عبد الكريم الكرمي

عبد الكريم الكرمي

(أبو سلمى)

(1327–1400 هـ) (1909–1980 م)

حسني جرار

   * تقديم

  * نشأته وحياته

  * أديبٌ منذ نشأته

  * شعره

  *شعره الوطني

  * الجانب الإنساني والاجتماعي في شعره

  * نشاطه وإنتاجه الأدبي

   *قصائد مختارة من شعره

 تقديم

عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) .. شاعر فلسطين الكبير .. وعَلَمٌ من أعلام الأدب المعاصر .. له مكانة بارزة في الأدب العربي ، شعراً ونثراً .. وله دور كبير في مجال النقد الأدبي ، ومجال النقد الاجتماعي ..

كان من فحول الشعراء الذين أنجبتهم فلسطين .. وفي طليعة الأدباء الذين وقفوا مع شعبهم وأمتهم ، ودافعوا عن وطنهم ، والتزموا بقضاياه المصيرية .. وكان له دور فعّال في مقاومة الاستعمار ، ومناصرة الشعوب في كفاحها من أجل حرّيتها ..

نشأته وحياته

ولد عبد الكريم بن سعيد بن علي الكرمي في مدينة طولكرم بفلسطين عام 1909م ، وعاش في أسرة اشتهرت بالعلم والدين والأدب ، فقد نبغ عدد من أفرادها كعلماء وأدباء ، فهو شقيق الأديبين أحمد شاكر الكرمي وحسن الكرمي .. ووالده الشيخ سعيد الكرمي عالم مشهور ، وأحد طلائع رجال النهضة العربية المعاصرة .. كان فقيهاً بالدين واللغة ، وشاعراً وأديباً يجيد الخطابة .. وكان أحد ثمانية تأسّس منهم المجمع العلمي العربي بدمشق ، ونائباً لرئيس المجلس .. وعمل من بعد سنة 1922م قاضياً للقضاة في حكومة " شرق الأردن " ، ثم رئيساً لأول مجمع علمي في الأردن ، وتوفي في طولكرم سنة 1935م .

وكان الشيخ سعيد شديد العطف على ابنه عبد الكريم ، وكان يحرص على أن ينشأ على أفضل الصّفات وأكمل السّجايا .. وقد ترعرع عبد الكريم على هذا العطف ونشأ على تشجيع والده له ، وتغذّى بلبان العلم والأدب .

تلقى عبد الكريم دراسته الابتدائية في مدرسة طولكرم الحكومية .. وفي عام 1918م انتقل إلى دمشق ، وواصل دراسته .. وفي دمشق كان يحضر مجلس والده ، وفيه أهل علم وأدب ، فكان يستفيد كثيراً من مجالس العلم ، ويقرأ الكتب الأدبية النافعة .. وقد أتاحت له مجالس العلم هذه تكوين خبرة اجتماعية وإثراء ثقافته وتكامل شخصيته ..

وفي منتصف عام 1922م غادر والده دمشق إلى عمان حيث أصبح قاضياً للقضاة ورئيس مجلس المعارف ، فانتقل معه ، ودرس سنة واحدة في مدرسة السّلط الثانوية.. ثم غادر عبد الكريم إلى دمشق ليلتحق بمدرسة التجهيز الأولى ( مكتب عنبر ) .. وخلال دراسته في المكتب تعرّف إلى فتاة تدعى ( سلمى ) فأحبّها ونظم فيها قصيدة ، وحين علم أساتذته بذلك كنّوه بأبي سلمى([1]) .

وبعد حصوله على شهادة البكالوريا السورية عام 1927م ، قصد بيت المقدس، وعُيّن معلماً في المدرسة العمرية ، ثم انتقل إلى المدرسة البكرية ، ثم المدرسة الرشيدية .. وانتسب إلى معهد الحقوق في القدس حيث نال منه شهادة المحاماة .

وفي عام 1936م أقالته السّلطات البريطانية من التدريس ، فقد نظم قصيدة نشرتها مجلة الرسالة القاهرية بعنوان ( يا فلسطين ) هاجم فيها السلطات البريطانية لعزمها على إنشاء قصر للمندوب السامي البريطاني على جبل المكبّر الذي زاره الخليفة العادل عمر بن الخطاب .. فاستدعاه مدير التعليم البريطاني ( مستر فرل ) ، وأبلغه قراره بفصله من العمل ..

وبعد أن فقد أبو سلمى وظيفته التعليمية بالقدس ، ضمّه صديقه إبراهيم طوقان إلى دار الإذاعة الفلسطينية ، واستمرّ يعمل في جهازها الإعلامي إلى أن استقال من عمله ..

وفي عام 1943م قصد أبو سلمى مدينة حيفا وافتتح مكتباً زاول فيه مهنة المحاماه ، وبدأ عمله بالدفاع عن المناضلين العرب المتهمين في قضايا الثورة الفلسطينية .. وأصبح في فترة قصيرة محامياً مرموقاً في فلسطين ، وظل يعمل في حقل المحاماة حتى عام 1948م ، حيث اضطر إلى مغادرة حيفا نازحاً إلى دمشق ... وهناك زاول مهنة المحاماة والتدريس ، ثم عمل بوزارة الإعلام السورية .. وأسهم في العديد من المؤتمرات العربية والآسيوية والإفريقية والعالمية .

وفي عام 1980م وافته المنيّة ، ودفن في دمشق([2]) .

 أديبٌ منذ نشأته

كان عبد الكريم منذ صغره يحضر مجلس والده – وفيه أهل علم وأدب – ويستفيد كثيراً من هذا الحضور ، الذي أتاح له تكوين خبرة اجتماعية وثقافية كبيرة... فكان يلقى التشجيع من والده على حفظ الشعر الجيد ... وكثيراً ما كان يطلب منه أن يلقى على مسامع الحضور في المجلس آخر قصيدة حفظها ، ويقوم بتشجيعه على إبراز مواهبه التي بدأت في الظهور في سن مبكرة ، ويكثر من توجيهه إلى حفظ الشعر الجيد ، ليقوى على نظم الشعر ..

ومن الشخصيات التي أثّرت في ثقافة عبد الكريم الأدبية أخوه الناقد الفلسطيني ( أحمد شاكر الكرمي ) فقد تلقى أبو سلمى الدّربة والصّقل الأدبي على يديه ولقي منه التشجيع ، وتعرّف عن طريقه إلى العديد من الكتّاب والأدباء السّوريين والعرب ..

