إبراهيم طوقان

إبراهيم طوقان

(1323 – 1360هـ)

(1905 – 1941م)

حسني جرار

  * تقديم

  * نشأته وحياته

  * إبراهيم الإذاعي والأديب

  * شعره

  * الوطن في شعر إبراهيم

  * قصائد مختارة من شعره

 "تقديم

إبراهيم طوقان .. شاعر فلسطين الكبير .. ومن فحول شعراء العرب المعاصرين..

أديب عبقري ، وإذاعي بارع ، وباحث محقّق .. له اطّلاع واسع ، ومعرفة دقيقة باللغة العربية وآدابها ، وبآثار الشعراء والكتّاب القدماء والمحدثين .. تجلّت عبقريته الإذاعية والأدبية في أحاديثه الطريفة التي اتسمت بالجدّة والابتكار ..

وإبراهيم شاعر موهوب ، عميق التفكير .. نظم شعراً وطنياً راقياً ، ينبض بالرّوح الإسلامية .. سجّل فيه مختلف الأحداث التي مرّت بالوطن العربي ، وبخاصّة ما مرّ بوطنه فلسطين .. فكان بهذا الشعر أول شاعر فلسطيني طار صيته بين العرب .

"نشأته وحياته

ولد إبراهيم عبد الفتاح طوقان عام 1905م في مدينة نابلس ، في عائلة عريقة من عائلات جبل النار ، وفي أُسرة ذات يسار وغنى وعلم .. فكان جدّه لأبيه ( داود آغا ) حافظاً للتاريخ ، محبّاً للأدب ، فأتاح لأبنائه أن ينهلوا من العلم والمعرفة في كتاتيب نابلس ومدارسها فعرفوا قيمة العلم وقدّروه حق قدره .

في هذا الجو الميسور ، ولد شاعرنا مهزول البنية عليلاً منذ اليوم الأول لولادته ، ورافقه المرض منذ طفولته وصباه .. وما أن نما حتى نمت معه ثلاث علل صاحبته حياته كلها حتى قضت عليه .. صمم في أذنه ، وقرحة شديدة في معدته ، واستعداد في أمعائه لأنواع شتى من الالتهاب ، فاضطر إلى أن يجري عمليتين جراحيتين ، نجا منهما بلطف قدّره الله سبحانه وتعالى . وكان يكثر من التردد على الأطباء ، ومن تناول الأدوية والمسكّنات ، وقد حمله كل ذلك على أن ينقطع عن دراسته حيناً ، وعلى أن يضطرب في حياته العملية بعد ذلك([1]) .

لقد تأثر إبراهيم ، وهو ما زال طفلاً بشخصيتين تركت كل منهما فيه بصماتها واضحة في صباه وشبابه : أولهما جده لأبيه وكان ذوّاقة في الشعر والزجل الشعبي . وثانيهما : أبوه الذي نهج في إعداد أولاده وتربيتهم خطة مبنية على الحكمة والمسايرة والملاطفة ، فعاش الأبناء في كنف بيت تغمره السعادة ، أضف إلى ذلك ما كان يقوم به الأب من حث أبنائه على تلاوة القرآن وحفظه ، فأولع إبراهيم بالكتاب الكريم منذ نعومة أظافره ، يديم النظر فيه ، ويعاود القراءة والتفهم لآياته. ولم تكن عناية إبراهيم بالقرآن الكريم موقوته أو عابرة ، فقد ترك إعجازه في نفس إبراهيم هزة وسحرا ، وأفاد من بلاغته وبيانه منذ خطت قدمه الخطوة الأولى في المدرسة وبقي على هذه العادة في صباه يتلذّذ بسماع الآي الكريم ويستمتع بتلاوته([2]) .

ولما أتم إبراهيم التاسعة من عمره التحق بالمدرسة الرشادية الغربية في مدينة نابلس ، وأمضى فيها سنيّ الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) ، حيث تلّقى دروسه الأولى . وكانت هذه المدرسة تنهج في تعليم اللغة العربية نهجاً حديثاً ، لم يكن مألوفاً في مدارس نابلس ، وذلك بفضل بعض المدرسين النابلسيين الذين تخرّجوا في الأزهر الشريف ، وتأثروا في مصر بالحركة الشعرية والأدبية التي كان يرفع لواءها شوقي وحافظ وغيرهما من شعراء مصر وأدبائها ، فأشاع هؤلاء المدرسون روح الشعر والآداب الحديثة ، وأسمعوا الطلاب للمرة الأولى في حياتهم الدراسية ، قصائد شوقي وحافظ إبراهيم ، وفتحوا أذهانهم على أسلوب إنشائي حديث فيه رونق وله حياة ، يختلف عن الأسلوب القديم الذي كان ينتهج في مدارس نابلس الأخرى .. ومن هؤلاء المدرسين المجدّدين الشيخ إبراهيم أبو الهدى الخماش ، والشيخ فهمي هاشم .. وقد استطاع معلمو المدرسة الرشادية بنابلس أن يغرسوا في إبراهيم مغارس حياته الأدبية ، بعد أن هيأ البيت هذه التربية المثمرة وهذا التوجيه النافع .. فكان الفتى إبراهيم ثمرة من ثمارهم التي بثوا فيها روح الوطنية([3]) .

ولما أتم إبراهيم دراسته الابتدائية توجه إلى القدس ، والتحق بمدرسة (المطران) وعمره لم يتجاوز أربعة عشر ربيعاً ، وأمضى فيها أربعة أعوام من سنة 1919 – 1923م . وفي القدس اتصل عن طريق أخيه أحمد – الذي كان قد سبقه إلى الكلية الانجليزية – بنخلة زريق ، فكان له أثر كبير في تحبيب اللغة العربية والشعر القديم إلى إبراهيم .. وأخذ يتردّد عليه مع شقيقه ، ويرهف السمع إلى الأحاديث والروايات التي كانت تدور في مجالسه وندواته ، حتى ازدادت ثروة إبراهيم الأدبية ، ووقف على أوابد اللغة ، فصقل لفظه ورقّ نثره ، واستطاع أن يميز بين صحيح الشعر وزائفه ، فغدا إبراهيم على حداثة سنه مرجعاً لغوياً لأبناء مدرسته .

ولما انتهى إبراهيم من تحصيله الثانوي في مدرسة المطران سنة 1922/1923م، انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وهنا تبدا أخصب مراحل حياته الدراسية ، ففي بيروت أحاط به أفق أدبي واسع لا عهد له بمثله في فلسطين .

أمضى إبراهيم في الجامعة الأمريكية ست سنوات من 1923 – 1929 مجتهداً في دروسه ، محبوباً من أساتذته وزملائه .. وفي الجامعة لقي التقدير من الأديب البحّاثة ( أنيس خوري المقدسي ) ، وتواصلت المودة بينه وبين إخوانه الشباب وبعض الخريجين ، ومنهم الأدباء : عمر فروخ ، ووجيه البارودي ، وسعيد تقي الدين ، فكان الأدب أقوى روابط الود بينهم .

وكانت خارج الجامعة مجالس الأدب العالي والشعر الرفيع ، وكلها تفتح صدرها لإبراهيم وتوليه من عنايتها واهتمامها ، ومن أصحاب تلك المجالس الأدبية الرفيعة : الشيخ أمين تقي الدين ، والشاعر بشارة الخوري ..

وأصبح إبراهيم شاعر الجامعة كما لقبته بيروت .. وكانت أغاريده الوطنية الفيّاضة بالعواطف الصادقة تسير جنباً إلى جنب مع أغاريده الغزلية ..

وفي سنة 1929 نال شهادته من الجامعة .. ومن المنصّة التي منح عليها (البكالوريا ) مشى إبراهيم إلى سرير المستشفى .. فقد كان يشكو ألماً في معدته منذ كان تلميذاً في مدرسة المطران في القدس ، وكثيراً ما أقعده ذلك عن مواصلة التحصيل ، وكثيراً ما حمله بعد ذلك إلى الاستقالة من وظائفه التي تقلب فيها .

ومع أن إبراهيم تيسّر له أن يعمل في الصحافة في مصر .. إلاّ أن والده أقنعه بألا يسافر إلى مصر بسبب مرضه ، وأن يعمل معلماً للغة العربية في مدرسة النجاح الوطنية بنابلس ، فهي خدمة وطنية مشكورة ، فزاول إبراهيم مهنة التعليم سنة واحدة ..

وفي عام 1930م عُرض على إبراهيم التدريس في قسم الأدب العربي بالجامعة الأمريكية في بيروت .. فانتقل إلى بيروت ودرّس فيها عامين ، نظم خلالهما أروع قصائده . وفي نهاية العام الثاني لتدريسه في الجامعة ، قدّم استقالته وعاد إلى فلسطين ، وزاول مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية في القدس .. وفي هذا الوقت ، ضاق بعمله أشدّ الضيق ، فنفّس عن الكرب الذي لحقه من هذه المهنة بقصيدة (الشاعر المعلم ) وقد صاغها في قالب فكاهي عذب ، صوّر فيه ما كان يكابده من مشقّة التعليم، والجهد الذي كان يبذله ، والعناء الذي كان يلاقيه من جراء ذلك كله([4]) .

