فارس الخوري (3)

المحامي محمد عنجريني

الوطنية - العروبة - الإسلام

فارس الخوري

تأليف: المحامي محمد عنجريني

الفصل الثاني

فارس الخوري والقضية الفلسطينية

1- ألقى فارس الخوري كلمة هامة أمام اللجنة السياسية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في 10 أيار 1947 مؤداها أن استقلال فلسطين يجب أن يكون الهدف الأول لأبحاث لجنة البحث عن الحقيقة، وكان في ذلك يرد على كلمة المندوب الأمريكي الذي قال بوجوب تأخير إيجاد دولة مستقلة في فلسطين إلى أجل غير مسمى... وشرح فارس الخوري كيف كانت فلسطين قسماً من الدولة العثمانية وأشار إلى أن لجنة التحقيق لا يجب أن تدرس تأثير المشكلة على السلم والأمن في فلسطين فقط وإنما في جميع بلاد الشرق الأدنى والأوسط.. وأما سؤال البعض عما إذا كانت فلسطين ستكون دولة يهودية أو عربية فإننا نقول: إنها ستكون دولة فلسطينية، فشعب فلسطين وهم المواطنون الشرعيون، سيشتركون في جميع الحقوق والواجبات التي يمارسها جميع سكان البلاد.

2- وفي 14 أيار 1947 ألقى فارس الخوري أمام الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة كلمة مطولة شرح فيها أسباب اهتمام سورية أكثر من أي بلد آخر بفلسطين، وذكر الروابط الجغرافية والتاريخية والجنسية والدينية التي تربطها بها، وتحدث عن الخطر الذي يهدد تلك البلاد، وإلى أي حد يمكن للوفد السوري أن يقاوم هذا الخطر، ثم قال: إن عرض قضية فلسطين من قبل الدولة المنتدبة على هيئة الأمم لم يكن عرضاً صحيحاً فقد طلبت الدولة المنتدبة من هيئة الأمم أن تعمل توصيات بشأن حكومة فلسطين المقبلة بينما كان يجب عليها إما أن تعلن استقلال فلسطين وتعلم هيئة الأمم بذلك، أو أن توجد وصاية على فلسطين وتتقدم إلى هيئة الأمم بالاتفاقات المتعلقة بالوصاية، أو أن تقول بصراحة: إن انتدابها على فلسطين قد فشل، وأنه لا يمكن تطبيقه، ولذلك تعيد هذه الأمانة إلى هيئة الأمم، والآن نرى أن الجمعية العمومية تحيل القضية إلى اللجنة السياسية لتضع التوصيات اللازمة للدولة المنتدبة بشأن إدارة فلسطين، على أن هذا الانتداب قد اتضح بأنه غير عملي ولا يمكن أن يستمر بشكله الحالي، ولذا يجب البحث عن سبب فشله، لأن الدولة المنتدبة لم تشرح هذا السبب حتى الآن..

وهنا يذكر فارس الخوري وعد بلفور ويقول إنه المسؤول عن فشل الانتداب، وعن إيجاد مشكلة فلسطين، التي تشغل العالم بأسره، ويذكر كيف قطع هذا الوعد، ثم يشرح من هم عرب فلسطين فيقول: إنهم متسلسلون من نفس السكان الذين أقاموا في البلاد منذ أربعين قرناً والذين حاربوا اليهود عندما أرادوا الاستيلاء على فلسطين في القرن الخامس عشر قبل المسيح ويشير إلى المتدينين الذين يقولون بأن نبوءات التوراة تذكر عودة اليهود إلى فلسطين وإلى أورشليم ويؤكد أن هذه النبوءات قد حصلت أثناء سبي اليهود في بلاد بابل، وأنها تحققت عندما أعادهم كورش الفارسي ثم يذكر خضوع اليهود للفرس والمكدونيين والرومان وتفرقهم في بلاد العالم بعد أن قهرهم الرومان في عام 70 للميلاد، وكيف منعهم الإمبراطور هدريان كذلك البيزنطيون من دخول أورشليم، وظلوا ممنوعين من ذلك في زمن الحكم الإسلامي حتى تساهل معهم العثمانيون، وبعد أن يشرح ظهور (الصهيونية) ومساعيها بواسطة الدكتور هرتسل مع السلطان عبد الحميد الثاني وفشلها يذكر برنامج الصهيونية الذي أفصح عنه ممثلو الوكالة اليهودية بصراحة أمام اللجنة السياسية حيث قالوا: "نريد هجرة متواصلة وغير مقيدة إلى فلسطين حتى نصبح أكثرية ونسود البلاد ونعد بأن العرب سيعاملون معاملة حسنة" ويبحث بعد ذلك عن ماهية هؤلاء اليهود الذين يريدون تأسيس دولة في فلسطين وعما إذا كانوا من بني إسرائيل حقاً...