وكان أيضاً دور واضح في التأثير لمدرسة عنبر التي خرّجت عدداً من الشعراء والأدباء .. ففي هذا المعهد لقي أبو سلمى من معلّميه الرعاية والتنشئة الأدبية الصالحة .. وبهذا نرى أن عبد الكريم قد تغذّى بلبان العلم والأدب منذ صغره .. واستطاع أن يكوّن نفسه تكويناً أدبياً وثقافياً جيداً .. وصار وثيق الصلة بالأدب وبالثقافة العربية القديمة والحديثة والمعاصرة . وقد امتدت ثقافته العامة إلى الأدب العالمي عن طريق اللغة الفرنسية التي يتقنها ، والمؤتمرات الأدبية والثقافية والسياسية التي حضرها في كثير من أقطار العالم .. أضف إلى ذلك صلته الوثيقة بالأدباء والشعراء في الوطن العربي وفي أقطار العالم الأخرى .

 شعره

أبو سلمى .. شاعر وأديب من جيل الشعراء الرّواد الذين سجّلوا بأمانة وصدق أحداث وطنهم وأمتهم ، وأسهموا بالكلمة الحرّة الجريئة في قضايا تلك الأحداث .. شعره يتّسم بالوضوح ، والمعنى النبيل ، والنغمة الأخاذة ، واللغة المتينة ، ويتوافر فيه الخيال المبتكر .. يحس القارئ لشعره بدفء الكلمة وقوّة التعبير وصدق الانتماء..

نظم شعره في مجالات كثيرة ، وجوانب متعدّدة .. ففيه الشعر الوطني الذي نظمه لفردوسه المفقود بخاصة ، ولوطنه العربي بشكل عام . وفيه الشعر الإنساني والاجتماعي ، والرّثاء والأناشيد ، والحب والغزل ، وغير ذلك من فنون الشعر . وقد نظم قصائد رائعة ، كل واحدة منها كأنها لوحة رسمتها يد فنّان عبقري ...

يقول أبو سلمى عن شعره :

شِـعْـريَ  جِسْرٌ يلْتقي iiفوقَه
يَـعْبَقُ  شِعْري بِشَذا iiموطني
يا وطني !.. لا تَأْسَ إنّا على
تَـغْـنى الزَّعاماتُ وأشباهها



أهـلي  بما يَحْلو وما iiيَشْجُن
لـولاهُ لا يـزكو ولا iiيَحْسُن
عَهْدِكَ  ، مهما طالت iiالأزْمن
والخالدان : الشّعْبُ iiوالمََوْطِن

لقد أراد أبو سلمى للشعر أن يكون فنّاً جماهيرياً شعبياً يصوّر كل إحساسات الشعب ومعاناته ، وما يجري حوله من أحداث .. فشعره يكاد يكون سجلاً للنكبة بكل أبعادها .. وهو يفرّق بين الشعر الملتزم بقضية شعبه والشعر المأجور ، ويضع حدّاً فاصلاً بين نوعين من الشعر فيقول : الشّعر كالناس في الكون حرف حرٌّ وحرف ذليل ، وإنّ الشعر الحق هو الشعر الملتزم بقضايا الجماهير وآلامها وآمالها ..

كيف يمشي القلم المأجور في ساحة تجتاحها النار اجتياحا

في صرير القلم الحُرّ صدى ثورة الشعب هتافاً وصداحا

حاربوا الظلم مدى الدهر إلى أن يرفّ الكون طهراً وصلاحا

وإذا المستعمرون انتشروا يملأون الأرض جوراً واجتراحا

حرّروا الدّنيا من استعمارهم شرف الإنسان أن يقضي كفاحا([3])

 ثم يخاطب رواد الشعر في العالم العربي فيدعوهم إلى النهوض بمسؤولية الشعر في الذود عن حقوق الإنسان ، وأن يهبطوا من أبراجهم العاجية ويتحملوا مسؤولياتهم بحماية شرف الحرف المضيء وراية الشعر المناضل([4])  :

أيها الحاملون ألوية الشعر تهاوى الستار والتمثيل

إن تشريد شعبنا يخضب الشعر وتدمى حروفه والنّصول

فاهبطوا لا ترابطوا في البروج البيض فالشعر كلّه مسؤول

شرف الحرف أن يذود عن الحق فإن رمتمُ المقال فقولوا

إنه الحرف جلّ أن يشتريه حاكم ظالمٌ وعلجٌ دخيل

هذا هو شاعرنا أبو سلمى .. وهذا رأيه في الشعر والشعراء أما رأي الأدباء في شعره ، فيقول الأستاذ أكرم زعيتر : إلتقينا في دمشق " أكرم زعيتر ، وبدوي الجبل، وعبد الكريم الكرمي " .. وأذكر أن أبا سلمى أهدى لبدوي الجبل (الفلسطينيات) فقرأ بعضها ثم تناول القلم والورق ودبّج :" إن شعرك كالعطر ، أرجُه يثني عليه ، ويهدي إليه . حزن شعرك على فلسطين حزن هادئ وجيع ، إنه حزن الثاكلات ، لا حزن النائحات . جمال شعرك في حزنه ، إنه لا يلطم الصّدور ، ولا يبالغ في الصّراخ ، بل هو حزن هادئ لأنه عميق ، ومحبب لأنه صادق ، وسريع العبور إلى الضمائر لأنه نابع من ضمير . إن جراحك في شعرك هي التي تبكي ، لا مقلتاك ، والمصيبة عندما تكبر في هولها وغمراتها ، تكبر كذلك في سجيتها وشمائلها ، فلا تكون دموعاً مبهرجة ، ولا دعاية مهرّجة . سلمت العبقرية التي ينبع منها شعرك ، ولا أقول سلمت الأحزان التي يعبق منها سحرك "([5]) .

  شعره الوطني

بعد الحرب العالمية الأولى ، وسقوط الخلافة العثمانية ، تمزّق الوطن العربي إلى أقطار ودويلات خاضعة للاستعمار ، وأصبحت فلسطين جزءاً منفصلاً عن الكيان العربي ، خاضعاً للانتداب الانجليزي . وبدأ العمل منذ ذلك الحين على تنفيذ الاستعمار الانجليزي الصهيوني المزدوج على فلسطين ، مما جعل الإنسان العربي الفلسطيني يبحث عن ذاته العربية ويعمل على إثباتها بنضاله الوطني خلال العقد الثاني والثالث والرابع من القرن العشرين .. وأصبحت مأساة فلسطين وما تزال الجرح الدامي الذي لن يندمل في نفوس الشعراء ..

وهبّ الشعراء من أبناء فلسطين ليأخذوا مكانهم الطليعي ، ودورهم في كشف وفضح التآمر والتلاحم بين الاستعمار والصهيونية ، ففتحوا عيون الناس على واقعهم السّيء ، ووضعوهم أمام مسؤولياتهم ..

وكان شاعرنا ( أبو سلمى ) واحداً من الشعراء الذين تصدوا لتوجيه وإرشاد شعبهم وأمتهم .. وأخذوا يحذرون الناس ، ويفضحون أمامهم المؤامرات الشريرة على وطنهم ... وبذلك غدا الشعر الفلسطيني مَعْلماً من معالم الوعي في فلسطين ، ومظهراً من مظاهر يقظة أهلها .