وفي أواخر سنة 1932 ، ألحّ عليه السقم ، ولازمته العلّة ، فانقطع عن التدريس ، وأشار الأطباء بضرورة إجراء عملية جراحية في معدته . وكان من خطورة هذه العملية ، أن نفض الجرّاح يديه من نجاة مريضه من الموت بعدها .. ولكن شاءت حكمة الله سبحانه أن ينجو إبراهيم من الموت المحقق بعد إجراء العملية . وتماثل للشفاء ، وخرج إبراهيم من المستشفى ، وفي جيبه ورقة عليها هذه الأبيات :

إلـيـكَ تـوجّهت يا iiخالقي
إذا هـي ولّـت فـمن iiقادرٌ
ومـا لـلـطبيب يدٌ iiبالشّفاء
تـباركت ، أنت معيد iiالحياة
وأنت المفرّج كرب الضعيف




بـشـكرٍ  على نعمة iiالعافيهْ
سـواك عـلـى ردّها iiثانيه
ولـكـنـهـا يـدك iiالشّافية
متى شئت في الأعظم iiالباليهْ
وأنـت الـمجيرُ من iiالعاديهْ

بعد أن غادر إبراهيم المستشفى ، أمضى عامين في نابلس ، خدم خلالهما مدة في دائرة البلدية ، وفي هذين العامين ، نظم مقطوعاته الوطنية التي كان يوالي نشرها في جريدة ( الدفاع ) والتي كان يقبل عليها القراء بشغف عظيم ، لما فيها من تصوير صادق لوضع فلسطين الخطير ، وتفكك الأمة المريع ، في تلك الفترة من الزمن .

وفي سنة 1936 تسلّم إبراهيم عمله الجديد في القسم العربي في إذاعة القدس .. وفي سنة 1940 تكاتفت قوى الشرّ على إبراهيم ، وأُقيل من عمله .. فعافت نفسه البقاء بين قوم لا خلاق لهم ، وآثر الرّحيل عن وطنه الذي تفانى في حبه ، وأذاب روحه في مناجاته ، وعزم على الرّحيل إلى العراق .

وفي بغداد وجد من أصحابه كل تكريم .. إلاّ أنه لم يكد يمضي شهران على إقامته في العراق حتى وقع فريسة العلّة والسقم ، مما حمله على العودة إلى نابلس . ونُقل إلى المستشفى الفرنسي في القدس .. وفي مساء الجمعة ، الثاني من شهر مايو سنة 1941 م أسلم الروح إلى بارئها .. وفقدت فلسطين شاعرها وهو في ريعان الشباب([5]) .

"إبراهيم .. الإذاعي والأديب

في أواخر عام 1935م أخذت السلطات البريطانية في فلسطين تعدّ العدة لإنشاء محطة إذاعية مركزها القدس تكرّسها لخدمة أهدافها الاستعمارية في بث روح الفرقة بين الشعب الفلسطيني ، وفي إضعاف انتمائهم للعربية عن طريق نشر اللغة العامية محل الفصحى والدعوة لهذه الفكرة وترويجها عن طريق الإذاعة ووسائل الإعلام الأخرى .

وبدأ المسؤولون عن الإذاعة يبحثون عن الرجل المناسب لإدارة البرامج العربية، فوقع اختيارهم على إبراهيم طوقان للقيام بهذه المهمة وتوجيهها ، وقد لقي هذا الاختيار كل الرضى من إبراهيم إذ وجد أن عمله في الإذاعة أقرب إلى ذوقه وطبعه ، وهو الشاعر الأديب ، الذي كان يحلم في مهمة الصحافي منذ كان صغيراً ، وهو بالإضافة إلى ذلك يستطيع أن يمارس الأدب والثقافة ممارسة عملية فاستجاب لعمله الجديد مؤملاً في أن يستقرّ ويضع عصى الترحال بعيداً عن التدريس وأهله .

واتجه إبراهيم بكل عنايته نحو عمله الإذاعي ، فقام به خير قيام ، ونحا فيه منحى عربياً صميماً ، وأبدى في سبيل إعداد البرامج العربية المنوعة نشاطاً عظيماً..

لكن حسّاد إبراهيم من عرب ويهود أخذوا يستعدون عليه المسؤولين عن الإذاعة ،ويحرضونهم على إبعاده عن البرامج العربية ، التي وجهّها على غير ما كانوا يتمنون فاشتدت حملة الصحف اليهودية عليه ، وسعت الوكالة اليهودية إلى المطالبة بعزله .. واتخذت تلك الحملة صوراً ثلاثاً :

الأولى : كانت الأوساط الصهيونية ترى أن إبراهيم قد وجّه البرامج العربية توجيهاً قومياً يفيد العرب ويلحق الأذى باليهود ويضر بتطلعاتهم ويكشف مخططاتهم .

الثانية : لاحظ البريطانيون القائمون على إدارة الإذاعة وتوجيهها أن التوجيه الذي اختطه إبراهيم للبرامج العربية لا يحقق الأهداف التي أقاموا الإذاعة من أجلها ، بل ويتنافى مع ما قصدوه من تأسيس هذه الإذاعة .

الثالثة : أبى إبراهيم على أن يُحلّ العامية محل الفصحى ، بل عمد إلى تركيز برامجه على الأحاديث المفيدة البعيدة عن العبث .. فكان يأخذ من منابع اللغة الأصيلة ، القرآن والسّنة بطريقة ذكية تلفت انتباه العرب إلى ما يحيق بهم من أخطار وما يدور حولهم من مؤامرات .

كل هذه الأسباب متضافرة جعلت الأوساط الاستعمارية تتحين الفرصة المناسبة للتخلص من إبراهيم وإقصائه عن منصبه المهم بكل الوسائل .

أما الصعوبات التي لقيها إبراهيم في عمله ، فتتمثل في الدّسّ واللؤم والشغب الذي حمل لواءه اليهود حين وقفوا وقفة المتربص لكل ما يذيعه من أحاديث .

لقد كانت أحاديث إبراهيم الإذاعية بمثابة القنابل الزمنية الموقوتة التي تنفجر بما فيها .. وكان الناشئة العرب يتلقفونها عبر المذياع بقلوب متفتحة ، فيفهمون مغازيها وهم يستمعون إلى صوت إبراهيم يتدفق بحوثاً في الأدب والتاريخ والشعر بلغة سهلة ممتعة([6]) .

وقد تجلت عبقرية إبراهيم الإذاعية والأدبية في أحاديثه الطريفة التي اتسمت بالجدّة والابتكار .. ولعل من أطرف تلك الموضوعات ، حديثاً ألقاه إبراهيم طوقان في 20 أيلول 1937 عن ( حقيقة وفاء السّموأل ) ... وقد قام رأي الأديب على أن السّموأل أو (صموئيل ) بن عاديا الشاعر الجاهلي اليهودي كان ذا نزعة صهيونية قبل أن تظهر الصهيونية بقرون ، وأن حبه للمال ، وهوعلامه مميزة لكل يهودي ، هو الذي دفعه إلى إيثار ذبح ابنه الوحيد الذي كان خارج الحصن ، ولم يكن ذلك من أجل الوفاء لامرئ القيس .. وقد أراد إبراهيم ببحثه هذا أن يهدم برأيه الجديد سيرة الوفاء السّموألي المشهور ، الذي اصطلح الناس منذ القدم على التغني بقول ينسب للسّموأل عن هذا الوفاء .. وقد ورد حديث إبراهيم طوقان في الإذاعة الفلسطينية كاملاً عن هذا الموضوع في كتاب ( إبراهيم طوقان شاعر الوطن المغصوب ص38-43 ) للدكتور زكي المحاسني .

وكان لإبراهيم معرفة بتحقيق النصوص العربية القديمة ، تجلت في مساعدته للمستشرق الدكتور نيكل البوهيمي ، في تفهم النصوص المخطوطة والتلعيق عليها ، وخاصة في كتاب ( الزهرة ) لأبي داود الأصفهاني([7]) .

" شعره

إبراهيم شاعر موهوب منذ بواكير حياته .. فكان منذ صغره يقارض جدّه ضروباً من الأزجال أو مقطوعات من العتابا التي كانت تحمل إلى أذنه المرهفة معاني الحب والحنان ... ثم بدأت خواطره تتأثر بما يحفظه في المدرسة من شعر ونثر ، فأخذ يقلّد ذلك الشعر ويذهب به إلى جده يُسمعه إياه ، فيشجعه بالإطراء حيناً والهدايا أحياناً ..

وفي المدرسة أخذ معلموه يشيعون في نفسه روح الشعر .. وكانوا يعجبون عندما يقف أمامهم إبراهيم لينشر الشعر في دروس الاستظهار ويلقيه إلقاء جميلاً ينبعث له طرب كل من يسمعه ..

وحين أدرك عمر الشباب ، بعد أن انتقل إلى القدس ، بدأ يحاول قول الشعر الصحيح فتلتوي عليه مسالكه ولا يفلح فيه ، إذ لم يكن قد درس علم العروض بعد .. وفي العطلة الصيفية كان يلتقي مع شقيقه أحمد في نابلس ، فيشرح له تفاعيل الأبحر الشعرية ، ويوقفه على أصول القوافي ، فيستوعب كل ذلك .