ويؤكد أن الأمر غير ذلك، ويستند إلى دائرة المعارف اليهودية فيقول عن أصل اليهود في شرقي أوروبا أنهم كانوا من المغول الخزر شمالي بحر قزوين وكانوا من عبدة الأوثان، ثم حوالي القرن الثامن الميلادي قرر أميرهم اعتناق إحدى ديانات التوحيد، فاستدعى رجلاً من اليهود والنصارى وثالثاً من المسلمين، وجعلهم يتناقشون فيما بينهم بحضوره، فلم يتمكن أحد من إقناعه في أي منها، ومن هو الأفضل، وأخيراً اعتنق اليهودية، وبقيت إمارة الخزر هذه جنوبي روسيا حتى قضت الإمبراطورية الروسية على استقلالها، فتفرق الخزر اليهود الذين لا يتصلون ببني إسرائيل، والذين يريدون دولة في فلسطين.

3 - نشوء فكرة تقسيم فلسطين ومعارضة العرب لها. اتفق جميع أعضاء لجنة البحث عن الحقيقة، الخاصة بفلسطين، على ضرورة منحها الاستقلال، ولكنهم اختلفوا بشأن طبيعة ذلك الاستقلال فقد اقترح مندوبو كندا وتشيكوسلوفاكيا وغواتيمالا وهولندا والبيرو والسويد والأوروغواي مشروعاً لتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية يربطهما اتحاد اقتصادي على أن توضع القدس وبيت لحم تحت الوصابة الدولية وإدارة الأمم المتحدة، وتدير شؤون فلسطين أثناء فترة الانتقال لمدة سنتين إنكلترا، ويسمح بدخول مائة وخمسين ألف مهاجر خلال هذه الفترة، بينما اقترح مندوبو الهند وإيران ويوغسلافيا مشروعاً بتشكيل دولة اتحادية تضم العرب واليهود خلال ثلاث سنوات.. فعقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعاً لها في صوفر (لبنان) بين 16 و 19 أيلول أصدرت بنتيجته بلاغاً قالت فيه إنها:

"ترى أن مقترحات لجنة التحقيق المنبثقة عن الأمم المتحدة تنطوي على هدر واضح لحقوق عرب فلسطين في الاستقلال، كما تنطوي على خرق لجميع الوعود التي قطعت للعرب ولذات المبادئ التي تقوم عليها منظمة الأمم المتحدة، وترى في تنفيذ هذه المقترحات خطراً محتماً يهدد أمن فلسطين والأمن والسلام في البلاد العربية جميعاً، ولذلك فقد وطدت العزم تحقيقاً لاستقلال فلسطين وحريتها ودفاعاً عن كيان الدول العربية على أن تقاوم بجميع الوسائل العملية الفعالة تنفيذ هذه المقترحات وتنفيذ كل تدبير آخر لا يكفل تحقيق استقلال فلسطين كدولة عربية"!!