وبقدر ما كان الشعر العربي في فلسطين دعوة لانتصار الحق والعدل في فلسطين، فقد كان في الوقت نفسه ، تمجيداً لحركات التحرير في البلاد العربية وإشادة بالبطولة والبسالة التي أبداها المناضلون من أبناء الوطن العربي وهم يقدّمون أرواحهم في سبيل بلادهم([6]) ..

وعاش شاعرنا ( أبو سلمى ) هموم شعبه قبل النكبة ، وتجرّع مرارة الغربة.. وواكب النكبة مرحلة بعد مرحلة .. وسجّل الأحداث ، وتصدّى لمفاهيم الثورة والجهاد ، وتغنى بحب الوطن ... والتصق شعره بالأرض وتشبّث بالقرية والمدينة والشارع وما تحمله تلك الأماكن من أسماء اقترنت بلحظات وذكريات ظلت تعيش في مخيلته .. وتحولت فلسطين عنده إلى رمز ، لأنها مرتبطة بالصّراع العربي ضد الاستعمار ، وبالهموم العربية كلها .. ففلسطين عند أبي سلمى همٌّ خاص ، لكنه همّ عربي ، وهو يعيش هذه القضية بكل جوارحه ويريد أن يعيشها كل عربي بكل جوارحه .. وهكذا تأخذ فلسطين حجمها الحقيقي ، وتظل همّاً وطنياً .

لقد كان شعر أبي سلمى الوطني تصويراً أميناً للحالة السّيئة التي تردّى إليها وطنه ، وذلك بعد تنفيذ المؤامرة الاستعمارية الصهيونية ضد فلسطين ، والتي شاركت فيها عصبة الأمم في التغطية على الاستعمار وإخفاء حقيقته ..

فتناول أبو سلمى عصبة الأمم التي أقرّت الانتداب البريطاني على فلسطين ، وناقش سياستها المتناقضة ، ومبادئها المزيّفة ، فقال في قصيدة بعنوان " المشرّد"([7]):

قم  تأمل ترَ الشّعوب iiيجرّون
بـينهم  عصبة الأراقم iiتسعى
حرّموا الظلم بينهم واستراحوا
كـل يـوم لـجـنـة فكتابٌ



قـيـوداً  مـن الحديد iiالمثلّم
كـلـما  غاب أرقمٌ لاح iiأرقم
ولـديـنـا يـحلّلون iiالمحرّم
لا  تـرى فيه غير ظلم منظم

وأبو سلمى الذي كان على صلة بثورة القسّام عام " 1935م " ... والذي كان يتتبع دروسه التي كان يلقيها في جامع الاستقلال بحيفا .. يلهب المشاعر ، ويهزّ العواطف ويحشد الأماني وهو يرى ثوار فلسطين " 1936م " يفدون الوطن بالدماء والأرواح ، ويواصلون الثورة .. وتستعمل الحكومة البريطانية كل وسائل الإرهاب والتنكيل لقمع الثورة وإخمادها .. وتصدر محكمة حيفا العسكرية حكمها بالإعدام على المجاهد الشيخ فرحان السعدي – أحد رفاق الشيخ القسّام – وذلك في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان عام 1356هـ الموافق للرابع والعشرين من تشرين الثاني 1937م وكانت التهمة الموجهة إليه ، هي حيازة أسلحة . وقد رفضت المحكمة الاستماع إلى مرافعة المحامين ، كما رفضت شهود النفي .. ولهذا امتنع الشيخ الصائم عن الكلام ..

ويخلّد أبو سلمى ذكرى استشهاد الشيخ المجاهد في قصيدته المعروفة " بلهب القصيد " .. والتي يقول فيها ([8]) :

 أنشرْ على لهب القصيد شكوى العبيد إلى العبيد

شكوى يردّدها الزّمان غداً إلى الأبد الأبيد

سُحقاً لمن لا يعرفون سوى التعلّل بالوعود

 *   *   *

قوموا اسمعوا من كل ناحية يصيحُ دم الشّهيد

قوموا انظروا القسّام يُشرق نوره فوق الصّرود

يومي إلى الدّنيا ومَنْ فيها بأسرار الخلود

قوموا انظروا فرحان فوق جبينه أثر السّجود

يمشي إلى حبل الشهادة صائماً مشي الأسود

سبعون عاماً في سبيل الله والحقّ التّليد

خجل الشباب من المشيب بل السّنون من العقود

 ويصوّر أبو سلمى جرائم الانجليز في فلسطين وما ارتكبوه من مظالم وهم يخمدون الثورة فيقول :

 هل تشهدون محاكم التفتيش في العصر الجديد

قوموا انظروا الأهلين بين الوعد ضاعوا والوعيد

ما بين ملقىً في السّجون وبين منفيٍّ شريد

أو بين أرملة تولول أو يتيم أو فقيد

أو بين مجهول يرى عصف المنون من النشيد

قوموا انظروا الوطن الذبيح من الوريد إلى الوريد

تتزاحم الأجيال دامية الخُطى حول اللّحود

  ولمّا عزمت السلطات البريطانية في عام 1936 على إنشاء قصر للمندوب السامي البريطاني على جبل المكبّر المشرف على مدينة القدس – وهو الجبل الذي وقف عليه الخليفة عمر بن الخطاب وكبّر قبل دخول القدس .. نظم أبو سلمى قصيدة نارية بعنوان " يا فلسطين " هاجم فيها السلطات البريطانية .. فاستدعاه مدير التعليم البريطاني ( مستر فرل ) ، وسأله : هل أنت ناظم قصيدة " جبل المكبر " .. فردّ بالإيجاب ، ففصله من العمل .. وهذه أبيات من القصيدة التي روّعت الحكومة البريطانية في ذلك الحين([9]) :

ثوري ولو فرش الذين طغوا على
إيـهٍ  فلسطين اغضبي iiوتحرّري
*              *              *
أمـهـلتِ ظالمكِ العتلّ وما iiدرى
جبلَ  المكبّر .. طال نومكَ iiفانتبِهْ
فـكـأنـما الفاروق دوّى iiصوته
جـبـلَ  الـمكبر لن تلين iiقناتنا






طـرق الـجـهاد أسنةً iiونصولا
ضـاعت  حقوقكِ بين قال iiوقيلا
*              *              *
أنّ الـتـهـامس يستحيل iiصليلا
قـم  واسـمـع التكبير iiوالتّهليلا
فـجـلا  لـنا الدّنيا وهزّ iiالجيلا
مـا لـم نـحـطّم فوقك البستيلا

وكان أبو سلمى يعشق فلسطين وأرض فلسطين .. وعشقه لهذه الأرض يتضح في التغني بمظاهرها وصفاتها ، وبأشجارها وأعشابها ، وبشمسها وكواكبها ، بنداها وعطورها ، بأزهارها وسواقيها .. وهو إذ يرمز لهذه الأرض بالمرأة فإنما ليعطي صورة التداخل في العشق بين فتاة بلاده في سماتها وملامحها والأرض التي هي رمز العطاء والحُبّ والخِصْب المثمر ..

