الشيخ محمود إبراهيم الصمادي

خليل محمود الصمادي

الشيخ محمود إبراهيم الصمادي

الشيخ محمود إبراهيم الصمادي

بقلم: خليل محمود الصمادي

 [email protected]

قد يصعب على المرء أن يكتب عن محبيه، فربما تكون شهادته مجروحة، أوقد تملأها العاطفة والوجدان يغلب عليها الطابع الشخصي،  فكرت منذ أمد بعيد أن أن أكتب عن الوالد وقد ترددت كثيرا للأسباب التي ذكرتها، ولكن في عام 2002 أصدر الأستاذ محمد بن محمد حسن شراب سفره الكبير " معجم العشائر الفلسطينية" عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان بـ 1307 صفحات وكان قد خص الوالد بترجمة مطولة إذ كان من المقربين إليه فقد عرفه عن قرب وتلازما منذ أمد بعيد بالدروس العلمية والمشاورة في الكتب التراثية والتاريخية وغيرها.

 فوجدت بذلك مخرجا لما كنت أفكر به وسأذكر الترجمة كما جاءت وفي نهايتها سأستدرك عليها وأضيف شيئا جديدا. ولكنني واسيت نفسي لما علمت أن كثيرا من الأدباء ترجموا لآبائهم كالمرحوم عبد الرحمن بن الشيخ حسن حبنكة والأستاذ محمود بن عبد القادر الأرناؤوط، وأذكر أن الشيخ مصطفى السباعي كتب مقالا عن والده الشيخ حسني السباعي في "حضارة الإسلام " في أوائل ستينات القر ن المنصرم.

قال الأستاذ شراب في ص 465 ص 466 عند ذكرعشائر وأسر فلسطين:" الصمادية " الصمادي (لوبية) شيخ الصمادية في لوبية أبو سميح محمود إبراهيم الصمادي، الشيخ الحافظ الرحالة وعاء العلم، ومعجم تراجم الرجال . من مواليد لوبية سنة 1928م لو قيَد ما يعرف وما رأى من الأماكن والبلدان والبقاع ـ في العالم العربي ـ وبخاصة بلاد الشام ـ لكان معجما للبلدان يقارب معجم ياقوت الحموي، ويستدرك عليه.

ولو صنف كتابا في تراجم رجال العالمين العربي والإسلامي، لكان عندنامعجم أعلام يستدرك على معجم الزركلي. يحدثك عن تاريخ وجغرافية بلاد العرب والعجم ، ويحد حدودها وأصول سكانها وكأنه من أهلها. بلاد الترك والفرس والأفغان، والجمهوريات الإسلامية في " الاتحاد السوفيتي سابقا" كل ذلك من ذاكرة واعية حافظة في سن السبعين من العمر المديد العامر بالاقتباس والعطاء. كنا نجتمع مع عدد من الشباب في صباح كل يوم جمعة في داريا الشام لقراءة كتاب السيرة النبوية التي صنفها ابن هشام، فيمسك كل واحد من أهل المجلس نسخته للتصحيح والتحقيق والمقابلة، وكان أبو سميح بدون نسخة، يقابل على ما في ذاكرته، فيكون ما يراه هو الصحيح بعينه.

هو دائرة معارف في تراجم الرجال القدماء والمعاصرين وفي أحداث فلسطين ورجالاتها وأحداثها وثوراتها، وفي الفقه الإسلامي وأسباب نزول القرآن وتفسيره، وفي السيرة النبوية وأعلام الصحابة والتابعين، واالملل والنحل الإسلامية والمسيحية واليهودية، والكتب القديمة والحديثة، وقيمة مضموناتها.

هاجر من بلدته لوبية سنة 1948م وعمره عشرون سنة، ولكنه يرسم لك مصور فلسطين، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ويقدم لك بالوصف الدقيق التفصيلي ما تعجز المصورات الجوية عن تقديمه مما يوحي لك أنه كان أصغر رحالة في التاريخ.

شارك في معارك الجهاد والمقاومة سنة 1948م، وفي ذاكرته من أخبار الحرب والمعارك ما لا يوجد في مطولات الكتب، لأنه يصف الميدان الذي شارك فيه ورآه ، أما الآخرون فيصفون ما روي لهم.

لم يقدم أبو سميح للمكتبة إلا جزءا من ألف مما عنده، وتفرغ للرواية أكثر من تفرغه للكتابة، وله سلسلة من أعلام الرجال: الصحابة والتابعين ومن تبعهم، وأبطال النهضة العربية ، فيها قطرة من بحر علمه، والكتابة عن أبي سميح  محمود إبراهيم الصمادي لا تستوفي هذا المحل ، ولكنها تحتاج إلى مجلد كبير.