وفي 22 أيلول 1947 اعتلى فارس الخوري منبر المنظمة الدولية ليتكلم عن السلام العالمي والقضية العربية، وذكر فظائع الحرب التي لا تزال ماثلة في الأذهان، وجهود الأمم لتحقيق السلم عن طريق هذه المنظمة، كما ذكر مصدر الخوف الجاثم في تنافس الدول الكبرى، وحذر من وقوع حرب عالمية ثالثة قد تقضي على الحضارة لأن الحرب ستكون حرباً ذرية هائلة، وبعد أن ذكر بعض الوسائل لضمان السلم في تحديد التسلح، ومنع استعمال الأسلحة الذرية، وتنظيم القانون الدولي، وتحديد مقدار القوات التي يجب أن توضع تحت تصرف مجلس الأمن، تطرق إلى مسألة فلسطين واهتمام سورية بها، لأن فلسطين قسم من سورية. وقد هاجم بشدة مقترحات الأعضاء السبعة في لجنة التحقيق، وانتقد ما قاله مندوب الولايات المتحدة بأن هذه المقترحات تستحق أن تعطى أهمية كبرى من قبل حكومته، وأكد أن المقترحات مخالفة للتوصيات التي أعطيت للجنة التحقيق، كما أنها تخالف مبادئ حق تقرير المصير الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، وتخالف مبادئ العدالة وحقائق التاريخ وجميع مبادئ الحقوق العامة، لأنها تعطي حصة الأسد لليهود، وتحرم سكان البلاد وأصحاب الحق فيها من بلادهم. ثم انتقد اللجنة السياسية للأمم المتحدة التي لم تعالج إلا أعراض المرض ولم تنظر في أسباب مشكلة فلسطين، وفي قانونية الوثائق التي أثارت هذه المشكلة، إذ لولا ذلك الانتداب وشروطه الخاصة المتعلقة بوعد بلفور ولولا المطامع الاستعمارية للدول التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى لبقيت فلسطين كما كانت دائماً مقاطعة من سورية، ولجنة التحقيق ذهبت في كرمها إلى أبعد من شروط الانتداب فأعطتهم دولة مستقلة بدلاً من وطن قومي.. والحكومة البريطانية أعلنت مرات عديدة أنها لم تقصد أن تعطي الوطن القومي مفهوم الدولة، ولكن الأكثرية في لجنة التحقيق تجاوزت كرم الانتداب، كذلك انتقد لجنة التحقيق، لأنها زارت مخيمات اللاجئين في أوروبا، واقترحت إدخال عدد كبير منهم إلى فلسطين، مع أن هيئة الأمم المتحدة اتخذت تدبيراً في دورتها السابقة بمنع إسكان اللاجئين في مقاطعات لا تحكم نفسها إذا لم يوافق السكان الأصليون أو إذا كان هذا الإسكان يسيء إلى علاقات الصداقة بين الدول الأعضاء، كذلك انتقد تقرير لجنة التحقيق الذي أنكر على عرب فلسطين حق الاستقلال لأنهم لم يشكلوا في الماضي دولة مستقلة فأكد أن فلسطين كانت لثلاثة عشر قرناً مضت قسماً من الإمبراطورية العربية ثم الإمبراطورية العثمانية ولا يجوز إنكار حق استقلالها لأنها فصلت عن دولة كانت مستقلة، ثم يذكر المشكلة اليهودية التي لا يخلو منها عصر من عصور التاريخ وذلك بسبب نوع معيشة اليهود التي تمسكوا بها، بالرغم من التغيرات والتطورات التي حصلت في العالم.. إلى أن يقول: "لقد تغير العالم كله ولكن اليهود وحدهم لم يتغيروا، وأمام الأمم المتحدة الآن آخر مشاكل الانعزال اليهودي وإن لم يكن أقلها أهمية، وأنه من الأمور الغريبة أن نجد جماعة يقبلون رغبة اليهود في تأسيس دولة في فلسطين". ويذكر بهذه المناسبة الجمهورية التي شكلها الاتحاد السوفييتي لأجل اليهود في أقصى شرقي سيبيريا، وهي جمهورية (بيروبيجان) التي يمكن آن تستوعب جميع اللاجئين اليهود. وينهي خطبته بقوله: إن السوريين والشعوب العربية عموماً يقاومون توصيات لجنة التحقيق، ولن يسمحوا لرأس جسر أجنبي معاد بأن يقام بقلب وطنهم.

وقررت الهيئة العامة للأمم المتحدة في 32 أيلول 1947 تشكيل لجنة خاصة بمشكلة فلسطين لبحث كتاب حكومة إنكلترا، وتقرير لجنة التحقيق، وإنهاء الانتداب، وبعد أن تشكلت هذه اللجنة دعت مندوبين عن الوكالة اليهودية وعن الهيئة العربية العليا لفلسطين لحضور اجتماعاتها.. وصرح مندوب بريطانيا في هذه اللجنة أن حكومته ليست مستعدة أن تفرض بالقوة كل حل للمشكلة لا يقبله العرب واليهود وإذا لم يوجد مثل هذا الحل فإنها ستسحب القوات والإدارة البريطانية من فلسطين في وقت قريب. وقد أعرب السيد جمال الحسيني نائب رئيس الهيئة العربية العليا عن رفض مقترحات لجنة التحقيق ودافع عن تأسيس دولة عربية تحمي مصالح جميع الأقليات وحقوقهم، بينما قبل مندوب الوكالة اليهودية الدكتور سيلفر مشروع أكثرية لجنة التحقيق. وألقى السيد كميل شمعون مندوب لبنان خطاباً مستفيضاً في هذه اللجنة الخاصة هاجم فيه مطالب اليهود التاريخية في فلسطين. ووصف السيد نوري السعيد مندوب العراق اقتراحات لجنة التحقيق الخاصة بأنها أكثر وهماً وخيالاً من ألف ليلة وليلة.. وتكلم الدكتور فاضل الجمالي وزير خارجية العراق موجهاً لومه إلى الولايات المتحدة التي تتبع نوعاً من السياسة نحو اليونان ونوعاً آخر نحو فلسطين واحتج عليها لأنها ترسل المال والذخائر الحربية إلى فلسطين لتشجيع الإرهاب الصهيوني والهجرة غير الشرعية، وذكر الفرق بين اليهودية التي هي دين والصهيونية التي هي حركة سياسية ذات طبيعة مملوءة بالحقد وحب الاعتداء. وانبرى السيد محمد ظفر الله خان وزير خارجية الباكستان فقال: "إن مجرد وجود أولاد مشردين ليس سبباً كافياً لإرسالهم إلى فلسطين، فهم في وضعهم هذا لا يختلفون في شيء عن أولاد هنود تشردوا من جراء التقسيم في الهند ويطلب أن يهاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.." وبعد أن وصف مشروع التقسيم بأنه "وحشي من ناحيته المادية والجغرافية" رفض التسليم بأن التقسيم في الهند قد أوجد سابقة في الموضوع لأنه في الهند كانت كل من الدولتين تضم أكثرية ساحقة من أبنائها قبل إجراء التقسيم وهذه الأكثرية لم تتم بصورة اصطناعية عن طريق الهجرة المحولة من الخارج.. جرى بالاتفاق بين المسلمين والهندوسيين وبرضاهم التام" وتكلم الدكتور محمود فوزي مندوب مصر مؤكداً أن فلسطين إنما هي ملك لأهليها العرب، وأن تشكيل دولة يهودية مبنية على أساس ديني وبالقوة في فلسطين إنما هو عمل خيالي غريب وسيؤدي حتماً إلى نزاع دام لا ينتهي أجله" وتكلمت السيدة لاكشيمي بانديت مندوبة الهند فقالت إن مشكلة المشردين لا يجب أن تحل على حساب فلسطين وأن الحل الوحيد لفلسطين هو في إنشاء دولة عربية صرفة مع منح الأقلية اليهودية حقوقاً ديموقراطية تامة في تلك الدولة.. غير أن مندوبي بناما والأوروغواي وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وأسوج وغواتيملا والاتحاد السوفييتي وكندا ونيوزيلاندا أيدوا التقسيم في الكلمات التي ألقوها.