استمع إليه وهو يقول ([10]) :

 ولأبي سلمى قصائد جميلة ومؤثرة قالها في الرثاء .. منها قصيدته في رثاء القائد المغوار محد صالح الحمد المكنى " بأبي خالد " ، الذي استشهد في معركة خاضها ضد الإنجليز بين رام الله ونابلس ، في 18/5/1938 وشيعته فلسطين إلى قرية ( سيلة الظهر ) بمنطقة جنين .. فنظم أبو سلمى هذه القصيدة التي أصبحت نشيداً للثوار الذين قطعوا العهد على الثأر .. وقال فيها ([11]) :

وقـفـتُ أناجي "سيلة الظهر" iiباكيا
أبـو  خالد يا "سيلة الظهر" .. iiخالدٌ
يَـمـتُّ إلى "القسّام" بالنورُ والهدى
سـنـثـأر  مـا عشنا ويثأر iiبعدنا
فيا دهر لا تغلق على المجد واستمع




وأذلـلـت دمعي بعدما كان iiعاصيا
يُـزَفُّ إلـى الـعـلياء سيفاً يمانيا
ولـمّـا  يـزلْ فـينا إماماً iiوهاديا
بـنـونـا بثورات تشيب النّواصيا
ألـوف الـضحايا تقرعُ الباب iiثانيا

الجانب الإنساني والاجتماعي في شعره

أبو سلمى شاعر أديب .. نظم شعره في جوانب متعدّدة .. منها الجانب الإنساني والجانب الاجتماعي ..

ففي الجانب الإنساني نجد في شعر أبي سلمى سمات وملامح إنسانية ، فهو يغنّي لقضية التحرّر العالمي ، ويريد الحرية لوطنه كما يريدها لسائر الشعوب والأوطان .. وقد كان لإسهامه في المؤتمرات الدولية الأدبية منها والسّياسية ، أن فُتحت أمامه آفاق واسعة يطلّ منها على ثورة الإنسان المعاصر ضد الظلم والاستغلال..

ولإبراز الجانب الإنساني في شعر أبي سلمى لابد أن نتتبع مواقف الشاعر من قضايا العلاقات الإنسانية ، وقضايا الحروب العدوانية والعنصرية ، وأن نتلمّس في بعض قصائده الإنسانية شيئاً من عناصر الوطنية ..

ففي قصيدته " رمضان السّمح الكريم " يذكر المسلمين في كافة بقاع الأرض بالمعاني السّامية التي تستوحى من هذا الشهر الفضيل ، ففيه تجربة روحية يدرك الإنسان عن طريقها ما بينه وبين الآخرين من ترابط لا فرق في ذلك بين أبيض وأسود وبين جنسيّة و أخرى .. فقد وحّد بينهم هذا الشهر وربط قلوبهم برباط مكين ، يتلاقون فيه على طريق واحد وشعور واحد يرقى بهم إلى أعلى مستويات المحبة الإنسانية ...

 وفي الجانب الاجتماعي من شعر أبي سلمى نراه وقد استأثرت قضية تحرير الإنسان الفلسطيني والعربي من الاستغلال والاضطهاد باهتمامه .. فينظم قصيدة بعنوان " الشعب " يتحدّث فيها عن الطبقات الفقيرة المسحوقة ويلقيها في المؤتمر الثالث للعمال العرب الذي عقد في يافا بتاريخ 6 أيلول 1947م ، فيقول([14]) :

يا  أيها الشعب iiالمُفدّى
يـتدفق العذبُ iiالزّلال
تـكسوهم حُلَل iiالرّبيع
أنت الذي تهب iiالخلود



قلْ لي بربّك كيف تهدا
فيرتوون وأنت iiتصدى
ويـنكرون عليك iiبُرْدا
فـيـحملون إليك لحدا

ويمدح فيها العمال أصحاب السّواعد السّمراء الذين يكدحون ويعرقون ليعملوا على تطوير الوطن .. ويعتبر كدحهم هذا نضالاً في سبيل الحرية ، وخطوة في سبيل تحرير الوطن من العبودية والاستغلال ، فيقول :

أهـلاً بـعـمـال iiالـبلاد
أنـتـم  إذا احْـمرّ iiالحديد
مـن  مـثـلـكم عند iiاللّقا
أهـلاً بـعـمـال iiالـبلاد
الـفـجـر خـلف iiركابهم




نـزفّـهـم شـيـباً ومُرْدا
حـمـاتـهـا سهلاً iiونجدا
أعـلـى  يـداً وأعزّ iiجندا
يـحـاربـون مـن استبدّا
يهدي الورى والرّكب أهدى

نشاطه وإنتاجه الأدبي

كان أبو سلمى شاعراً مبدعاً وكاتباً بارعاً ، يُحسن التصرف في فنون القول والكتابة ، فكانت له مقالات ماتعة ، ودراسات رائعة .. وقد انتشرت هذه الآثار القلمية في الصحف أو أُلقيت في المحاضرات والندوات أو المؤتمرات الأدبية .

وكان ناقداً أدبياً له دراسات نقدية محكمة ، وناقداً اجتماعياً عالج عدداً من الموضوعات الاجتماعية بآراء ناضجة ولهجة صادقة .. وكان في نقده الاجتماعي يلتزم بقيم المجتمع ويتجه إلى الإنسان معبّراً في ذلك عن التزامه بقضايا الشعب والوطن ، وهموم الإنسان العربي ..

وكانت له جولات في نقد شعراء فلسطين ، لعلها كانت أولى محاولات النقد الشعري في فلسطين . وكان يرفد إذاعة القدس بروائعه الشعرية ... وعندما تولّى الأستاذ زعيتر تحرير ( مرآة الشرق ) المقدسية سنة 1930م ، رافقه أبو سلمى بتحرير شطرها الأدبي متطوّعاً .

بدأ أبو سلمى بالكتابة في عام 1926م حينما نُشرت له قصيدة في مجلة الميزان الدمشقية ، التي كان يصدرها أخوه أحمد شاكر الكرمي ، وكان أبو سلمى وقتها طالباً في مدرسة التجهيز ( مكتب عنبر ) بدمشق ، وتوالى بعد ذلك نشر قصائده في مجلة الزهراء القاهرية ، وفي مجلة المعرض البيروتية ، ثم في مجلة الرسالة القاهرية .