وبدأ إبراهيم ينشد الشعر في المناسبات الخاصة التي تعرض له ، والأحوال التي تمر عليه في مدرسة المطران .. ولعلّ في مجموعة أشعاره التي نظمها خلال عاميه الأخيرين في القدس ما يشير إلى تحسّن بالشاعرية الكامنة في نفسه ..

وتدّرج إبراهيم في قول الشعر ... وفي سنة 1923 نشر – لأول مرة – إحدى قصائده ، وقال عنها : " لعلّها أول قصيدة نشرت في صحيفة " .. وكان من أهم الأسباب التي أعانته على أن يقول الشعر فيجيده بالقياس إلى صغر سنه ، كثرة حفظه للشعر المنتخب ، واهتمامه الكبير بالقرآن الكريم ، فقد كان كثير التلاوة له ، عميق النظر فيه .. ولم تكن تلاوته للقرآن الكريم تلاوة سطحية عابرة ، بل كان يتجه إليه بقلبه وروحه .

وفي أثناء دراسته في بيروت تعرّف إبراهيم على عدد من الأدباء والشعراء ، واستفاد من توجيهاتهم له في عالم الشعر .. وفي عامه الدراسي الثاني في الجامعة ، كانت شاعريته قد بدأت تزخر وتمتلئ .. ونظم قصيدته في الممرضات بعنوان "ملائكة الرحمة " .. ففي عام 1924م مرض إبراهيم ودخل مستشفيات لبنان أكثر من مرة للعلاج ، وكان يلقى فيها رعاية فائقة واهتماماً من قبل ممرضاتها ، فهزّه ذلك وأثار شاعريته ، فنظم قصيدته هذه ، يشيد فيها بالممرضات وبعملهن النبيل ، وبما يقدّمن من خدمات للمرضى .. فجاءت قصيدة فريدة في بابها ، وكان إبراهيم رائداً في إبداعها..  وقد تلقاها الأدباء والشعراء العرب بالاستحسان الكبير ، وأشادوا بها وبناظمها ، وتناقلتها الصحف الأدبية في العالم العربي .

يقول إبراهيم في مطلعها([8]) :

بيضُ الحمائم حَسْبُهُنّهْ أنّي أُردّدُ سَجْعَهُنّهْ

رمزُ السّلامةِ والوداعةِ منذُ بدْء الخَلْق هُنّهْ

في كُلِّ رَوْضٍ فوق دانِية القُطوفِ لَهِنّ أنّهْ

ويمِلْنَ والأغصانَ ما خَطر النسيمُ بِرَوْضِهنّهْ

فإذا صلاهُنّ الهجيرُ هَبَبْنَ نحو غَديرهنّهْ

يَهْبِطنّ بعد الحَوْمِ مثلَ الوحْي لا تدْري بهنّهْ

فإذا وقعن على الغدير ترتّبتْ أسرابُهنَّهْ

وبعد أن ينظم أبياتاً في وصف الحمائم يقول :

المحسناتُ إلى المريض غدونَ أشباهاً لهُنّهْ

الرّوضُ كالمستشفيات ، دواؤها إيناسُهُنّهْ

ما الكهرباءُ وطبّها بأجََلَّ من نظراتِهنّهْ

يُشفي العليلَ عناؤهُنَّ وعطفُهنَّ ولطفهنَّهْ

مرُّ الدّواء بفيكَ حُلوٌ من عذوبة نطقِهِنّهْ

 مهلاً ، فعندي فارقٌ بين الحمام وبَيْنَهُنَّهْ

فَلَرُبَّما انقطع الحمائمُ في الدُّجى عن شدْوهنّهْ

أمّا جميلُ المحسناتِ ففي النهار وفي الدُّجُنّهْ

ومضى إبراهيم في طريق النظم ، وكانت نشوة توفيقه في قصيدة ( ملائكة الرحمة ) قد ملأت عليه نفسه ، بعد سماعه كثيراً من كلمات الإعجاب .

ومضت على إبراهيم سنوات ثلاث في الجامعة ، بلغ في نهايتها الثانية والعشرين .. وقد قعد به المرض خلالها عن إتمام دراسته ، فانتقل إلى نابلس ، ثم عاد إلى الجامعة .. وكان في تلك السنوات الثلاث لا ينقطع عن قول الشعر ، وخاصة في الغزل .. وفي سنة 1925 نشرت له جريدة ( الشورى ) في مصر نشيداً وطنياً لتحية المجاهد الأمير عبد الكريم الخطابي أمير الريف ، فلمّا اطلع الشاعر خير الدين الزركلي على النشيد قال : " إن صدق ظني ، فإن صاحب هذا النشيد سيكون شاعر فلسطين" .

وفي عام 1928 م عزم أمير الشعراء أحمد شوقي على زيارة فلسطين فهبّ الأدباء وحملة الأقلام إلى إعداد العدّة لإقامة المهرجانات حفاوة بالضيف الكبير ، لكن الزيارة لم تتم ، فنظم إبراهيم قصيدة هدف من ورائها إلى إثارة مشاعر شوقي لينظم شعراً في فلسطين وفي قضيتها التي لم يرو التاريخ أظلم منها قضية ، فنظم قصيدة بعنوان ( حطين ) ، قال فيها ([9]) :

أهلاً بشوقي شاعر الفُصحى ومعجزة البيانِ

يا فرقد الشعراء كم من فرقدٍ لعلاك ران

يا باكي الفيحاءِ حين أبتْ تقيم على الهوان

أيام كانت وردةً بدم البواسل كالدّهان

أرسلت عن بردى سلامك في لظى الحرب العوان

وذرفت "دمعاً لا يكفكف " هيّجته الغوطتانِ

عَرِّجْ على ( حطين ) واخشع يشج قلبك ما شجاني

أيقظْ صلاح الدين ربَّ التاج والسيف اليماني

ومثيرها شعواءَ أيوبيةَ الخيلَ الهجانِ

بالعاديات لديه صُبْحاً والأسنّةُ في اللَّبان

والخيل طوعُ كماتِها في النقع مُرخاةِ العنانِ

لا تنثني أو تحرز القصباتِ في يوم الرّهانِ 

وشاعرنا إبراهيم شاعر وجداني مطبوع .. انقاد له اللفظ وانصاع ، أتاه جزلاً حين اقتضى فنّ الكلام أن يجيء جزلاً ، ورقيقاً حين استوجب الفن الترقيق ، وعلى حالي الجزالة والرّقة فالقول فصيح مبين .. ومن أمثلة هذا الشعر الفصيح الماتع ، الذي يتلذذ الإنسان بقراءته وسماعه ، قوله([10]) :

قلْ لمن عابَ صمته         خُلق الحزم أبكما

وأخو الحزم لم تزل         يدُهُ   تسبق  الفما

وقوله :

قد يكون الحزم في العزم وقد         يُكتبُ التوفيقُ للمستعجل

غضبةٌ   من   رجلٍ  في أُمةٍ        جعلته  أمّةً    في  رجل

 

فسمعتُ من منَعَ الرقيق وبيعَهُ         نادى على الأحرار:يا من يشتري!

لا تلجأنّ إذ ظُلمتَ لمنطقٍ        فهناك أضيعُ ما يكون المنطق!

هذه مقتطفات من شعر شاعرنا المبدع إبراهيم .. ومن الحَسَن هنا أن نورد رأي الأستاذ الأديب أكرم زعيتر في إبراهيم وشعره إذ  يقول : " عنده أصالة في الذوق الأدبي ، وبكروة في الوعي الفني نجمت عنهما شاعرية مطبوعة على الأناقة ! .. لقد سمعت كثيريين من فحول الشعراء يرتّلون قصائدهم ، ومنهم من بلغ الغاية في جودة الإلقاء ، ولكن إبراهيم بذّ هؤلاء جميعاً " ..

" الوطن في شعر إبراهيم

إبراهيم طوقان شاعر كبير .. أحبّ وطنه ، ونظم أجمل قصائده في الدفاع عنه.. نظم قصائد وأناشيد للوطن العربي الكبير ، وخص فلسطين " قلب هذا الوطن " بالكثير منها .. فكان أدبه وشعره من العوامل المؤثرة في أحداث البلاد السياسية والثقافية والاجتماعية ..

يقول الاستاذ الأديب أكرم زعيتر ([11]) : قضية فلسطين قضية لا بدّ لها من (أدب ) .. وهذا ( الأدب ) قد يجيء شعراً يسكب الوطنية في قصائد رائعة ، وقد يجيء نثراً يسكبها كلمات بارعة ، وقد يصوغ البطولات والأماني الغالية أناشيد يترنم بها الحداة ، وأهازيج يشدوها الشّداة ، وزغاريد تثير النخوات وتهز من أعطاف المجاهدين الأُباة .. وقد يتجلّى الأدب أقاصيص رفيعة وروايات ، وحكايات توقظ الضمائر وتخصب المروءات !..