4 - وفي 11 تشرين الأول 1947 وقف المستر جونسون مندوب الولايات الأمريكية المتحدة في اللجنة الخاصة ليعلن تأييد حكومته للتقسيم مع بعض التعديلات.. فردَّ عليه فارس الخوري مؤكداً أن العرب مستعدون للرد على التحدي الذي يوجهه الصهيونيون والأمريكيون لهم، ويذكر بأن لجنة البحث عن الحقيقة بدلاً من أن تقترح حلاً عملياً لمشكلة فلسطين فإنها أوجدت وضعاً أسوأ، وقدر أنها ولابد أسست مشروعها على افتراضات ثلاثة اعتبرتها أموراً مسلَّماً بها، وهي مزاعم اليهود التاريخية بشأن فلسطين، والوعود الدولية في صك الانتداب،. والأمر الواقع. وهذه الأمور الثلاثة خاطئة من أساسها، فاليهود لا علاقة لهم بفلسطين منذ عشرين قرناً. أما صلتهم العاطفية فيشاركهم فيها المسلمون والنصارى أيضاً، عدا عن ذلك فاليهود لم يشكلوا دولتهم قديماً إلا في جزء من فلسطين والحضارة التي ادعوا أنها حضارتهم أخذوها عن جيرانهم الكنعانيين والفلسطينيين والمصريين والبابليين، أما قضية الوعود الدولية لليهود في صك الانتداب فإن عرب فلسطين والعرب عموماً قد عارضوا شرعية الانتداب ووعد بلفور الذي احتواه صك الانتداب لأن الوعد أعطي عندما كانت فلسطين لا تزال قسماً من الدولة العثمانية وفي حالة أرض عدو محتلة (أي قبل معاهدة لوزان 1923) وعلى كل حال فإنه يقترح عرض هذه المشكلة القانونية على محكمة العدل الدولية.. (وكان جونسون قد قال إن الولايات المتحدة أعطت دماء أبنائها في الحرب العالمية الأولى لكسب الحرب وتحرير المقاطعات العربية) فعقب فارس الخوري على هذا الكلام بقوله: إنه يمكن الاستنتاج من موقف بعض الأمريكيين أن الولايات المتحدة كأنها قامت بهذه التضحيات ليس لأجل العرب وتحرير فلسطين بل لكي تقدم تلك البلاد هدية لليهود.. وقال: إن من الثابت أن يهود أمريكا وخاصة نيويورك يرمون من وراء احتلال فلسطين إلى غزو العالم الشرقي وبسط سيادتهم عليه لاستعماره وهذه الدولة المنتظرة إذا أوجدت فستكون دائماً معتمدة على يهود الولايات المتحدة.. أما ما قاله جونسون عن اهتمام الولايات المتحدة بمصير الشعوب التي تحررت بنهاية الحرب العالمية الأولى فيسأله عن هذه الشعوب التي تحررت ويذكره بميثاق هيئة الأمم ومبادئ الرئيس ويلسون الأربعة عشر وميثاق عصبة الأمم ويسأله عمّا إذا كانت تسمح بفرض جماعة من الأجانب على البلاد وحرمان سكانها من أرضهم وتقرير مصيرهم ثم يقرأ له المادة (80) من ميثاق هيئة الأمم التي تقول: (إن شروط الانتداب لا يمكن أن تتعدل أو تتغير إلا بموجب اتفاق على وصاية بموجب الميثاق) وإنكلترا لم تتقدم باتفاق على وصاية ولا أعلنت استقلال فلسطين... وقال إن العرب لا يمكن أن يستسلموا لهذا المشروع وتعرض لما جاء في كلمة مندوب الوكالة اليهودية من تهديد للعرب باستعمال قوات الإرهابيين التي تحت تصرف الوكالة ضدهم وربطه بنصيحة مندوب الولايات المتحدة التي تقول بتشكيل قوة من الشرطة مؤلفة من المتطوعين للعمل في فلسطين وقال: "أمام هذا التحدي فإن العرب لا يسعهم إلا قبول التحدي".