أما نشاطه في الصحف الفلسطينية فقد بدأ في الثلاثينيات حيث كان يحرّر الصفحة الأدبية في جريدة فلسطين اليافية ، كما كان يكتب في زاوية " أزهار وأشواك" في جريدة الدفاع اليافية ، وكان عضواً في رباطة القلم الفلسطينية .

وفي مرحلة ما بعد النكبة تولّى الإشراف على الصفحة الأدبية في مجلة "المضحك المبكي " بدمشق وكان ذلك في السّتينيات .. كما أسهم بمقالاته وقصائده في المجلات العربية والسورية كمجلة المعرفة السورية ، والهلال المصرية ، والعربي الكويتية ، والمجتمع العلمي العربي بدمشق ، والقبس بدمشق ، ومجلة الثقافة الجزائرية .

وقد صُنّف في سيرة أبي سلمى وأدبه عدد من الدراسات : منها دراسة منهجية متكاملة قام بها الدكتور مصطفى الفار ، درس فيها شعره وأدبه دراسة شاملة متئدة، تمتد من أواخر العشرينات حين كان فتىً يافعاً ، وحتى أصبح في سن الشيخوخة . وقد اهتم في دراسته هذه بدور أبي سلمى في مقاومة الاستعمار ومناصرة الشعوب في كفاحها من أجل حريتها ، وحياتها وكرامتها الإنسانية ..

وقد جمع في دراسته بين المنهج الفني والمنهج التاريخي .. وكان كتابُه أطروحة نال بها درجة ماجستير في الأدب العربي ، بعنوان " الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً " .

ومن الدراسات التي كُتبت عن أبي سلمى أيضاً : دراسة بعنوان ( أبو سلمى زيتونة فلسطين ) لعلي حسين خلف . ودراسة بعنوان ( أبو سلمى  والتجربة الشعرية ) . ونشر المازني وزكي مبارك بعض الدراسات عنه .

وقد قرّرت اللجنة الخاصة بجائزة اللوتس المنبثقة من منظمة الأدباء الأفرو – آسيوية منح أبي سلمى جائزتها لعام 1978م .. كما أُقيم لأبي سلمى مهرجان تكريمي في بغداد ، أقامه الاتحاد العام للأدباء العرب وبالتنسيق مع اتحاد الكتّاب في العراق واتحاد الصحفيين والكتاب الفلسطينيين في يومي 10 و 11 كانون الثاني 1979م .

  مؤلّفات أبي سلمى

كان أبو سلمى أديباً كبيراً من جيل الرّواد الذين سجلوا بأمانة وصدق أحداث البلاد قبل النكبة وبعدها ، وأسهموا بالكلمة الحرّة الجريئة في قضايا شعبهم وأمتهم.. فقد عاش هموم شعبه قبل النكبة ، وتجرّع مرارة الغربة ، وواكب النكبة مرحلة بعد مرحلة وسجّل أحداثها بعمق ورويّة .. وكان يصدر عن شعور إنساني صادق ، ووعي عميق بالأبعاد الحقيقية للقضية الفلسطينية ..

وقد خلّف للمكتبة العربية مجموعة كتب مطبوعة ، ما بين مجموعة شعرية، وتاريخ لكفاح شعب وسير أشخاص وتراجم ، فضلاً عن مقالات ومحاضرات لو أنها جمعت لتألّف منها عدة كتب ، ومن كتبه :

1- ديوان " المشرّد " – نشر مكتبة أطلس بدمشق ، وقد صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1953م ، والثانية سنة 1963م ، ويضم 37 قصيدة .

2- مجموعة " أغنيات بلادي " – نشر مكتبة أطلس بدمشق ، صدرت سنة 1959م ، وتحتوي على 36 قصيدة .

3- مجموعة " أغاني الأطفال " – نشر وتوزيع مكتبة أطلس بدمشق ، 1964م .

4- مجموعة " من فلسطين ريشتي " نشر وتوزيع دار الآداب ، بيروت ، 1971م .. وتحتوي على ثلاث عشرة قصيدة .

5-  ديوان أبي سلمى – نشر وتوزيع دار العودة ، بيروت ، 1978م ، ويحتوي 173 قصيدة .. ويضم مجموعاته الشعرية : المشرد ، وأغنيات بلادي ، ومن فلسطين ريشتي ، وأغاني الأطفال ، كما يشتمل على القصائد التي لم تتضمنها مجموعاته مما كان قد نشر في الصحف .

6- كفاح عرب فلسطين – نشر وتوزيع مكتبة أطلس بدمشق ، 1965م .. وقد أدّى أبو سلمى بكتابه هذا خدمة للقضية الفلسطينية خاصة ، والقضية العربية عامة ، لأنه عالج وبحث قضية بلاده وكفاحها العادل بصدق وإخلاص وجرأة .. فالكتاب دراسة تاريخية لمراحل النضال الفلسطيني ، وفيه تأكيد على رسوخ قدم الشعب وصلابته في كفاحه العادل ضد الظلم والاضطهاد من أجل الحرية .. وفيه توضيح للدور الحقيقي الذي قام به الاستعمار الأنجلو أمريكي في صنع المأساة ، وحقيقة أداته ومخلبه " إسرائيل " التي أقامها في قلب البلاد العربية لتكون قاعدة الاستعمار والعدوان ولتحول بين العرب وتحقيق أهدافهم في الوحدة والحرية([15]) .

7- أحمد شاكر الكرمي – مختارات من آثاره - ، نشر وتوزيع مكتبة أطلس ، 1964م ... وهذا الكتاب عن حياة وآثار الكاتب الناقد أحمد شاكر الكرمي .

8- الشيخ سعيد الكرمي – سيرته العلمية والسياسية – نشر وتوزيع المطبعة التعاونية بدمشق ، 1973م .

9- ثورة فلسطين – مسرحية شعرية – مخطوطة .

 قصائد مختارة من شعره

  1   جبل النار

جبل النار .. اسم يُطلق على جبال منطقة نابلس ( نابلس – جنين – طولكرم) التي دارت فيها معارك بطولة بين المجاهدين والقوّات  البريطانية الغازية .. فمن جبال هذه المنطقة أعلن الشيخ عز الدين القسّام أول ثورة مسلّحة ضد الإنجليز في معركة يعبد عام 1935م ، وأطلق فيها شعاره الخالد : " هذا جهاد .. نصرٌ أو استشهاد " ..

ومن هذه الجبال فجّر الشيخ فرحان السّعدي ثورة فلسطين الكبرى في معركة نور شمس عام 1936م ، وأطلق الرّصاصة الأولى في الثورة .. ووجّه المجاهدون ضربات موجعة لجيش الاحتلال البريطاني ، الذي أطلق على المنطقة اسم ( مثلث الرُّعب ) ..