وأدباء القضية فريقان : فريق تنبّه ونبّة ،وحذّر وأنذر ، ندّد بالقاعدين ، ونعى على المقصّرين ، حضّ على الجهاد ، وأغرى بالاستشهاد ! مجّد البذل وعظم الفداء ، ثم خلّى مكانه قبل أن تجيء الطامّة التي ما فوقها طامّة !

وفريق عايش النكبة ولا يزال ، توجّع وتفّجع ، وبكى واستبكى ، قصاراه أن يَبُثّ الأمل ، وجهده أن يحث على الوحدة وأن يدعو إلى العمل ، والعزيمة في شرعته تمحو الهزيمة ، والثأر في ملّته يغسل العار .. يٌقسم بالله ربّ " فلسطين " ، ويشبّب بعرائسها : يافا الزهراء ، وحيفا الغرّاء ، والرّملة البيضاء ، وناصرتنا السّبيَّة .. ويكاد يشجيك في منظومه ومنثوره ..

وشاعرنا إبراهيم طوقان ، قضى قبل الجائحة بسبع سنين ، فما شاكت عينه وما أقذتها إسرائيل ، ولكنه استشف ببصيرته نُذُرها ومقدّماتها ، وشام هولها وويلاتها ، فحذّر وأنذر ، وما ونى وما قصَّر ! .. وهو لو طال عمره لكان المُرّجّى لنظم " الملحمة الفلسطينية " التي نفتقدها " .

وشاعرنا إبراهيم شاعر أمة توالت عليها النكبات في هذا الزمان .. فقد فتح عينيه على ظلامات مرّة انتابت قومه في كافة أمصارهم ، فآلمته السياط ، وأفزعته البنادق ، وأرهبته أعواد المشانق .. شاعر عاصر عهد الانجليز الذي حكموا فيه (فلسطين ) حكم العبيد ، بالنار والحديد ، فروّعته المظالم ، وأفزعته المعتقلات .. وتمنى لو لم يعيش في هذا العهد الأسود الذي اتسم بالأغلال والأصفاد ، والجور والاضطهاد ، ليرى أمته دامية الجراح ، مهيضة الجناح .

التحق شاعرنا بالجامعة الأمريكية في بيروت حيث قضى فيها ستة أعوام (1923-1929) وخلال هذه المدة أدرك عُمْرَ الشباب ، ورأى ما يصنع المستعمرون في بلاده ، فارتسمت في أعماق نفسه تلك الأعمال والصّور المؤثّرة التي بدت بعدئذ ألحاناً وطنية في شعره ، ورنّات حماسية في أناشيده .

وفي عام 1928 ركدت الحركة الوطنية في فلسطين وران عليها الوُجوم وسادها الصّمت .. وارتفعت أسهم السّماسرة والدّجالين ، ورجحت موازين دعاة الوطنية الزائفة .. فألقى إبراهيم في حفلة العام الدراسي التي أقامتها كلية النجاح الوطنية في نابلس قصيدة من عيون الشعر الوطني ، وقد اشتهر منها هذا البيت وذهب مذهب المثل([12]) :

(وطنٌ) يُباعُ ويُشترى            وتصيح : " فَلْيحيَ الوطن "!!

أما القصيدة فقد قال فيها :

كفكفْ دموعَك ، ليس ينفعُكَ البكاء ولا العويلُ

وانهضْ ولا تشكُ الزمانَ ، فما شكا إلا الكسول

واسْلك بهمتكَ السّبيلَ ، ولا تقُلْ كيف السّبيل

ما ضلَّ ذو أملٍ سعى يوماً وحكمتُهُ الدّليل

كلا ، ولا خاب امرؤٌ يوماً ومقصدُه نبيل

*   *   *

أفنيتَ يا مسكينُ عمرَك بالتأوُّهِ والحزَنْ

وقعدتَ مكتوفَ اليدين تقولُ : حاربني الزمنْ

ما لم تقم بالعبء أنت ، فمن يقوم به إذنْ؟

 *   *   *

كم قلتَ " أمراضُ البلاد " ، وأنت من أمراضها

والشؤمُ علّتُها : فهل فتشتَ عن أعراضها

يا مَنْ حملتَ الفأسَ تهدِمُها على أنقاضها

أقعدْ فما أنت الذي يسعى إلى إنهاضها

وانظرْ بعينيك الذئابَ تَعُبَّ في أحواضها

*   *   *

(وطنٌ) يُباعُ ويُشترى         وتصيح: "فَلْيحيَ الوطن"!

لو  كنتَ تبغي  خيرَهُ         لبذلتَ   من   دِمكَ  الثّمنْ

ولقُمتَ تَضْمِدُ  جرحَهُ         لو كنت  من  أهلِ  الفطنْ

وانطلق شعر إبراهيم الوطني عقيب ثورة 1929م ، فكان ينظم هذا الشعر ، ويرسله صرخات حافزة ، وناراً مشتعلة .. ومن أشهر قصائده في ذلك الحين (الثلاثاء الحمراء ) ، وقصيدة ( الفدائي ) التي نظمها عام 1930م .

وكان الانجليز منذ بدء انتدابهم على فلسطين يرسون قواعد الوطن القومي اليهودي فأرسلوا إلى فلسطين مندوباً سامياً يهودياً ، ثم جعلوا يسنّون القوانين حتى يفسحوا المجال أمام اليهود بالهجرة وبشراء الأراضي والاستقرار ونيل الامتيازات ، وأخذوا يضطهدون العرب ويهملون شأنهم فتبقى مدنهم وقراهم على ما كانت عليه ، فنشأ الجيل العربي في فلسطين جيلاً جاهلاً ضعيفاً فقيراً .. وبعدئذ قام الانجليز بإفساد الأخلاق ونشر المسكرات بين الشبان وبخاصة بين رجال الطبقة الاجتماعية العليا . وتولى الانجليز واليهود تسهيل سبل الفسق والانحراف للطبقات الوسطى والدّنيا ، وأغروهم بالأموال لبيع أراضيهم ، وبذلوا لهم فيها أثماناً كبيرة ، فكان الفلاح الذي لا يأتيه من أرضه إلا بضع جنيهات في العام ، يدفع معظمها ضرائب للسلطات البريطانية .. كانوا يعرضون عليه عشرات الألوف ثمناً لأرضه ..

ولما عرف المخلصون من أبناء فلسطين عدداً من سماسرة بيع الأراضي ، وأيقن إبراهيم أن هؤلاء السّماسرة هم عامل بارز في ضياع البلاد وتهويدها .. حمل عليهم حملات عنيفة في شعره الوطني .. واشتدت نقمة إبراهيم على السماسرة ، وعلى باعة الأراضي وعلى الزعماء الذين سهّلوا بيع الأراضي .. فنظم قصيدة كشفهم فيها للناس على حقيقتهم ، وقال فيها ([13]) :

أمـا  سـمـاسـرةُ البلاد iiفعصبةٌ
يـتـنـعـمـون مُكرّمين ، iiكأنّما
هـم  أهـل نجدتها ، وإن أنكرتهم
وحُـمـاتـهـا ، وبهم يتمُّ iiخرابُها
كيف الخلاص إذا النفوس تزاحمت




عـارٌ عـلـى أهل البلاد iiبقاؤها!
لـنـعـيـمـهم عمّ البلاد iiشقاؤها
وهـمو  ، وأنفك راغم ، iiزعماؤها
وعـلـى  يـديهمْ بيعها iiوشراؤها
أطـمـاعُها ، وتدافعتْ iiأهواؤها؟!

وفي ربيع عام 1930م اجتمع في نابلس ثلاثة شعراء هم : عبد الرحمن عبد المجيد ، والشيخ محمد البسطامي ، وإبراهيم طوقان فطرح أحدهم السؤال التالي شعراً :

رعاك الله ما تصنع              لو لاقيت سمساراً ؟!

فاستطاب ثلاثتهم السؤال وتداولوا بهذه الأبيات :

إذا ألـفيته في iiالدارِ
وأجـمـعـه iiبملقاط
أصـوّبُ بين iiعينيه
أعـلّقُ  لوحة فيها ii:



أهـدمُ فـوقه iiالدارا
وأضـرم فوقه النارا
أدقّ  هـناك iiمسمارا
(ألا قبّحت سمسارا!)

وكان إبراهيم يشكو قلَّة المخلصين من الذين يتصّدون للزعامات والمناصب وقد ردّد شكواه في مناسبات كثار من ذلك قوله :

رحم  الله   مخلصاً  لبلاد        ساوموه الدّنيا بها فأباها

لو أتوه بالتّبر وزنَ ثراها        لأباه وقال :أفدي ثراها !

