د. عبد الكريم الهيتي

المبتسم الباكي

تعريف ورثاء

د. عمر عبد العزيز العاني

[email protected]

في بساتين ( الدرستانية ) رسم ألواحه الزيتية ، وكتب مذكرات صباه بأقلام التين والزيتون ، وفي نهر الفرات تعلّم أولى دروس السباحة .. كانت على كتفيه كربتان من بساتين النخيل الممتدة على ضفاف الفرات ، تشرب منه حلوًا ، وتمنح حلوًا من طلعها النضيد

مدافن المدينة الأثرية ، وبقايا نقوشها ورسومها على السور القديم ، تهيئ شاعرًا رقيقًا انضم إلى موكب شعراء الحروف الراقصة والمعاني الميّاسة

ولد عبد الكريم الهيتي عام 1944 م في مدينة هيت ذات النواعير والنخيل .. تلك المدينة العراقية الفراتية التي يبلغ عمرها الآن أكثر من أربعة آلاف سنة ، ذكرتها كثير من كتب الآثار والتاريخ القديم

كل من يفارق هذه المدينة من أهلها تسمه بسمة في قلبه فيبقى مجروحًا مكلومًا ، ثم ترسم على قسماته نضرة النعيم ، وتضع في حقيبته رواية سعدى الهيتية ، وثيقة من وثائق الولاء للمدينة وبساتينها ونواعيرها ودروبها القديمة ومآذنها وقصص الجدات

سعدى الهيتية يخطبها أمير الأبلّة في البصرة فيعز عليها أن تشرب ماءً غير ماء الفرات ، فتتمنّع على أمير الأبلّة إلا أن يسقيها من ماء الفرات .. فيشق لها نهرًا من هيت إلى الأبلّة امتدّ قرابة 700 كيلومتر .. ثم تزفّ سعدى الهيتية إلى زوجها على نغمات خرير الماء .. ماء الفرات ، وعرائس النهر .. نهر الفرات

لم يبق من نهر سعدى في مدينة الهيتي إلا رسوم وآثار ، لكن الأسطورة ما زالت العنوان والصفحة الأخيرة في سفر الفولكلور الهيتي والموروثات الشعبية

البيئة وامتدادها الثقافي والتاريخي كانت قد رسمت في الهيتي تلاوين ثقافية متعددة ، وطبعت فطرته على ذائقة أدبية رقيقة .

يودّع الطفل عبد الكريم الهيتي مدينة هيت ليستقر مع أسرته في مدينة الفلوجة .

في الزقاق ( الدربونة كما يقول العراقيون ) ، كانت تسكن أسرتي وأسرة الهيتي ثم سار الزمن يطوي ايامه من غير استئذان فكبر الصغار وتفرّق بهم الدهر ما بين بريطانيا وروسيا واليمن وليبيا ، ومن غير استئذان ولا ميعاد تجتمع الأسرتان في البحرين بعد أكثر من ثلاثين عامًا،

وللفارق العمري بيني وبين الهيتي فإن تلك الأيام تلوح لذاكرتي كباقي الوشم في ظاهر اليد كما يقول الشاعر البحريني طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة

ومدينة الفلوجة مدينة فراتية أيضًا طبعت على ثقافة دينية متسامحة فقد أسسها القائد الشركسي كاظم باشا صهر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ، وسكنتها أسر من الهنود واليهود والنصارى والصابئة والمسلمين ومنهم عرب وكرد وشيشانيون ، الظاهرة الدينية المتسامحة أسّسها المرحوم عبد العزيز الوهب نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في مدرسته الملاصقة للجامع الكبير ، ثم درست المدرسة بعد عودة الوهب إلى بغداد .. وفي نهاية الأربعينيات من القرن الماضي نهض بها الشيخ عبد العزيز سالم السامرائي فبثّ علومه ونشر طلابه في أصقاع متعدّدة من العالم ... في تلك المدينة تلقى الهيتي تعليمه الابتدائي والثانوي ، ثم درس اللغة العربية في كلية الآداب جامعة بغداد وتخرّج فيها عام 1969 م ، وعيّن مدرّسًا في ثانوية الفلوجة.

كثير من مثقفي المدينة يذكر مطارحاته الشعرية مع صديقه الأستاذ كامل عباس النعيمي، وللأسف لم تحفظ هذه المطارحات بل وحتى الهيتي لم يحفظها وقد سألته عنها مرة

وبين هيت التي نفثت الثقافة في فطرة الهيتي ، والفلوجة التي تأثر بأجوائها وثقافتها ومدارسها تشكلت بدايات الهيتي في المعرفة والحياة.