فحين اشتعلت الثورة ، وقدّم لها أبناء فلسطين أرواحهم ، وامتّد لهيبها فوق سفوح الجبال .. شرع أبو سلمى في تمجيد الثورة والثوار ، فصوّر في أبيات هذه القصيدة المعارك الطاحنة التي كان يخوضها ثوّار فلسطين فوق الجبال ضد القوات البريطانية المجهّزة بالطائرات والأسلحة الثقيلة ، فلا يزيدهم لهب المعارك وضراوتها إلا استبسالاً وصموداً ..

يقول الأستاذ الأديب أكرم زعيتر([16]) : عندما نشبت الثورة الكبرى سنة 1936، أخذ أبو سلمى يرفدها بقصائده الرائعات ، فكانت زاداً للشباب في معتقلاتهم.. ويتابع كلامه فيقول : تسلّلت إلينا – في المعتقل – مجلة ( الرسالة ) القاهرية وفيها قصيدة ( جبل النار ) وكنّا لا نزال في نشوة من أنباء انتصارات الثوار، وإسقاطهم الطائرات البريطانية ، وفيها يحيّي الثائرين ويمجّد جبل النار.

أبيات القصيدة ([17])

جـبـل  الـنّـار يا أعزّ iiالجبالِ
تُـنـبـت  الـمجدَ فوق iiسفحك
يُفصح  الصّخر عن شمائل iiأبنائك
مـا ذكـرنـا حـماك إلاّ iiانتسبنا
*              *             ii*
أيّـهـا الـثائرون في جبل iiالنار
لـكـم الله يـا حـمـاة iiفلسطين
تـحـمـلون  الأرواح فوق أكُفٍّ
ورصـاصـاتكم  تمرُّ على iiالأيّام
تَصْرعُ الطائراتِ مثل طيور الجوّ
يـسـمـعُ الجند في صداها iiلُغى
*              *              ii*
أيّـها الثائرون قولوا ، فإنّ الكـو
والمعوا  في غياهب الظلم iiتجلوها
إنّـمـا الـحقّ من بنادقكم iiيسطع
انـظـروا  اليوم كيف يلتفت iiالتا
*              *              ii*
جـبـل  النّار زأرة تجعل iiالدّهر
جـبـلَ  الـنـار لم تخلّدك iiإلاّ
جـبـل  النّار ! إقذف النّار iiحتّى




















أنـتَ  لا زلـت ، مـعقد iiالآمالِ
فـيـنان  وتسقيه من دم iiالأبطال
فـوق  الـلّـظـى وعند iiالنّزال
وانـتـشت  نخوةً رؤوس الجبال
*              *              ii*
سـلامـاً  يـا زيـنـة iiالأبطال
زحـمـتـم  مـصـارع iiالآجال
وَتَـبـيـعـونـها  ولكنْ iiغوالي
حُـمـراً مـضـيـئة في اللّيالي
تـهـوي  مـا فـوق تلك iiالتّلال
الـمـوتِ  فلا يَثْبتون يوم iiالقتال
*              *              ii*
ن  يُـصـغـي إلى لهيب iiالمقال
فـإنّ  الـجـهـاد رحب iiالمجال
والـعـدل  مـن وراء iiالـعوالي
ريـخ حـتى يرى بريق iiالنّصال
*              *              ii*
يُـحـيّـي  مُـحـطِّـمَ الأغلال
ثـورة  فـي سـبـيل الاستقلال
نُـبـصـرَ  النّورَ يا أعزّ الجبال

  2 من فلسطين ريشتي

أبو سلمى ( عبد الكريم الكرمي ) .. شاعر فلسطين الكبير .. وأستاذ الشعر العربي المقاوم الذي تتلمذ على يده جيل من الأدباء العرب .. شعره يعتبر من أنصع صفحات الكفاح الشّجاع وأكثرها توهجاً في تاريخنا المعاصر ..

هذا الشاعر الرائد نظم قصيدة رائعة بعنوان " من فلسطين ريشتي " وألقاها في مهرجان الشعر الثامن الذي عقد في القاهرة في أواخر آذار ( مارس ) 1968م في أعقاب المؤتمر السادس للأدباء العرب ... وسط  عاصفة من التصفيق الذي استعاد أبياتها مرّة تلو مرة ...

وتحدّث في هذه القصيدة عن الفجيعة التي وقعت بهزيمة حزيران سنة 1967م، والتي كانت بداية مرحلة بالغة الخطورة في الوجود الاستعماري الصهيوني في منطقة الوطن العربي .. ولكنها كانت أيضاً مرحلة جديدة في النضال العربي ضد هذا الوجود ...

ولقد كان أبو سلمى سبّاقاً في استجلاء إحباطات الواقع العربي مقرّراً أنّ على حاملي ألوية العار والهزيمة أن يتخلّوا عن حومة الميدان ويسلموا الشعب أمره .. ويتساءل أبو سلمى عن موعد تفجير الثورة الفلسطينية التي يرى أنها البديل الوحيد لغسل عار الهزيمة وتحرير الأرض المغتصبة ... فالكفاح المسلّح هو الذي يصنع غد القضية ، ويشيد صرح مستقبلها ..

   أبيات القصيدة ([18])   