5- اللجنة الخاصة تقرر التقسيم. بعد أن تناقشت اللجنة الخاصة في مسألة فلسطين قررت تأليف لجنة للتوفيق بين العرب واليهود ولكنها لم تتمكن من القيام بعمل مثمر... وشكلت لجنة فرعية أولى لوضع مشروع مفصل للاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة موحدة.

أما اللجنة الأولى فقد أتمت عملها كما أريد منها. أما الثانية فقد قدمت ثلاثة اقتراحات:

الأول، أن يطلب من محكمة العدل الدولية إعطاء الرأي في بعض المسائل القانونية التي تتعلق بمشكلة فلسطين ومن جملتها صلاحية هيئة الأمم في تنفيذ حلول معارضة لرغبة الأكثرية في فلسطين.

الثاني: حل مشكلة اللاجئين اليهود والمشردين على أساس دولي.

الثالث: إنشاء حكومة مؤقتة لشعب عموم فلسطين وتخويل صلاحيات الدولة المنتدبة إليها وتشكيل مجلس تأسيسي.

وفي الرابع والعشرين من تشرين الثاني 1947 رفضت اقتراحات اللجنة الفرعية الثانية بشأن جعل فلسطين دولة موحدة بأكثرية 29 صوتاً ضد 12 وامتناع 14 وغياب دولتين. كذلك رفضت الأكثرية نقل قضية فلسطين بمجموعها بما فيها وعد بلفور والانتداب إلى محكمة العدل الدولية كما رفضت الأكثرية تكليف محكمة العدل الدولية بإبداء رأيها في صلاحية الأمم المتحدة بتنفيذ أي نوع من التقسيم دون موافقة سكان فلسطين على ذلك... وقد امتنعت إنكلترا عن التصويت في جميع هذه المقترحات.. وفي 25 تشرين الثاني جرى التصويت في اللجنة على مشروع تقسيم فلسطين كما ورد في تقرير اللجنة الفرعية الأولى فقبل بأكثرية 25 صوتاً ضد 13 وامتناع 17 وغياب دولتين.

هيئة الأمم تقرر التقسيم

عرض مشروع التقسيم على الجمعية العمومية في 26 تشرين الثاني 1947 لإقراره أو رفضه وفي 29 تشرين الثاني.. أقر التقسيم بأكثرية 23 صوتاً، وعارضت التقسيم ثلاث عشرة دولة، واستنكفت عشر دول هي.

وقد شرح فارس الخوري في خطبه فيما بعد أن 24 دولة تحوي ثلثي سكان العالم رفضت الموافقة على التقسيم إما برفض المشروع أو بالاستنكاف والذين وافقوا يمثلون ثلث سكان العالم ومعظمهم ينتسبون إلى دول نائية ليس لها اتصال بفلسطين أو بشؤون القارة الآسيوية والشرق الأدنى....

أما ضمان ثلثي الأصوات فقد تم بنتيجة مناورات وتطبيقات شتى..