وفي خريف سنة 1933م سارت في فلسطين تظاهرات عنيفة صاخبة احتجاجاً على تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وتقدّم زعماء البلاد تلك التظاهرات التي سارت رغم منع السلطات البريطانية لها .. وكانت تظاهرة يافا أعنفها ، وقد أمّتْها وفود من الشام وشرقي الأردن تضامناً مع فلسطين .. وقُتل فيها نحو ثلاثين ، وجرح نحو سبعين ، وقُبض على بعض الزعماء وحوكموا فحكم عليهم بالسجن مدداً متفاوتة ، وعُرض عليهم توقيع تعهد بحسن السلوك مقابل إطلاق سراحهم ، فوقّعوا ما عدا الشيخ عبد القادر المظفر فسُجن ستة أشهر ... وكان قبول التوقيع مثار خلاف، وهذا الموقف البطولي للشيخ المظفر أثار شاعرنا إبراهيم ، فنظم قصيدة قال فيها ([14]):

أحـرارنـا  ! قد كشفتم عن iiبطولتكم
أنـتـم رجـال خـطـابـات منمّقة
أضحتْ فلسطين من غيظ تصيح بكم:


غـطـاءَهـا  يـوم توقيع iiالكفالات
كـمـا عَـلِـمنا،وأبطال iiاحتجاجات
خـلّـوا  الطريق فلستم من iiرجالاتي

ولما كان للنشيد دوره في تقوية العزيمة وإثارة الحماس ، فإن شاعرنا إبراهيم كان في مقدّمة الحُداة الذين نظموا لأمتهم أناشيد ردّدها الشباب ، وتربّت عليها الأجيال ، واشتدَّت بها العزائم ... وتغنّى بها شعب فلسطين ، فكانت له زاداً على طريق الجهاد ..

ومن تلك الأناشيد .. نظم إبراهيم نشيداً بعنوان ( موطني ) ، وقد ذاع صيته في كافة الأقطار العربية ، المتحفّزة للوثوب ، المتطلعة إلى فجر يوم جديد([15]) :

موطني..

الجلالُ والجمالُ

والحياةُ والنجاة

والسّناءُ والبهاءُ

والهناءُ والرجاءُ

في رُباكْ

في هواكْ

هل أراك

سالماً منعّماً                وغانماً مكرّماً

هل   أراكْ                 في    عُلاكْ

تبلغُ السِّماكْ

موطني

وفي العام الدراسي 1929/1930 عُيّن إبراهيم معلماً للعربية في (كلية النجاح) بنابلس ، فنفث في طلابه روحاً وطنية ضد الاستعمار .. وإبّان عمله في هذه الكلية غادر المغرب العربي – يوم كان يرزح تحت الحكم الإسباني – فتية من المغرب قصدوا كلية النجاح ، فنظم إبراهيم نشيداً جميلاً مؤثراً أنشده أولئك الطلاب بنغم شجيٍّ ساحر ، فقال ([16]):

فـتـيـة الـمـغرب هيّا iiللجهاد
نـحـن  أبـطالُ فتاها(ابن زياد)
*              *              ii*
قِفْ على الشاطئ وانظر هل ترى
يـومَ  لا(طـارق)عـاد iiالقهقري
*              *              ii*
يـومَ  لا عـزمُ الجبالِ iiالراسياتْ
لا ولاهـمّـةُ بـحـرِ الـظلماتْ
*              *              ii*
يـا  فـتى المغربِ سَلْها من iiبنى
فـأعِـدْهـا لـذويـهـا iiوطـناً
نـحـن أهـلوها وإن هَبّتْ iiصَبا
جـنّـةُ  الـفردوسِ هاتيك الرُّبى












نـحـن أولـى الـناس بالأندلسِ
ولـهـا  نُـرخصُ غالي iiالأنفس
*              *              ii*
لـهـبَ الـنـارِ وآثـار iiالسّفينْ
لا،ولا  آبـاؤنـا أُسْـدُ iiالـعرينْ
*              *              ii*
مُـشْـبـهٌ عـزم شباب iiالمغربِ
أشـبـهـتْ هِـمّةَ جيش iiالعربِ
*              *              ii*
دارهـا  (الـحمراء) تسمعْ iiعَجَبا
تـحـسـد الـدُّنـيا عليه iiالعربا
مـن  رُبـاهـا فـعـلـينا iiأوّلا
كـيـف  تـبـقى لسوانا iiنُزُلا؟!

وفي أحلك الساعات لم ينسَ إبراهيم ( فلسطين ) وطنه المغصوب .. فقد ظلّ فؤاده متعلقاً به متتبعاً ما يجري فيه من حوادث الثورة على الانتداب وأعوانه ، مرسلاً في شعره الوطني صيحات عنيفة تعبر عما يتجاوب في شعوره نحو قضية بلاده.. وفي ( كلية النجاح ) أيضاً ، نظم إبراهيم نشيد ( وطني ) وفيه أفرغ حبه لذلك الفردوس المفقود وأودع كل كلمة من كلماته روحه العالية ، وما يلتهب بين جوانحه من وطنية صادقة ، وعقيدة راسخة .. فكان مطلع هذا النشيد([17]) :

وطني، أنت لي والخصمُ راغمٌ         وطني أنت كل المنى

وطني ،   إنني  إن  تسلم سالمٌ        وبك  العزُّ  لي والهنا

وفي عام 1929 عندما رأى اليهود قوة الاستعمار الصليبي ومساندته لهم ، طالبوا بملكية الجدار الغربي للمسجد الأقصى ، وساروا إليه بمظاهرة مسلحة ، فأثار ذلك المسلمين وهبَّوا للدفاع عن مسجدهم ، وكانت ثورة سنة 1929م التي سميت بثورة البراق نسبة إلى هذا الحادث الذي فجَّر الثورة .. ونظم شاعرنا إبراهيم نشيداً بعنوان " نشيد البراق " ، وقال في مطلعه([18]) :

لـنا البُراقُ iiوالحَرَمْ
أرواحُـنا  ، iiأموالنا
*       *       ii*
نحنُ الشبابُ iiالمسلمُ
نـمـوتُ  أو iiنُكَرَّمُ




لنا الحِمى ، لنا العَلَمْ
فِدَى البُراق iiوالحَرَمْ
*       *       ii*
واللهِ  لا iiنُـسَـلّـمُ
فِدى البُراقِ iiوالحَرَمْ

ولشاعرنا إبراهيم نشيد بعنوان " أشواق الحجاز " .. ومَنْ منّا لا يشتاق إلى الحجاز ؟! فذكر الحجاز يثير في نفس المسلم الشّوق والحُبّ والإجلال والتقدير .. والحجاز بلد الرّحمة المهداة .. حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام .. والحجاز يضمُّ أقدس مدينتين لدى المسلمين ..مكة المكرمة والمدينة المنورة ..

ومن الحجاز انطلقت دعوة الإسلام .. وانطلق الصّحابة المجاهدون ، يهدون الناس إلى البّر .. وينشرون العدل والرّحمة والنور ..

وإبراهيم طوقان الذي نظم الأناشيد لأرض الإسراء وتغنّى بالقدس وفلسطين .. لا يفوته أن يذكر أن هذا الشرف الذي حَظيت به القدس إنما جاء إليها من أرض الحجاز .. من مكة المكرمة والمدينة المنورة .. فنظم لأمته العربية والإسلامية هذا النشيد بعنوان " أشواق الحجاز " ، فقال([19]) :

بِـلاد الـحـجاز إليْكِ iiهَفا
ويـا  حَـبّذا زَمْزمٌ iiوالصَّفا
*           *           ii*
ذِكْـرى  الـهادي iiوالأمْجادِ
أَثَـرُ  الـهِـمَـم مُنْذُ iiالقِدَمِ
بــلادَ      الــكــرامِ
عـَلـَيْــكِ iiسَــلامـي
*           *           ii*
هَـنيئاً  لِمَنْ حَضَرَ iiالمَشْهدا
وَمَـن  قَبّلَ الحَجَرَ iiالأسْوَدا
*           *           ii*
بِروحي  رُبُوعَ النّبيّ الأَمينْ
ومَشْرِقَ  نورِ الكِتابِ المبينْ
*           *           ii*
ذِكْـرى  الـهادي iiوالأمْجادِ
أَثَـرُ  الـهِـمَـم مُنْذُ iiالقِدَمِ
بــلادَ        الـكــرامِ
عـَلـَـيْــكِ iiسـَلامـي

















فـؤادي وهـامَ بِحُبِّ iiالنَّبي
ويا طيبَ ذاكَ الثّرى الطّيِّبِ
*           *           ii*
مـلءُ  الـوادي والأنْـجادِ
حَـوْلَ الـحَـرمِ أبَـداً iiبادِ
شُــمــوس الــهُـدى
مَــدًى         iiسَـرْمـَدا
*           *           ii*
وطـافَ  بكَعْبَةِ ذاكَ iiالحَرَمْ
وَظَـلَّـلَهُ  الرُّكْنُ لمّا iiاسْتَلَمْ
*           *           ii*
وصَـحْبَ  النّبيّ هُداةَ iiالملا
عـمـادَ الحياةِ ورُكْنَ iiالعُلا
*           *           ii*
مـلءُ  الـوادي والأنْـجادِ
حَـوْلَ الـحَـرمِ أبَـداً iiبادِ
شُـمـوس     الـهُــدى
مــَدًى         iiسـَرْمـَدا

هذا هو إبراهيم طوقان .. كان شاعراً خفيف الرّوح ، خفيف الظّل ، بارع النكتة ، حاضر البديهة ، ولكنه كان يخفي وراء ذلك كله غمّاً وهمّاً ، ورُبّ ابتسامة نمّت عن مرارة .. وكان رهيف الحس ، دقيق الشعور ، ناحل البنية يشكو ألماً في معدته .. وقد أثّر هذا كله في بعض نواحي شعره من حيث لا يدري .. ومن هنا جاءت بعض " فلسطينياته " دكناءَ تنضح بالحملات الشعواء على الزعامة والزعماء..