مِـنْ " فـلـسـطـيـن " ريشتي وَبَياني فعَلى الخُلْدِ والهوىَ iiيَدْرُجانِ
مِنْ " فلسطين " ريشتي ، وَمِنَ " الرَّملةِ " و " اللِدّ " صُغتُ حُمْرَ الأَغاني
مِـنْ شـذا بـرتـقـال " يـافا" قوافيها ومن سهل "طولكرم" iiالمعاني
أَحـرفـي مـن قـطـاع "غـزة" والشاطيءِ تمشي مصبوغة الأردان
يـوم غـابـت نـابـلـس مـخضلَّةَ العينين ، لم تغتمض لنا iiعينان
مـن  " فـلـسطين" ريشتي ، وجناحاها إلى عالم الجوى ، iiالضفـتان
ومـن  "الأُردن" الـحـبـيـب أُروّيـهـا لـتـندى ، شجيّة iiالألحان
ومـن الـضـفـة الـحـزينة ، لا أنشر إلاَّ – فوق الدُّنى – iiأشجاني
*                                *                                ii*
ريـشـتـي  فـي يدي ، ومن جبل النار لظاها ، فالحرف أحمرُ قاني
ريـشـتـي  فـي مـدادهـا الدَّمُ والدَّمعُ ، وراءَ السُّطور ، iiيمتزجان
ريـشـتـي فـي حـفـيـفها جهشةُ الأقصى على أهلهِ ونوحُ iiالأذان
" ديـر يـاسـيـن " فـي الشَّباةِ مع " القسطل " خلف السّواد iiيعتنقان
ريـشـتـي  فـي يدي أخوضُ عُبابَ الهول،طلق الجناح،ثبت الجنان
تـرتـمـي  حـولـهـا الأعاصير أشلاءَ ، إذا ما جرت وراءَ iiبناني
ريـشـتـي  فـي يـدي ، تسير أمام الشعب في زحفها على الطغُّيان
ريـشـتـي فـي يـدي ، تشقُ الدُّروب البكرَ ، تحمي حرية iiالإنسان
*                                *                                ii*
أيـهـا الـحـامـلـون ألـويـة العار !... تخلوا عن حومة iiالميدان
سَـلّـمـوا  الـشـعـب أمـره واستريحوا يا حماة الأصنام والأوثان
كُـلُّ  جـيـش يـكونُ حرباً على الشعب ، ذليلٌ ، إذا الْتقى iiالجْمعان
عـاصـفٌ بـيـن أهـلـهِ ونـسـيـمٌ لـلمغيرين ، شأن كل iiجبان
يـومَ  هَـبَّـتْ عـلـى حـدودكـم الـنَّـارُ ، جثوتم أمام كل iiدخان
يـأنـفُ الـتُـرب أن تـمـرّوا عـلـيـه وتصابُ الرمالُ iiبالغثيان
كُـلَّ يـوم تـجـددون الـشـعـارات ، فـراراً مـن أزمةِ iiالوجدان
بـعـد حـربِ الـتَّـحـريـر قد أصبح اليوم شعاراً ، إزالةُ iiالعدوان
*                                *                                ii*
وتــقـولـون دولـةٌ .. ونـراكـم دولاً ، كـلُّ دولـةٍ iiبـكـيـانِ
وتـقـولـون  : وحـدةٌ .. ولـديـكـم كـلُّ جُـزءٍ مـجـزَّأٌ لِثمانِ
ثُـمَّ  حـريـةً .. تـقـولـون لـلـنـاس ومـا فـيكمُ سوى iiسَجَّان
وتـقـولـون  : نـحـنُ نَحكُمُ باسمْ الشعب ... أستغفرُ العظيم iiالشَّان
أيـنَ  تُـمـسُـون ؟! لو غدا كلُ شعبٍ حاكماً في البلاد ذا iiسُلطان!..
*                                *                                ii*
وتـحـلُّـون .. كـلّـمـا أقـبـلَ الـلَّيلُ .. خفايا أُموركم ، iiباللّجان
هـلْ  تـداوون بـالـبـيـانـات جُرحاً أو يُزيل اجتماعكم ما iiنعاني
لـيـتَ شِـعـري !.. مـتى يُفجّرُ شعبي في "فلسطين" ثورة iiالبُركان
و "فـلـسـطـيـن" لـن تـضيعَ وأهلوها يخوضون هولَ كلّ عَوان
إنّ جـيـشَ الـشَّـعـب المُشرَّد أقوى من جيوشِ الحرير iiوالطَّيلسان
إنّ  جـيـشـاً يُـرجى لتحرير شعبٍ غيرْ جيشِ الكرسي والصَّولجان
*                                *                                ii*
شـعـراءَ  الـجـلـيـل والشاطيء الغربيّ ! .. أنتمُ طلائعُ الفُرسان
شِـعْـرُكُـمْ  – مثلكم – خلوداً ويسري من "فلسطين " فيه نفحُ iiالجِنان
من  "شفا عمرو" الجريحةِ و "البِروةِ" من "كوكب الهواء"ومـن "بيسا iiن"
زنـتـمُ  الـلـيـل بـالـحـروف نـجوماً يا أحباي في أحب iiمكان
تـتـحـدّون  بـالـقـوافـي الـمـدمـاةِ نضالاً ، عصابة iiالشيطان
طـلـعَ  الـشـعـر فوق أرضكم الخضراء غرساً مخضَّب الأغصان
كـل شـعـر سـواهُ ، تـلـوي بـه الـريح ، ويطويه عالم النَّسيان
شـعـركـم وحـدهُ يُـعـمّـقُ في الأرض جذورَ الصُّمود iiوالعنفوان
شـعـركـم  وحـدهُ المجلجل في السّاح ، رفيقُ السّلاحِ في iiالمَعْمعَان
*                                *                                ii*
أيـهـا  الأهـل ! – في القطاع وفي الضفة ، لو تُنطق الدموعُ iiلساني
يـعـصـب  الـجـمـرُ جـانـبيه ، وهل أبلغُ مما لم تَرْوِهِ iiالشفتان
تـلـك أكـبـادُنـا الـمُـمـزقـة ، الحرَّى ، على كلّ شفرةٍ iiوسِنانِ
*                                *                                ii*
أيـهـا الـثـائـرون فـي جـبـل الـنار !.. وُقيتم غوائل iiالحدثان
دمُـكُـمْ  وحـده يُـروي الـبـطـولات .. وتـغلون تُربةَ iiالأوطان
عـنـدمـا  تـخـطـرون .. تزدهرُ الأرضُ وتُهدي غلائل iiالريحان
نـحـنُ  أسـرى .. وأَنـتمُ أنتمُ الأحرارُ .. خلفَ السُّجون iiوالقُضبان
الـفـدائـيُّ  وحـدهُ الـنَّـاشـرُ الأمـجاد .. فوقَ المُروج iiوالغُدران
إنـهُ  وحـدهُ الـمـعُـصّـبُ فـي الخُلّد .. إذا قيلَ فارسُ iiالمهرجان
*                                *                                ii*
أتُـراهـا  الأيـام فـوق الـسفوح الخضر ، ترمي بنا وفوق iiالرّعان
نـتـلاقـى  .. رفـاق دربٍ .. كـما كُنَّا ونمضي نجتاز عبرَ الزَّمان
لـنْ  تُـضـيءَ الـدُّنـيا .. إذا لم يُطلَّ الفجرُ من أرضنا مع iiالنيران

  3 الدّمُ العربيّ المطلول

 هذه القصيدة نظمها شاعرنا أبو سلمى بعد غربة طالت وانتظار لفجر مرتقب ، وشوق للوطن لا حدّ له ..

ومن لهيب هذا الشوق تنطلق أبيات القصيدة ، فتهزّ الوجدان ، وتعتصر القلوب ، وتنفطر لها الأكباد ..

والحق إن هذه الأبيات لتنطق بما يعتمل في نفسه من أسى وحسرة على وطنه الذي لا يراه إلا من خلال الدموع ، كأنّ صورته تتباعد أو تذوب ..

ويستحيل كل شيء في وجدانه الملتهب شوقاً لبلاده إلى نغم حزين يحمل أنفاس الوطن ... فهو يتأمل سفوح بلاده وسهولها من بعيد مشيداً بشعبه وأهله متسائلاً عمّا إذا كان وطنه ما زال عربيّ المرابع والسّيماء أم أنه قد تهوّد وأصبحت معالمه التاريخية وحضارته الإسلامية أثراً بعد عين ...

