم بأدب النبوة ؟! قال عطاء بن رباح : كانت عائشة أفقه الناس ، واحسن رأياً في العامة وسأل معاوية زياداً : أي الناس أبلغ ؟ قال : أنت يا أمير المؤمنين . قال : أعزم عليك . قال : إن عزمت فعائشة .

بعض أسئلتها لرسول الله ، وشيء من رواياتها

*قول عائشة : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : [ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ] أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ فقال : لا يا بنت الصدّيق . ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم " .

*وخرج رسول الله حاجاً إلى مكة ، وقدمت عائشة معه وهي حائض ، فلم تطف بالبيت ، فشكت ذلك إلى رسول الله . فقال لها : " أهلِّي بالحج ودعي العمرة ، ففعلت ، فلما قضت الحج ، أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم لتحرم للعمرة ، فقال لها : هذا مكان عمرتك "

*وعنها رضي الله عنها قالت " سألت النبي عن الجهاد . فقال : جهادكنّ الحج".

= وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل سؤالها على حرصها على تعلم وتفقه أمور دينها رضي الله عنها .

ومن أقوالها وعالي رواياتها :

*قالت السيدة عائشة " أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها : الشبع ، فإن القوم لما شبعت بطونهم ، سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم ، وجمحت شهواتهم " .

*بلغ عائشة " أن ناساً يسبون أبا بكر وعمر . فقالت : إن الله قطع عنهما العمل فأحب أن لا يقطع عنهما الأجر ".

*وسألت عائشة : " متى يكون الرجل مسيئاً ؟ قالت : إذا ظنّ أنه محسن ".

*وحكت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : "  ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة قط ، ولا ضرب خادماً قط ، ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما انتقم إلا أن تنتهك محارم الله " .

احتضارها .. وصاياها .. وفاتها

*جاء ابن  عباس . يستأذن على عائشة وهي في الموت ، فقالت لهم : لا حاجة لي به . أخشى أن يثني علي . فقيل لها : إنه من صالحي نبيك يودعك . فأذنت له . فدخل فقال لها : أبشري بلقاء محمد والأحبة وجعل يزكيها ويثني عليها . فقالت له : دعني عنك يا ابن عباس . فوالله لوددت أني كنت نسياً منسياً .

*وروي أنها قالت عند احتضارها : " إذا كفنت وحنطت ، ثم دلاني ذكوان ـ مولاها ـ في حفرتي وسوّاها عليّ ، فهو حرّ ! "

*وأوصت عائشة : " ألا تتبعوا سريري بنار ، ولا تجعلوا تحتي قطيفة حمراء ".

*وكانت عائشة " تحدث نفسها أن تدفن في بيتها ، فقالت : إني أحدثتُ بعد رسول الله حدثاً ، ادفنوني مع أزواجه ، فدفنت بالبقيع " ـ تقصد حادثة الجمل ـ .

*وقالت لعبد الله بن الزبير : " ادفني مع صواحبي ، ولا تدفني مع النبي صلى الله عليه وسلم في البيت فإني أكره أن أزكى ".

وفاتها

*ماتت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ليلة الثلاثاء سبع عشرة ، من شهر رمضان ، سنة ثمانٍ وخمسين ، بعد صلاة الوتر ، فأمرت أن تدفن من ليلتها . فاجتمع الناس وحضروا فلم نر ليلة أكثر ناساً منها . فدفنت بالبقيع .

*وقال : رأيت ليلة ماتت عائشة حُمل معها جريد فيه نار ليلاً ، ورأيت النساء بالبقيع كأنه عيد .

*وقال نافع : شهدت أبا هريرة صلى على عائشة بالبقيع ، وكان خليفة مروان على المدينة وقد اعتمر تلك السنة فاستخلف أبا هريرة .

*وقال مسروق : لولا بعض الأمر لأقمت المناحة على أم المؤمنين .

*وسئل رجل : كيف كان وجد الناس على عائشة ؟ قال : أما إنه لا يحزن عليها إلا من كانت أمه .

.. مدة عمرها .. ثلاث وستون سنة وأشهر .

وبعد ..

رحم الله أمنا عائشة رضي الله عنها وجزاها الله عن الإسلام والمسلمين خير جزاء ..

فقد قدّمت وأجزلت .. وتفانت .. وأحسنت البلاء ..

وأدت الرسالة .. وبلغت الأمانة .. ونصحت الأمة .. وسطرت لنا في صفحات التاريخ نموذجاً رائعاً للمرأة الصالحة العابدة .. والزوجة الأثيرة .. والأم الحانية .. والمجاهدة الصامدة .. والعالمة الفقيهة ..

فهل من مقتفٍ لهذا الأثر !..

نداءٌ وأمل لبنات الجيل الصاعد ..

أن نقتبس من تلك الشُّعل الوضّاءة

لننير بها طريق حياتنا اللاحب ..

              

المراجع :

الكتاب                                المؤلف

1 ـ موسوعة حياة الصحابيات .. محمد سعيد مبيض

2ـ سير أعلام النبلاء .. ج 2  الإمام شمس الدين الذهبي

3 ـ صفة الصفوة ..             للإمام ابن الجوزي