وهو اليوم ( سنة 1998م) يسكن في مخيم اليرموك، ويعمل وراقا في دكانه بشارع لوبية وفي بيته مكتبة ذاخرة بشتى فنون المعرفة يقصدها طلبة العلم والباحثون للاطلاع على نوادر الكتب والمراجع. وعلى طريق الوالد، مشى الابن خليل محمود الصمادي، حيث تخرج في جامعة دمشق، ويكتب في مجلة الفيصل السعودية، ويعمل مدرسا في الرياض."

انتهى كلام الأستاذ شراب، وأحب أن أضيف أن الوالد أطال الله عمره أدى فريضة الحج للمرة الأولى عام 1958 بحرا عن طريق اللاذقية بور سعيد واستغرقت الرحلة شهرين استمع خلالها لعديد من أئمة الحرمين الشريفين،أمثال الشيخ يوسف عبد العزيز النافع المراقب العام للحرم الشريف والشيخ محمد ناصيف من وجهاء جدة وغيرهما.

اعقب الوالد ستة ذكور وثماني بنات من زوجتين الأولى ( الوالدة) توفيت يرحمها الله عام 1973 أثناء عودتها من الحج إذ انحرفت الحافلة عن الطريق فكانت من الضحايا وتزوج بعدها بأقل من سنة من الخالة "أم سهيل" وجميع ذكوره حصلوا التعليم العالي ويعمل جلهم في مهنة التدريس وله من الأحفاد وأبنائهم أكثر من مئتي حفيد موزعون في سوريا ،وفلسطين، ومصر، والأردن ،والخليج .,

أما لوبية التي ولد فيها فهي قرية كانت عامرة قبل 1948 من أكبر قرى قضاء طبرية. قاومت المحتل بضراوة فكان مصير سكانها القتل والتشريد ثم هدم القرية على من بقي فيها.

 شارك في معرك الجهاد في فلسطين وأثناء تشريد أبناء قريته من لوبية، جرح في معركة معلول قضاء الناصرة بقيادة المجاهد" أبي إبراهيم الصغير" فنقل إلى مشفى الناصرة، ثم مشفى بيروت وأخيرا إلى مشفى المزة العسكري بدمشق، وبعد أن من الله عليه بالشفاء رجع للجهاد في فلسطين وبعد انتهاء المعارك طفق يبحث عن أسرته فعلم أنها هاجرت للبنان وبعد بحث مضن اجتمع مع زوجته وابنته سميحه ابنة السنتين ووجد زوجته انجبت مولودا جديدا أسماه "سميح" وذلك في أحد مخيمات بعلبك، أواخر عام 1948م . ولم يطب له المقام هناك وشد الرحال لدمشق ، ويومها فتحت دمشق مساجدها لجموع اللاجئين فكان حظه مع عشرات من أهل قريته في جامع قريب من سوق الهال وسط دمشق يسمى جامع الخليلي  في حي العناتبة  وبعد مدة انتقل إلى جوبر ثم إلى مخيم اليرموك وما زال مقيما فيه إلى الآن.

 

عمل الوالد فور وصوله إلى دمشق مهنا حرة كبيع الخضار في سوق الهال ، ورفع مواد البناء للمباني الشاهقة وبعد صدور المرسوم الجمهوري  عام 1949الذي ينص على منح اللاجئين الفلسطينين الحقوق التي يتمتع بها المواطن السوري توظف في سلك التربية وبقي في عمله حتى التقاعد المبكر عام 1978 إذ كان قد أنشأ مكتبة لبيع الكتب والقرطاسية  فأحب أن يمارس فنونه وهواياته من حانوته.

 لازم المشايخ والعلماء من أول وصوله دمشق ولا سيما الشيخ ناصر الدين الألباني  " يرحمه الله" إذ تأثر بنهجه العلمي وبخاصة حين كان الشيخ مقيما في مخيم اليرموك. كما تأثر بالشيخ عبد القادر الأرناؤوط طيب الله ثراه وكان حريصا على حضور مجالسه العلمية وخطب الجمع التي كان الشيخ يلقيها في حي القدم أو في حي المزة. كما قرأ على الشيخ المحقق أحمد محمد دهمان وتعلم منه فنون التحقيق والتراث. كما كان دائم الحضور لمشايخ دمشق أمثال الشيخ سعيد البرهاني والشيخ عبد الحكيم المنيِّر والشيخ بهجة البيطار وغيرهم.

اقتنى الوالد نوادر الكتب القيمة ولا سيما عن المختصة بالتراجم، والتي تبحث عن فلسطين والعثمانيين وربما يحتفظ بنسخ نادرة لبعض الطبعات القديمة قد لا يكون لها مثيل حتى في المراكز الثقافية.