أبيات القصيدة ([19])

كـلَّـما قلتُ : أطلَّ الفجرُ iiغابا
وإذا الـدَّمـع روى عنها الهوى
وإذا  مـا الـدَّمُ روَّى iiأرضـها
وعـلـى الدَّرب إذا لاحت iiمُنىً
مَـسَحَ  الأهلُ رسوماتِ iiالخُطى
*             *             ii*
أيُّـها  السائلُ عن داري iiاستَمِعْ
بُـحَّـت  الأرضُ تُنادي iiشعبها
جَـثَـم الأعداءُ ما حولَ iiالحِمى
*             *             ii*
صـرخت  منَّا الجراحاتُ iiعِتابا
سـجـنوا أهلي وَهُمْ من iiفتحوا
مَـزَّقـوهـم وهُـمُ من iiوحَّدوا
ثُـمَّ  قالوا خوفَ أن ننسى ، iiألا
كـيـفَ  ننسى وعلى كلِّ iiثرى
وخـيـالاتُ  بـلادي iiارتسمتْ
صـورُ  الـنـكـبة في iiأعيُننا
وبـهـا  نُـبصرِ أشلاء iiالحِمى
دَمُـنـا  يَـصـرخُ أنَّى iiسرْتُم
نـحـنُ  مـن حَـطَّمَ أصنامكم
أنـتـمُ  لـولا " فلسطين " iiلقىً
نـحـن  مـن نَـضَّرَ iiقوميتكم
أورقـت أنـفـسـكم من iiدَمعِنا
ومـحـونـا بـالَّـظى iiعارَكُم
لـيتَ شِعري !.. ما الذي iiقدَّمتُمُ
*             *             ii*
يا  " فلسطين " انظرينا iiنضطرم
وهـتـفـنا باسمكِ العذبِ iiعلى
بـاسـمكِ  القُدسي لاقينا iiالرَّدى
وَمـنَ  الـتَّـشريد فجرّنا iiسَنى
وخُـطـانا  خضبت كل iiالذُّرى
نـحن في النَّكبةِ أصفَى iiجَوهراً
*             *             ii*
يـا  أحـبّـاي .. أمـا آن iiلَكُم
تـاجـرَ  الأهـلُ بـآلامـكـم


































أتُـرى تـغـدو فلسطين iiسرابا
وَجَـلا صـورتَـها ذابَت iiوذابا
حـالـت  الأرضُ به قفراً iiيبابا
دامـيـاتٌ تـرتجي منها iiالإيابا
لَـمْ نَـجِد خلفَ المُنى إلا iiترابا
*             *             ii*
إنَّ في أرضِ " فلسطين " انتحابا
ثُـمَّ  لـما تسمعِ الأرضُ iiجوابا
وعَـدا  أهـلي على أهلي iiذِئابا
*             *             ii*
كـيـفَ  لا يسمع أهلونا iiالعِتابا
كُـلَّ  يـومٍ لـلعُلى والمجدِ iiبابا
بـيـنـهم  شعباً وداراً iiورغابا
بِـئـسَ مـا قالوا افتِئاتاً iiوكذابا
دَمُـنـا يـسري سعيراً iiوالتهابا
فـي الـجباه السُّمرِ ألوانا iiعِذابا
قـد حـمـلـناها هواناً iiوعذابا
ثُـمَّ لا نـلقى من الأهل iiصِحابا
لـم  يَزلْ يطلبُ أهلونا iiالحِسابا
وجـعـلنا  الحُكمَ للشَّعبِ iiغِلابا
أنـتُـمُ  لولا " فلسطين " iiذنابى
وعَـن  الأعـينِ مزَّقنا iiالحِجابا
بَـعـدمـا جـفَّت قُشوراً ولُبابا
ثُـمَّ صـرنـا سُبَّةَ الدَّهرِ وعَابا
"  لـفلسطين " سوى الوأدِ iiعِقابا
*             *             ii*
قَدْ  صهرنا الأحرفُ الحُمرَ iiكِتابا
كُـلَّ دربٍ وجـعـلـناه iiحِجابا
مِـثـلَـمـا تهوين شِيباً iiوَشبابا
ثُـمَّ  أطـلـقنا مع الفجر iiشهابا
سـعَّـرَ الحِقدُ خطانا iiوالخِضابا
كُـلَّـمـا اشتَدَّ لهيبُ النَّار iiطابا
*             *             ii*
أنْ تـقـولوها صُراحاً iiوَصَوَابا
ثُـمَّ  يـرجُونَ مِنَ الشَّعب iiثَوابا

              

المصادر والمراجع

1- أحمد علاونة : ذيل الأعلام ، دار المنارة ، جدة ، 1998م .

2- عبد الرحمن ياغي : حياة الأدب الفلسطيني الحديث ، المكتبة التجارية للطباعة والنشر ، بيروت ، 1968م .

3- عبد الكريم الكرمي : ديوان أبي سلمى ، دار العودة ، بيروت ، 1978م .

4- كامل السوافيري : الاتجاهات الفنية في الشعر الفلسطيني المعاصر ، مكتبة الأنجلو المصرية ، 1973م .

5- مصطفى محمد الفار : الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1985م .

6- مجلة الرسالة القاهرية – العدد 154 ، في 15 / 6 / 1936م . والعدد 161 في3/8/ 1936م .

([1] ) ذيل الأعلام ، ص128 .

([2] ) الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً ، ص29 – 40 . وذيل الأعلام ص128 .

([3] ) الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً ، ص82 .

([4] ) الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً ، ص83 .

([5] ) الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً ، ص12 .

([6] ) الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً ، ص42 .

([7] ) ديوان أبي سلمى " المشرّد " ، ص28 .

([8] ) ديوان أبي سلمى ، ص21 – 24 .

([9] ) ديوان أبي سلمى ، ص17 – 18 ، ومجلة الرسالة القاهرية – العدد 154 في 15 / 6 / 1936م .

([10] ) ديوان أبي سلمى ، ص299 .

([11] ) ديوان أبي سلمى ، ص67 – 68 .

([12] ) ديوان أبي سلمى ، ص34 – 35 .

([13] )  ديوان أبي سلمى ، ص11 .

([14] ) ديوان أبي سلمى ، ص55 – 56 .

([15] ) الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً ، ص232 .

([16] ) الشاعر أبو سلمى أديباً وإنساناً ، ص11 .

([17] ) مجلة الرسالة القاهرية – العدد 161 في 3 / 8 / 1936م .

([18] ) ديوان أبي سلمى ، ص308 – 312 .

([19] ) ديوان أبي سلمى ، ص243 – 245 .