كانت " فلسطينيات " إبراهيم تمجيداً للبطولات حيناً ، وتنديداً بالزعامات أحايين أخرى ، ولعل التمجيد كان مقتصراً على الأحداث الوطنية للعقد الأول من العهد البريطاني ، مثل " الثلاثاء الحمراء " و " الفدائي " و " الشهيد " .. أما التنديد فاتسمت به معظم " فلسطينياته " ، ومن ذلك ما نظمه سنة 1935م فقد كان حافلاً بالنقمة ، مع أن هذا العام قد امتاز في تاريخنا بحركة بطولة خارقة تمثلت في شخص الشهيد عز الدين القسام وصحبه الأشاوس ، وامتازت بغضبات وطنية عُدّت إرهاصاً للثورة الكبرى ، التي نشبت سنة 1936م وامتدت ثلاث سنوات ، ورافقها إضراب تاريخي فذّ عاش ستة شهور ، وتجلّت فيها عبقرية الكفاح الفلسطيني .. ولعلّه من سوء حظ أدبنا الثوري أن يكون إبراهيم القيّم على القسم العربي من الإذاعة الفلسطينية في تلك الحقبة ، فحال ذلك دون انطلاقه شاعراً للثورة ، وإن هو لم يأل جهداً في خدمة عربيته في مضماره الجديد ..

فالصّور التي رسمتها براعة إبراهيم ببيان شعري موهوب كانت تفتقد صوراً أخرى لملاحم فلسطين وثورتها وبطولاتها ، ذلك أنّ من بواعث الأمل وهائجات العزائم والهمم ودواعي الثقة بالنفس وموجبات الحق ومُلزمات الإنصاف لتاريخنا النضالي أن تعلم الأجيال القادمة بأن الشعب العربي الفلسطيني ضرب أشرف الأمثال وأروعها في الذياد عن فلسطين ، وكافح أخبث شعوب الأرض وأقوى دولها ثلاثين عاماً بلا وهن !..

وقد كان لصرخات إبراهيم الوطنية والمدوية أثر بعيد في شحذ الهمم ، وتفتّح الوعي ، والتنبيه إلى ما يراد بفلسطين وسائر الأقاليم العربية ، من جور واضطهاد ، وذلٍّ وأصفاد ، تمهيداً لتهوديها وتقديمها لقمة سائغة لشذاذ الآفاق الذين ضربوا في دنيا التشرد عرضاً وطولاً ، وانطلقوا من قماقمهم يتطلعون إلى فلسطين وسواها من دنيا العرب كوطن يجمع شتاتهم من النيل إلى الفرات ..

وقد نبّهت تلك الأفكار العاملين في الحقل الوطني ، وأضرمت نار الثورات على أديم فلسطين ، وأثارت مشاعر إبراهيم وهو الشاعر المرهف الحس ، الصلب العود ، فهبّ إلى إثارة قومه وتنبيههم إلى ما يُراد بهم من جور وإذلال بشعر وطني عارم ، رأى فيه المستعمرون لهباً يؤجج الوعي ويفسد عليهم خططهم ، فجّنبوا إبراهيم إدارة القسم العربي في دار الإذاعة الفلسطينية ، وضيقوا عليه الخناق ، وحملوه على الهجرة إلى العراق ، وهناك عاوده المرض وعزّ الدّواء ، فرجع إلى فلسطين ليلقى فيها ربّه ، ويقضي نحبه([20]) .

" قصائد مختارة من شعره

;  1l

"  الثلاثاء الحمراء

في صيف عام 1929م حاول اليهود في فلسطين الخروج على التقاليد الثابتة المتعلقة بزيارتهم الجدار الغربي من ( البراق ) ، فهاج العرب إذ فطنوا لما يبيته اليهود من وراء هذه المحاولة من اعتداء على الأماكن المقدسة في فلسطين ، ومن جراء تلك المحاولة الآثمة نشبت في كبريات المدن الفلسطينية كالقدس والخليل ويافا وصفد اضطرابات دامية بين العرب واليهود قُتل فيها عدد من هؤلاء المعتدين في صفد والخليل .. وما لبثت السلطات البريطانية أن قبضت على نفر من الشبان العرب ، واتهمتهم بقتل اليهود ، وحوكموا وحكم عليهم الإنجليز بالإعدام ، وهم : الشهيد فؤاد حجازي من صفد ، والشهيد محمد جمجوم والشهيد عطا الزير من الخليل .. وبعد أن أمضى الأبطال الثلاثة عدة شهور في سجن عكا رهن الاعتقال ، تم إبلاغهم بأن السابع عشر من حزيران سنة 1930م سيكون موعد تنفيذ حكم الإعدام بهم .. وتدخّل رجالات العرب وأبرقوا إلى صديقتهم بريطانيا العظمى ، وبذلوا كل المحاولات لوقف تنفيذ الحكم ، ولكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح ..

أما الأبطال الثلاثة فقد استقبلوا النبأ بروح راضية ومعنويات مرتفعة ، وأظهروا شجاعة بطولية جعلتهم مضرب الأمثال .. وكانوا في سجنهم ينشدون نشيداً وطنياً حماسياً صار ملتصقاً بهم وبجهادهم ، حيث لا يُذكر هذا النشيد الذي نظمه الأستاذ نجيب الرّيس إلا ويُذكر معه الأبطال الثلاثة .. أما النشيد فيقول :

يا ظلام السّجن iiخيّم
لـيس بعد اللّيل iiإلاّ
*       *       ii*
يا  رنين القيدِ iiزدني
إنّ في صوتك معنى
*       *       ii*
إيـه  يا دار iiالفخار
لن نخون العهد iiيوماً







إنـنا نهوى iiالظّلاما
فـجر مجدٍ iiيتسامى
*       *       ii*
نغمة  تشجي iiفؤادي
للأسى  iiوالإضطهاد
*       *       ii*
يـا مقرّ iiالمخلصينا
واتخذنا الصّدق iiدينا

" وفي نهار الثلاثاء السابع عشر من حزيران ، كان التكبير على المآذن ، وقرع النواقيس في الكنائس ، يتجاوب صداهما في أرجاء فلسطين .. ففي هذا النهار تمّ تنفيذ حكم الإعدام بالشهداء الثلاثة في ثلاث ساعات متوالية ، فكان أولهم ( فؤاد حجازي ) ، وثانيهم ( محمد جمجوم ) ، وثالثهم ( عطا الزير ) .. وكان من المقرّر أن يكون الشهيد عطا الزير ثانيهم ، ولكن جمجوماً حطم قيده وزاحم رفيقه على الدور ، حتى فاز ببغيته "([21]) .

وهنا يأخذ إبراهيم ريشة الشاعر الفنان ليصور ذلك اليوم القاني المخضب بالدماء أروع تصوير ، وليسجل في سفر الشعر الوطني مصارع أولئك الشهداء فتكون (الثلاثاء الحمراء ) تلك القصيدة الخالدة الموّارة بعبق الوطنية المتوثبة المضّمخة بعطرها ..

" وكان يوم حفلة ( كلية النجاح ) السنوية في نابلس ، ولم يكن قد مضى على تنفيذ حكم الإعدام بهؤلاء الشهداء أكثر من عشرة أيام ، فالنفوس لا تزال ثائرة ، والعواطف لا تزال مضطربة ، وفي تلك الحفلة ، ألقى إبراهيم قصيدة ( الثلاثاء الحمراء ) وذهل عن الجمهور وشعر كأنما خرج من لحمه ودمه فكان يلقي بروحه وأعصابه ، فما انتهى ، حتى كان بكاء الناس يعلو نشيجه ، ثم تدفقوا خارج القاعة في حالة هياج عظيم "([22]) ..