قرار التقسيم في مجلس الأمن

بعد صدور قرار تقسيم فلسطين نقل هذا القرار إلى مجلس الأمن ونوقش فيه، فأبان فارس الخوري فيه عدم مشروعية التقسيم من جهة، وعدم اضطرار مجلس الأمن لقبول طلب الجمعية العمومية وتوصياتها من جهة أخرى. وتكلم عن الضغط والتدخل الذين قامت بهما بعض الدول الكبرى للوصول إلى التوصيات اللازمة التي ارتأتها الجمعية العمومية التي تنطوي على جميع ما يمكن أن يتصوره إنسان من عبث بالحقوق وعدوان عليها، ووصف التوصيات بأنها غير ملزمة وأوضح عدم شرعية اللجنة الخماسية لتقسيم فلسطين لأنها لا تستند إلى أساس قانوني، وأكد بطلان التقسيم كما أكد أن جمعية الأمم المتحدة ليست حكومة عالمية ولا تتمتع بالسلطة التنفيذية التي تهيمن بها على شعوب العالم، وذكر أعضاء مجلس الأمن بأن هذه القضية ليست عربية يهودية، ولا قضية الشرق والغرب، بل هي قضية صراع بين العواطف العمياء وبين العقل، وبين الحقوق الطبيعية والحقوق المكتسبة بموجب الدعاوي الباطلة وبأسلوب غير مشروع، وبين مناهج القانون الدولي وسياسة القوة المرتكزة على شريعة الغاب.. وقد كان لهذه الخطبة صدى بعيد في الأوساط الدولية والأمريكية حتى إن أحد أعضاء مجلس الكونغرس الأمريكي المستر غوست نائب ولاية تكساس وقف في الكونغرس في 8 آذار 1948 وقال: "إذا أراد أحد منا أن يعرف وجهة نظر العرب في قضية فلسطين الهامة، وإذا أراد أن يقرأ أعظم خطبة ألقيت في هذه البلاد في الشهور الأخيرة، فاسمحوا لي أن أوصي بقراءة الخطاب الفخم المملوء بالحقائق الذي ألقاه السياسي السوري السيد فارس الخوري أمام مجلس الأمن في 24 شباط 1948.. إن خمسين بالمائة من أعضاء الكونغرس ومن الشعب الأمريكي الذين يعرفون الحقائق ويدركون ما تنطوي عليه هذه المشكلة مستعدون للاعتراف بأننا ارتكبنا خطأً فادحاً.. إن الأمم الشريفة كالرجال الشرفاء يعترفون بأخطائهم، ويسعون لتصحيحها، ولتخفيف الأضرار الناتجة عنها.. إن موقفنا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في قضية فلسطين لا يمكن الدفاع عنه.. إننا نحاول التدخل في سيادة عنصر قديم محترم وفي حقوقه الثابتة بدون أي مبرر أخلاقي أو قانوني.. يا سيدي الرئيس: إن الشعب الأمريكي لم يطلع على الحقائق ولم يسمع وجهة نظر العرب، وقد حان الوقت لأن نفتح عيوننا ولذلك فإنني لأجل الحقيقة والتاريخ ولأجل أن يطلع أعضاء الكونغرس والشعب الأمريكي على نواحي هذه القضية فقد استأذنت بإدخال خطاب السيد فارس الخوري في وقائع مجلس الكونغرس، واسمحوا لي أن أوصي كل أمريكي بقراءته".

وقد نشر نص خطاب المستر غوست مع نص بيان الأستاذ فارس الخوري في كراس خاص باللغة الإنكليزية ووزّع على نطاق لا بأس به.

6 - قيام (إسرائيل) والحرب بينها وبين العرب وتدخل مجلس الأمن. وتتابعت التطورات، وأعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين في 15 أيار ،1948 ودخلت الجيوش العربية أرض فلسطين لتحريرها ولإعادة الحق إلى أهله، فقدم مندوب الوكالة اليهودية السيد موشي شاريت شكوى إلى مجلس الأمن ضد الدول العربية طالباً إصدار الأوامر إليها بوقف التهديد لفلسطين.. ورد عليه مندوب الهيئة العربية العليا السيد جمال الحسيني أن هيئته التي تمثل الأكثرية الساحقة من سكان فلسطين هي التي وجهت الدعوة إلى الدول العربية ترجوها دخول أراضي فلسطين.. وعندما طلبت حكومة (إسرائيل) من مجلس الأمن التدخل لوقف الزحف العربي أجاب مندوب مصر: (إن البيت الذي بجوارنا يحترق بسرعة فمن حق مصر والحالة هذه بل من أقدس واجباتها أن تسرع لإطفاء هذه النار). وفي 17 أيار 1948 تقدم مندوب أمريكا باقتراح يدعو فيه الفريقين لوقف إطلاق النار، ووجه لائحة أسئلة إلى الدول العربية والهيئة العربية العليا وإلى (حكومة إسرائيل) وفي اليوم التالي دار نقاش حادّ بين الأستاذ فارس الخوري والسيد وارن أوستن مندوب أمريكا حول عدم شرعية اعتراف الولايات المتحدة بـ (إسرائيل) أبان فيه الخوري عدم قانونية هذا الاعتراف، وطلب إحالته إلى محكمة العدل الدولية لتبدي رأيها فيه، وعندما فقد وارن حجته أجاب بحدّة أنه "لا يحقّ لأية محكمة دولية ولا لأي شخص أن يبحث قضية اعتراف حكومته بدولة إسرائيل" فأجابه الدكتور شارل مالك مندوب لبنان (ما دامت الولايات المتحدة لا ترضى ببحث صلاحية اعترافها فلا يحقّ لها والحالة هذه أن توجّه أيّ سؤال إلى الدول العربية عمّا جرى عن الاتفاق فيما بينها بشأن قضية فلسطين).

وفي 22 أيار 1948 قرر مجلس الأمن الدولي إصدار توصياته بوقف القتال وإحداث هدنة مدتها أربعة أسابيع.