يودّع الهيتي بلده العراق ليستقر في ليدز ( بريطانيا ) لإكمال دراساته العليا ، وهناك  كانت له مشاغبات أكاديمية هادئة حين كتب عن المرأة في الشعر العباسي ليثبت بمشاغباته هذه ما كانت عليه المرأة من مكانة في بلاد العرب ، وما كان عليه الأوروبيون قبل أكثر من ألف عام من الزمان .. وهناك ارتبطت صلاته بزميله وصديقه الدكتور علي المدني ، ولعله خير من يكتب عنه في هذه الحقبة

يعود الهيتي إلى العراق دكتورًا في الأدب العربي ، وأستاذا لمقررات الأدب والنقد في الجامعة المستنصرية .. وهناك ارتبطت صلاته بزميله وصديقه الدكتور أسامة الرفاعي ، ولعله خير من يكتب عنه في هذه الحقبة

ومن مكوّنات الهيتي مطالعاته وقراءاته فهو إذا حدّثك حدّثك بالمستملح من الأخبار ، والمستظرف من المستطرف يمزج فصيحها بعامّيها ، قديمها بحديثها بما يمكن أن يكون عرضًا اختصّ به

والوجه الباسم للهيتي افتعاليّ – كما أراه – كشأن الوجوه الفراتية ، والشخصية الفراتية بعامة.

شموخ تمثّله الباسقات ، وتواضع بامتداد أشجار التين على أرصفة الجزر الفراتية

ابتسامات كنوّار الربيع .. ربيع الدرستانية والسقعة والمقطعات وجزائر الحضرة ونصّار ، لكنها مبطّنة بأنين النواعير وبكائياتها.

وليس سرًّا فأكتمه وإنما أخلاقيات الكريم تنسجم مع الندى المموسق ، والجود المدوزَن ، فحين تغرّد في ذائقته الأطيار ، ويجد الوقت مناسبًا أطارحه نغمات من المقام العراقي المفطور على حزن ممتدّ بامتداد حضارات وادي الرافدين المتلاحقة والمتلاقحة.

وقد شدوت له الصبا والحجاز والنهاوند والمخالف والمدمي والمحمّداوي ، وقد أنكأ جراحي فتنكأ جراحه ، وربما نكأت جراحه فينكأ جراحي.

ولا أقتل لقلبه المتقلب على السفّود من حجازيات الشريف الرضي ، وضنى الروح الذي أتى على حياة قيس بن الملوّح الذي يجهش باكيًا للتوباد كلما رآه أو هبّت منه نسمات الصبا ، أما الأبوذية فكانت تنسل من مشاعره وجع السنين.

من منا لا يذكر الهيتي وهو يدخل كليّة الآداب يمشي بخطاه الثقيلة مثقلا بخمس وستين عربة من قطار عمره الخريفي وكأنه يحمل على كتفيه ألواح الكليم.

في أيامه الأخيرة اعتذر له قلبه كثيرًا ، لم يعد يطيق حمل ما لا يطاق من جميل ذكريات صباه وشبابه وأيامه الخوالي.

احترقت شرايينه وهو يرى بغداد تحترق ، تمزقت أغشيته والعراق تمزقه الطائفية وتنازعات الأحزاب.

لم يسعفه قلبه ولم يساعده في البحث عن الأيام الضائعة بين أوراق رواية خريف الزمن

كان يحلم أن يرى ألوان الطيف بعد ربيع بغدادي ممطر ، ويرسل قصائده للقمر الذي سيستحمّ في دجلة عند المدرسة المستنصرية ونظامية بغداد قبالة غرفة أبي إسحاق الإسفراييني،

كان يحلم بأن يعيد حضوره في مجالس الشريف الرضي كلما عاد من السلام على الإمام موسى بن جعفر في كاظمية بغداد

ومثلما بنى الهيتي مسجدًا من ماله الخاص اقتطعه جزءًا من بستان له في مدينته الأثرية كان يحلم ببناء مراس ومرافئ لكل الزوارق التائهة التي عصف بها تسونامي الاحتلال.

ترك الهيتي كتابين ومجموعة من قصائد لم تضمّها أقفاص ديوان ، وإنّ من الوفاء له أن تقرّ عينه منا بجمع ذلك

، وأوراقًا أخرى من عالم العشق العلوي كتبت بلغة لا يعرفها إلا من يفك طلاسم القلوب المحمومة المكلومة.

ودّعنا الهيتي لأن هناك ابتسامات تنتظره

واعتذر لنا ليريح قلبه من تعب الأيام

واعتذر لأصدقائه ومحبيه إن كان الفراق سيرسم على وجوههم غيوم أحزان طويلة

ودّعنا وصنائع من المعروف كثيرة كان قد طوّق بها معارفه ومحبّيه .. كان آخرها لرجل هندي يعمل في بقالة تبرّع له بمبلغ من المال ليؤدي مناسك الحج واحدة من أحلام الروح الهائمة

أطفأت مصباح دنياك ... وأنرت مصباح آخرتك

وداعًا ..... وداعًا