أبيات القصيدة

لـمّـا تَعَرّضَ نَجْمُكَ iiالمنحوسُ
نـاح  الأذانُ وأعـولَ iiالناقوسُ
طَفِقَتْ تثورُ عواطفٌ وعواصفُ
والمِعْوَلُ الأبديُّّ يُمْعِنُ في iiالثّرى



وترنّحت  بِعُرى الحِبالِ iiرؤوسُ
فـالـلّيلُ  أكدرُ والنَّهارُ iiعَبوسُ
والموتُ  حيناً طائفٌ أو iiخاطفُ
لـيـردَّهـم  في قلبِها المتحجِّرِ

وبعد ذلك أراد الشاعر أن يؤكد هول ذلك اليوم فقارنه بجميع أيام الظلم السالفة فلم يجد بينها ما يحاكيه :

يـومٌ  أطلَّ على العصور iiالخالِيَهْ
فـأجـابَـهُ يـومٌ:"أجلْ أنا iiراويَهْ
ولـقـد شـهدْْتُ عجائباً iiوغرائبا
لـم ألـقْ أشـباهاً لها في جوْرِها
*              *              ii*
وإذا  بـيـومٍ راسـفٍ بـقـيودِهِ
أُنـظـرْ إلى بيضِ الرَّقيقِ وسودِهِ
بـشـرٌ  يُـباعُ ويُشترى iiفتحرّرا
فـسـمعتُ مَنْ منعَ الرَّقيق iiوبَيْعَهُ
*              *              ii*
وإذا بـيـومٍ حـالـكِ iiالـجِلْبابِ
فـأجـابَ  : كلاّ، دون ما بكَ iiبي
وشـهـدتُ (للسفاح) ما أبكى iiدما
لـم ألـقَ مِـثْلَكَ طالعاً في روعةٍ
*              *              ii*
(الـيـومُ)  تُنكرهُ اللّيالي iiالغابرهْ
عـجـبـاً لأحكام القضاءِ الجائرهْ
وطـنٌ  يسيرُ إلى الفناء بلا رجاءْ
إنّ الإبـاءَ مـنـاعـةٌ إن iiتَشْتَمِلْ
*              *              ii*
الـكلُّ  يرجو أن يبكِّرَ iiعَفْوُهُ(23)
إنْ  كـان هـذا عـطـفُهُ iiوحُنُوّهُ
حَـمَـلَ الـبريدُ مُفصِّلاً ما أُجملا
والـمـوتُ فـي أخذِ الكلامِ iiوردِّهِ
*              *              ii*
ضـاق  الـبـريدُ وما تَغيّر iiحَالُ
خُـسْـرانُـنا الأرواح، iiوالأموالُ
أوَ تُبصرونَ وتسألونْ ماذا يكونْ؟!
هـيـهاتَ،فالنفسُ  الذليلةُ لوغَدَتْ
*              *              ii*
أنّـى  لـشـاكٍ صوتُه أن iiيُسْمَعا
صـخـرٌ  أحسّ رجاءَنا iiفتصدّعا
لا تعجبوا،فمن الصخورْ نبعٌ iiيفورْ
لا  تـلـتمسْ يوماً رجاءً عند iiمَنْ

































ودعـا أمـرَّ على الورى iiأمثاليَهْ!
لِـمـحـاكِم  التّفتيش تلكَ iiالباغِيَهْ
لـكـنَّ فـيـكَ مـصائباً iiونوائبا
فـاسْألْ  سوايَ وكم بها مِنْ iiمنكَرِ
*              *              ii*
فـأجابَ ، والتاريخُ بعض iiشُهودِهِ
مَـنْ شـاءَ كـانـوا مُلكَهُ iiبنقودِهِ
ومـشى الزّمانُ القهقري فيما أرى
نادى على الأحرارِ يا مَنْ iiيشتري!
*              *              ii*
مُـتَـرَنّـحٍ  من نَشْوَةِ iiالأوْصابِ
أنـا في رُبى(عاليهْ) ضاع iiشبابي
ويـلٌ لـه مـا أظـلـمـا iiلكنّما
فـاذهـبْ لعلّكَ أنتَ يومُ iiالمحشرِ
*              *              ii*
وتـظـلُّ  تَـرْمُـقُه بعينٍ iiحائرهْ
فـأخـفُّـهـا أمـثالُ ظُلمٍ iiسائرهْ
والـداءُ  لـيس له دواء إلاّ iiالإباءْ
نـفـسٌ عـلـيه تَمُتْ ولمّا iiتُقهرِ
*              *              ii*
نـدعـو  لـه ألاّ يُـكَدَّرَ iiصفوُهُ!
عـاشـتْ جـلالَتُهُ وعاشَ iiسُمُوُّهُ
هـلاّ اكـتـفـيتَ توسُّلاً iiوتسوُّلا
فـخذِ الحياةَ عن الطريقِ iiالأقصرِ
*              *              ii*
والـذُّلُّ بـيـن سـطورنا iiأشكالُ
وكـرامـةٌ-يـا  حسرتا- iiأسمالُ
إنّ  الـخداعَ له فنونْ مثلُ الجنونْ
مـخـلـوقةً  من أعينٍ لم iiتُبْصرِ
*              *              ii*
أَنّـى  لـبـاكٍ دمـعُـه أنْ iiينفعا
وأتـى  الـرَّجـاءُ قلوبهم iiفتقَطّعا
ولـهـم  قلوبٌ كالقبورْ بلا شعورْ
جـرّبْـتَـهُ  فـوجـدتَهُ لم يَشْعُرِ

الساعات الثلاث

ثم ينتقل الشاعر إلى وصف الساعات الثلاث الرهيبة التي نفذ فيها حكم الإعدام بالشهداء الثلاثة حيث خُصصت لكل منهم ساعة ، فيقول :

الساعة الأولى

أنـا  ساعةُ النّفسِ iiالأبيّهْ
أنـا  بكْرُ ساعاتٍ iiثلاثٍ
بـنْـتُ  القضيّةِ إنّ iiلي
أَثَـرُ  السُّيوف iiالمشرَفيّةِ
أودعتُ  في مُهجِ الشّبيبةِ
لا بـدّ مـن يـوم لـهم
قسماً بروح (فؤاد) تصعدُ
تـأتـي  الـسّماءَ iiحفيّةً
مـا نـال مرتبة iiالخلودِ
عاشتْ  نفوسٌ في iiسبيل









الـفـضلُ لي iiبالأسبقيّهْ
كـلُّـهـا رمـزُ iiالحميّهْ
أثـراً  جليلاً في iiالقضيهْ
والـرّمـاح  iiالـزاغبيّهْ
نـفْـحـةَ الرُّوحِ iiالوفيّهْ
يسقي العدى كأس iiالمنيّهْ
مـن  جـوانـحهِ iiزكيّهْ
فـتـحـلُّ  جنَّتها العليّهْ
بـغـير تضحية iiرضيّهْ
بـلادهـا ذهبتْ iiضحيهْ

الساعة الثانية

أنـا  ساعةُ الرّجل العتيدِ
أنا ساعةُ الموت المشرِّفِ
بـطـلـي يُـحَطّمُ iiقيدَهُ
زاحـمـتُ مَـنْ iiقَـبْلي
وقَدَحْتُ  في مُهجِ الشباب
هـيهاتَ  يُخدَعُ iiبالوعودِ
قسماً  بروحِ ( محمد ) ii:
قـسـماً بأمِّكَ عند iiموتِكَ
وتـرى العزاءَ عن iiابنها
مـا نـالَ مَنْ خدمَ iiالبلادَ









أنـا  ساعة البأس الشّديدِ
كـلَّ  ذي فـعـلٍ iiمجيدِ
رمـزاً  لـتحطيم iiالقيودِ
لأسبِقَها إلى شَرَفِ الخلودِ
شـرارة  الـعزمِ iiالوطيدِ
وأن  يُـخـدَّرَ iiبـالعهود
تلقى  الرّدى حُلْوَ iiالورودِ
وهـي تـهـتفُ iiبالنّشيد
فـي صيتِه الحسنِ البعيدِ
أجَـلَّ  مـن أجْرِ الشهيدِ

الساعة الثالثة

أنـا  ساعةُ الرّجل الصبورِ
رمـزُ الـثباتِ إلى iiالنّهايةِ
بـطـلـي أشـدُّ على لقاءِ
جـذلان  يـرتـقب الرَّدى
يلقى الإله (مُخضَّبَ iiالكفّيْن)
صبرُ الشباب على المصابِ
أنـذرتُ أعـداءَ iiالـبـلاد
قـسماً  بروحك يا ii(عطاء)
وصـغـاركَ الأشبالِ iiتبكي
مـا أنـقـذ الوطنَ iiالمفدَّى









أنـا سـاعـة القلب الكبيرِ
فـي  الـخطير من iiالأمورِ
الـموتِ  من صُمِّ الصُّخورِ
فـاعجبْ لموتٍ في iiسرور
فــي يـوم iiالـنـشـور
وديـعـتـي ملءُ iiالصدور
بـشـرِّ يـومٍ iiمُـسـتطير
وجـنّـةِ  الـمِـلكِ iiالقدير
الـلـيـثَ  بالدمعِ iiالغزيرِ
غـيـرُ  صـبّـارٍ iiجسورِ

الخاتمة

وأخيراً ينهي القصيدة بهذه الخاتمة الفريدة في قوّتها وعاطفتها :

 الأبطال الثلاثة

أجـاسـدهمْ في تربة iiالأوطانِ
وهـناكَ لا شكوى من iiالطغيانِ
لا ترجُ عفواً من سواهْ هو الإلهْ
جَـبَـروتُه  فوقَ الذينَ iiيغرّهمْ



أرواحُـهـم في جنّةِ iiالرّضوانِ
وهـناك  فَيْضُ العَفْوِ iiوالغُفرانِ
وَهْـوَ الذي ملكت يداهْ كلَّ iiجاهْ
جَـبَـروتُهمْ في بِّرهْم iiوالأبْحُرِ

" قصائد مختارة من شعره

;  2l

"  الفدائي

كانت مهمّة الانتداب البريطاني في فلسطين إذلال أهلها ، وتهيئة البلاد لقيام دولة لليهود على أرضها .. واستعمل الإنجليز كل الوسائل التي تحقق هذا الهدف .. وإمعاناً في إذلال عرب فلسطين وقهرهم والكيد لهم ، عيّنت الحكومة المنتدبة يهودياً بريطاني الجنسية لوظيفة النائب العام في فلسطين .. وعهدت إليه بمهمة (طبخ) القوانين التعسفية التي من شأنها إضعاف العرب وتهويد فلسطين .. ولما ثقلت على العرب وطأته ، كمن له شاب أبيّ – هو عبد الغني محمد أبو طبيخ من بلدة قباطية التابعة لمحافظة جنين – في مدخل دار الحكومة بالقدس وأطلق عليه النار فجرحه ، وهذه أول محاولة اغتيال سياسي يقوم بها شاب فلسطيني بمفرده .. فنظم إبراهيم في هذا الشاب الجريء قصيدة في 9 حزيران 1930 م ، سماها الفدائي .