وقد عارض فارس الخوري فرض هذه الهدنة ونصح للدول العربية بعدم التقيد بها ولكن الدول العربية خالفته وكانت هذه خطيئتها الكبرى.. وتحدّدََ موعد وقف القتال في 11 حزيران 1948 وجاء الكونت فولك برنادوت الوسيط الدولي الأول يعرض مقترحاته التي جاءت غير متفقة مع آمال العرب.. ثم اقترح الكونت المذكور تمديد الهدنة بين العرب واليهود.. وفي جلسة مجلس الأمن وقف المندوب الأمريكي يتّهم الدول العربية بتهديد السلم في الشرق الأوسط فانبرى له فارس الخوري ووصف اتهاماته بأنها لا يمكن السكوت عليها، وتساءل: كيف يمكن للعرب الخضوع وهم يرون عناصر خارجية مسلحة تعتدي على سكان البلاد الأصليين؟

وتتابعت النكبات، وتابع فارس الخوري كفاحه في الأوساط الدولية، وفرضت الهدنة الدائمة، فطلب فارس الخوري في تموز 1948 الموافقة على اقتراح تقدّم بشأن عرض مشكلة فلسطين وشرعية (حكومة إسرائيل) على محكمة العدل الدولية وأتى بجميع النصوص والمواد القانونية التي تسمح بعرض هذه القضية على محكمة لاهاي المشار إليها. ولكن هذا الاقتراح لم ينل أكثرية الثلثين وكان أشد المعارضين له الاتحاد السوفييتي والولايات الأمريكية المتحدة.

وفي 11 آب 1948 ألقى فارس الخوري محاضرة في منظمة (اليونسكو) التي عقدت دورتها عامذاك في (ليك ساكس) وكان عنوانها: (فلسطين كمحك لمبادئ الأمم المتحدة) مما قاله فيها: (إن هذه المنظمة تألفت للمحافظة على السلم ولمنع الحرب في العالم ولكنها في هذه القضية عملت بصورة معاكسة لأهدافها ورسالتها بإهمالها مبادئ العدالة والقانون، وتصرّفها حسب سياسة القوة بشكل يثير العداء ويقلق السلم في الأراضي المقدسة والشرق الأوسط).

7 - اليهود.. وحائط المبكى. وفي تشرين الأول 1948 عقد مجلس الأمن جلساته في قصر شايو في باريس فكان فارس الخوري يقف في مجلس الأمن ويهاجم المجلس المذكور لسكوته عن اعتداءات اليهود وخرقهم للهدنة ومهاجمتهم منطقة النقب تمهيداً للاستيلاء عليها وتشريد نصف مليون فلسطيني، فقال في إحدى الجلسات: "وبينما كانت الحالة تستوجب النظر في هذه الأمور، فإن ممثل اليهود أخذ يتكلم عن حائط المبكى، وما هي دعواه في حائط المبكى؟! هل احتل اليهود هذا الحائط؟ وهل يحتله العرب الآن؟! إن هنالك أحجاراً قائمة وهي لا تزال هناك منذ العصور القديمة ولا يمسّها أحد.. فماذا يريدون؟! إنها في مدينة القدس القديمة ولا تزال في مكانها وليس من احتلال هناك".

كما تحدث عن دعوى اليهود ضد الجيوش المصرية التي تجتاز حدود فلسطين واصفة عملها بأنه اعتداء فقال:

"إن الجيوش المصرية تدخل فلسطين من أراضي مصر المتاخمة لأسباب تبرر دخولها.. أما الجيوش اليهودية فمن أين أتت؟ لقد عبرت جيوش اليهود البحار والمحيطات والجبال وتهافتت من كل بلاد العالم لتهاجم فلسطين ولتوطد أقدامها فيها، فهل يمكن اعتبار أولئك المعتدين الذين أتوا لغزو شعب مسالم في عقر داره أنهم يعملون بحق.. بينما يعتبر المصريون القادمون إلى إخوانهم ليوطدوا الأمن ويعيدوا اللاجئين إلى أوطانهم كجماعة معتدين؟!".

8 - سيستعد العرب قروناً إذا اقتضى الأمر. وكانت أطول خطبة ارتجلها فارس الخوري أمام اللجنة السياسية لهيئة الأمم المتحدة في باريس تلك التي ألقاها في 17 تشرين الثاني 1948 واستغرقت 54 صفحة وقد شرح فيها مزاعم الصهيونية ورد عليها وأتى على تطور المشكلة أمام هيئة الأمم وعلى تأسيس دولة (إسرائيل) المبنية على الاعتداء وذكر مطامع الصهيونيين إلى أن قال:

"إن العرب لا يمكن أن يخدعوا إلى هذه الدرجة، وإن عليهم أن يكونوا على حذر، وأن يفتحوا عيونهم وآذانهم، وأن يكونوا مستعدين، وذلك ليس لسنة واحدة ولا لسنتين ولا لعشر سنوات بل لقرون إذا اقتضى الأمر، حتى يتجنبوا الخطر الذي تجابههم به الأمم المتحدة، ولن يطمئنوا ولن يخضعوا لهذه التهديدات ولهذه الحالة كما أنهم لن يعترفوا بها..".