جمع مكتبته القيمة في غرفة أرضية من بنائه بمخيم اليرموك وصارت هذه الغرفة الضيقة مركزا لطلاب العلم  والمعرفة ـ لا يخلو يوم منهم ـ يقرؤون على الوالد ويستعيرون ويناقشون.  وقد أولع باقتناء الكتب منذ طفولته ، ففي فلسطين كان يشد الرحال إلى حيفا ويافا لشراء الهلال لجرجي زيدان والرسالة للزيات والثقافة لأحمد أمين، ويقر}ها على غلمان قريته..

في  صيف عام 1968 و1969 ساهم  في المقاومة الفلسطينية وشارك في بعض المعارك في غور الأردن "مع كتائب الشيوخ" إذ كان يغيب أكثر من شهر في العام ثم يعود لعمله بدمشق عند افتتاح المدارس.

 خرّج كتاب تفسير الجلالين ووضع أحاديث مناسبة تفسر الآيات القرآنية في كل صفحة من صفحات الكتاب" طبعة دار الملاح، دمشق"

 حقق كتاب محمد حسن صديق خان "نشوة السكران في صهباء الغزلان " عن دار كرم بدمشق.

كتب  سلسلة عن عظماء الإسلام لأكثر  من ثلاثين  صحابيا وتابعيا وممن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين كما كتب عن يوسف العظمة وعبد القادر الحسيني وغيرهم من أبطال النهضة العربية.

 

شارك في عدة محاضرات وندوات ولاسيما التي تحي ذكرى أمير البيان شكيب أرسلان إذ كان محبا له فقد حضر ندوة في مدينة السويداء السورية عام 1996م في ذكرى مرور نصف قرن على وفاته وقد ارتجل كلمة في المركز الثقافي العربي فاجأ الجميع بأنه حضر ذكرى مرور أربعين يوما على وفاته في مدينة يافا عام 1946 وعمره أقل من عشرين عاما.

مازال حريصا على المطالعة اليومية منذ ستين عاما ويمارس رياضة المشي يوميا بعد صلاة الفجر كما أنه مواظب على حضور الدروس العلمية وقبل عامين حرص على اصطحابي معه إلى داريا التي تبعد عن مسكننا حوالي 10 كيلوات لحضور درسه الأسبوعي عند الأستاذ "محمد بن محمد حسن شراب" على الدراجات الهوائية إذ ركب دراجته واستلف لي دراجة أخي  وبعد عناء وصلت  مرهقا متعبا  وتعجبت من إصراره ومداومته على هذه العادة الجيدة وقد تجاوز الخامسة والسبعين. واشترط عليه أن يكون حضوري معه في المرات القادمة بالسيارة.

سافر إلى كثير من البلدان العربية والإسلامية منه لبنان والأردن والسعودية ومصر وإيران وتركيا وأذكر في رحلتي معه إلى تركيا صيف 1992 أننا وجدنا طلابا أتراكا من استانبول يدرسون العربية في دمشق فأعجبوا بالوالد وأصروا على مرافقتنا في إستانبول لاطلاعنا على معالم عاصمة الخلافة ؛إكراما له لأنه يزورها لأول مرة، ولكنهم ذهلوا لما علموا أن الوالد يعرف استانبول أكثر منهم، بشوارعها ومساجدها وساحاتها وزواياها وتكاياها ومكاتباتها فلما سألوه عن ذلك قال لهم : أعرفها عن طريق الكتب ، فعلم رئيس بلدية أبي أيوب الأنصاري بالوالد عن طريق الطلاب فاجتمع معه في مكتبه في البلدية بعد صلاة الجمعة مرحبا ومهنئا بالشيخ الجليل.

نشط في المناسبات الاجتماعية، فأسس ورئس الجمعية الخيرية الفلسطينية في مخيم اليرموك عام 1966

كما رئس لجنة بناء جامع الرجولة في المخيم نفسه عام 1961م.وأمَّ المصلين وخطب الجمعة فيه لسنوات عديدة.

ولم يستمع لكلام الناصحين في تصفية المكتبة وتأجير الحانوت بمبلغ يفوق خمسة أضعاف دخله إذ غدا شارع لوبية من الأسواق المشهورة والمصنفة من الدرجة الممتازة بدمشق وبقي في مكتبته بالشارع المذكور يبيع القرطاسية  والكتب ،ويجالس طالبي العلم، حتى عام 2000م  وبعدها  سلمها لأحد أبنائه بعد أن اشترط عليه أن تبقى مكتبة وآثر البقاء في المنزل بين كتبه وأسفاره وأصدقائه.

عضو في اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينين بدمشق منذ عام 1992م. وحريص على حضور بعض أنشطته المتعلقة بالتاريخ والتراث، كما كان ضيفا أكثر من مرة على عدد من البرامج التلفازية السورية وغيرها عند الحديث عن مأساة فلسطين.

أرجو أن يكون كلامي هذا من باب البر ومن باب إسداء المعروف لمن جعلني أحب الكتاب وأجل الشيوخ والعلماء وأرجو أن يكون خالصا لوجهه تعالى