أبيات القصيدة

لا  تَـسلْ عن iiسلامتهْ
بـدّلـتْـهُ iiهـمـومُهُ
يَـرقـبُ الساعةَ iiالتي
شـاغلٌ  فكرَ منْ iiيرآهُ
بَـيْـنَ جـنْبيهِ iiخافقٌ
من  رأى فَحْمَةَ iiالدُّجى
حَـمّـلَـتْـهُ  جـهنّمٌ
هـو بـالـبابِ واقفُ
فـاهدأي  يا iiعواصفُ
*         *        ii*
صـامـتٌ لـو iiتكلّما
قُـلْ لمن عاب iiصمتَهُ
وأخـو  الحزم لم تزلْ
لا  تـلوموه ، قد iiرأى
وبــلاداً iiأحـبّـهـا
وخـصـومـاً iiببغْيِهمْ
مـرَّ حينٌ ، فكاد iiيقتُلهُ
*         *        ii*
هـو بـالـبابِ واقفُ
فـاهدأي  يا iiعواصفُ



















روحـه فـوق iiراحتهْ
كـفـنـاً  من iiوسادتِهْ
بـعـدَها هولُ iiساعتِهْ
بـإطـراقِ iiهـامـتِهْ
يـتـلـظّـى  iiبغايتهْ
أُضْرمَتْ  من iiشرارتِهْ
طَـرَفـاً مـن رسالتِهْ
والـرّدى مـنهُ iiخائفُ
خـجـلاً  من جراءتِهْ
*         *        ii*
لَـفَـظَ  الـنّارَ والدَّما
خُـلِـقَ الـحزمُ أبكما
يـدُهُ تـسـبـقُ iiالفما
مَـنْـهجَ  الحقِّ مُظلما
ركـنُـهـا قـد iiتهدَّما
ضجّت الأرضُ والسّما
الـيـأسُ ، إنّـما ii...
*         *        ii*
والـرّدى مـنهُ iiخائفُ
خـجـلاً  من جراءتِهْ

" قصائد مختارة من شعره

;  3l

"  الشّهيد

سجّل إبراهيم طوقان آلام فلسطين وآمالها خلال الانتداب الإنجليزي ، كما لم يسجله شاعر فلسطيني من قبل .. وخلّد ثورة فلسطين وشهداءها سنة 1929 في قصيدة ( الثلاثاء الحمراء ) .. ثم عاد في الذكرى الرابعة لهؤلاء الشهداء فخلّدهم مرة أخرى في قصيدة " الشهيد " التي نظمها عام 1934م .. كل ذلك في شعر حماسي لاهب ، فلا بكاء وسلا استخذاء ، وإنما هي صرخات مدوّية مجلجلة ، تحفز الهمم،وتثير الشعور بالعزّة والإباء ..

ولا نخالنا مبالغين إذا قلنا بأن قصيدة إبراهيم في وصف الشهيد وتخليدة من أرفع ما وصل إليه الشعر العربي الحديث في هذا الباب فهي غنية في روحها غنية في ديباجتها .. وهي صورة صادقة لكل شهيد .

أبيات القصيدة  ([23

عَـبَس الخطبُ iiفابتسمْ
رابـط الجأشِ iiوالنُّهى
لـم  يُـبالِ الأذى iiولم
نـفـسُـهُ  طَوْعُ iiهِمّةٍ
تـلـتـقي في مزاجِها
تـجمعُ  الهائجَ الخِضَمَّ
وَهْيَ من عُنصر iiالفِداءِ
ومـن الـحـقّ iiجذْوةٌ
*         *        ii*
سـارَ  في منهج iiالعلا
لا  يـبـالـي ، مكبَّلا
فـهـو رهْنٌ بما iiعزمْ
ربـمـا غـالَهُ iiالرَّدى
لـم يُـشـيَّـعْ iiبدمعة
ربـمـا أُدرج iiالترابَ
لـستَ  تدري iiبطاحُها
لا  تـقـلْ أين iiجسمُه
إنّـه كـوكـبُ iiالهدى
أرسلَ النُّورَ في العيونِ
ورمى النارَ في iiالقلوبِ
*         *        ii*
أيُّ  وجـه iiتـهـلّـلا
صـعَّدَ  الرّوحَ iiمُرسلا
أنـا لـلـه iiوالـوطنْ























وطـغى  الهولُ فاقتحمْ
ثـابـتَ  القلبِ iiوالقدمْ
يَـثْـنِـه طارئُ iiالألمْ
وَجَـمَـتْ دونَها iiالهِمَمْ
بـالأعـاصيرِ iiوالحُممْ
إلـى  الـراسخِ iiالأشَمْ
ومـن  جـوْهرِ iiالكرمْ
لـفـحُـها حرَّرَ iiالأممْ
*         *        ii*
يـطـرُقُ الخلدَ iiمنزلا
نـالَـهُ  أمْ iiمُـجَـنْدَلا

وهـو بالسجنِ iiمُرتهنْ
مـن  حبيبٍ ولا iiسَكَنْ
سـلـيـبـاً من الكفنْ
غَـيَّـبـتْـه أم iiالقُننْ
واسـمُه  في فم iiالزمنْ
لاحَ  في غَيْهبِ iiالمحنْ
فـمـا  تعرفُ iiالوسنْ
فـمـا  تعرف الضَّغَنْ
*         *        ii*
يَـردُ الـمـوتَ iiمُقْبلا
لـحـنَـه  يُنشِدُ iiالملا

            

 "  المصادر والمراجع

1- ديوان إبراهيم طوقان ، دار القدس ، بيروت ، 1975م .

2- د. زكي المحاسني : إبراهيم طوقان شاعر الوطن الغصوب ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1955م .

3- د. عمر فروخ : شاعران معاصران ، المكتبة الأهلية ، بيروت ، 1954م .

4- فدوى طوقان : أخي إبراهيم ، مقدمة ديوان إبراهيم طوقان .

5- د. وليد جرار : شاعران من جبل النار ، عمان ، 1985م .

6- يعقوب العودات ( البدوي الملثم ) : الوطن في شعر إبراهيم طوقان ، عمان، المطبعة الوطنية ومكتبتها ، 1985م .

 الهوامش:

([1] ) شاعران معاصران ص19 . وشاعران من جبل النار ص83 .

([2] ) إبراهيم طوقان شاعر الوطن المغصوب ص11 . وأخي إبراهيم ، الديوان ص8 .

([3] ) شاعران من جبل النار ص85 ، والوطن في شعر إبراهيم ص20 .

([4] ) فدوى طوقان : مقدمة الديوان ، ص15 – 17 .

([5] ) فدوى طوقان : مقدمة الديوان ، ص17-25 .

([6] ) الوطن في شعر إبراهيم ص89 ، وشاعران من جبل النار ص96 – 97 .

([7] ) شاعران من جبل النار ص89-99 .

([8] ) ديوان إبراهيم طوقان ، ص29 .

([9] ) الوطن في شعر إبراهيم طوقان ص29 – 30 .

([10] ) الوطن في شعر إبراهيم طوقان ص10-11 .

([11] ) الوطن في شعر إبراهيم طوقان ص7-8 .

([12] ) الوطن في شعر إبراهيم ص32-33 .

([13] ) الوطن في شعر إبراهيم ص60 – 63 .

([14] ) الوطن في شعر إبراهيم ص14 .

([15] ) انظر ( نشيد موطني ) كاملاً في الديوان ص202 .

([16] ) الوطن في شعر إبراهيم ص35  .

([17] ) انظر ( نشيد وطني ) كاملاً في الديوان ص198 .

([18] ) انظر ( نشيد البراق ) كاملاً في الديوان ص197

([19] ) ديوان إبراهيم طوقان ص206 .

([20] ) الوطن في شعر إبراهيم ص17-18 .

([21] ) الوطن في شعر إبراهيم ص39 .

([22] ) الوطن في شعر إبراهيم ص44 .

([23] ) ديوان إبراهيم طوقان ص145 .