فارس الخوري... عضو لجنة القانون الدولي

اجتمعت لجنة دولية في شهر أيار 1947في مقر هيئة الأمم المتحدة للبحث في القانون الدولي، واتخذت قراراً في 21 منه، ترجو فيه الجمعية العمومية لهيئة الأمم تشكيل لجنة غرضها إتمام تقنين القانون الدولي وفقاً للتوصيات التي ستقدم بها هذه اللجنة نفسها.. وكانت توصيات اللجنة الدولية أن تؤسس الجمعية العمومية لجنة القانون الدولي على أسس ثابتة، وأن يكون عدد أعضائها خمسة عشر خبيراً في القانون الدولي ينتخبهم مجلس الأمن والجمعية العمومية، ومدة العضوية خمس سنوات، وأن تطلب الجمعية العمومية من هذه اللجنة (لجنة القانون الدولي) وضع مشروع قانون يشتمل على مبادئ القانون الدولي وعلى مواد تتعلق بصيانة السلم والأمن الدوليين من العدوان، وتخويلها حق مراجعة المؤسسات الوطنية والدولية لمراجعة المعلومات أو التحقق من صحتها في كل ما له علاقة بمهمتها، وأن يحال إليها اقتراح يتعلق بحقوق الإنسان ومسؤولياته، تقدمت به بناما، وأن تعنى اللجنة أيضاً العناية كلها بمنع الإفناء الاجماعي للجماعات العنصرية أو السياسية أو الدينية أو سواها.

وفي 21 تشرين الثاني 1947 اتخذت الجمعية العمومية قراراً بتشكيل (لجنة القانون الدولي) على أن تعد هذه اللجنة مسودات اتفاقيات تتبناها الجمعية العمومية، وأن لا تصبح لهذه الاتفاقيات قوة القانون إلا بعد تصديقها من قبل الدول الأعضاء، وأن لا تكون للجمعية العمومية بموجب أحكام الميثاق قوة فرض هذه الاتفاقيات، وإنما توصي بها فقط.

وقبل أن يحصل انتخاب الأعضاء الخمسة عشر للجنة القانون الدولي طلبت هيئة الأمم من كل دولة من أعضائها أن ترشح اثنين من مواطنيها ممن تجد فيهم الخبرة والكفاءة العلمية والقانونية، واثنين من سواها للدول العضوية... وقد أرسلت الدول أسماء مرشحيها وكانت حريصة على انتخاب أعضاء من رعاياها حتى إنها كانت تبذل جهوداً لانتخابهم بالكتابة إلى دول أخرى موصية بترشيحهم، ولم يرشح فارس الخوري نفسه وبالتالي لم يقم بأية دعاية للفوز بعضوية هذه اللجنة، ولم ترشحه دولته.. ولكن أصدقاءه من مختلف الدول، المطلعين على سعة علمه وخبرته وفضله رشّحوه.

وفي الدورة الثالثة التي عقدتها هيئة الأمم في باريس جرى اختيار الأعضاء لهذه اللجنة فاتضح بنتيجة الفرز أن فارس الخوري قد حصل على 39 صوتاً من أصل 59 وبذلك أصبح عضواً في لجنة التشريع الدولي، وتجددت عضويته في كل مرة انتهت فيها.. فظل محافظاً عليها إلى حين وفاته. ومما يذكر أن لجنة القانون الدولي هذه أعدت مشروع ميثاق خاص بحقوق الدول وواجباتها بعد دراسات دقيقة شاملة للمسألة وأرسلت صوراً منها إلى جميع الدول الأعضاء لإبداء رأيها فيها، اقترعت أغلبية الدول الأعضاء على إرجاء إدراج المشروع في جدول أعمال الجمعية العمومية في حين أيدت جميع الدول العربية إدراجه حينما قال فارس الخوري: "ليس من الحكمة تأجيل هذه المسألة" وقد كان ذلك في تشرين الأول ،1950 ولما اقترح مندوب كوبا إرجاءها، تلا فارس الخوري نص المادة 13 من الميثاق التي تحفز الجمعية العمومية على الاهتمام بالدراسات، وإصدار التوجيهات التي تعين على تقدم القانون الدولي(28).

9 - المفتي الأكبر محمد أمين الحسيني يحدثنا عن فارس الخوري وموقفه من القضية الفلسطينية.

بمناسبة وفاة فارس الخوري أرسل الشيخ أمين الحسيني رسالة إلى الأستاذ محمد الفرحاني جاء فيها:

(يأتي فقيدنا العظيم، المغفور له السيد فارس الخوري، في طليعة من تذكر فلسطين من أقطاب العرب الأحرار، بالإعجاب والتقدير، وفي مقدمة من تزجي إليهم الشكر الوفير، لما أسدوه لقضية فلسطين من خدمات صادقة، وما بذلوه في سبيل الدفاع عنها من جهود مبرورة، ومساع مشكورة.

إن فارس الخوري، الوطني والعلامة، وقف جهده وعلمه ودماغه النيّر العامر، بل حياته، على خدمة سورية والأمة العربية والدفاع عن سائر قضاياها، ولكن قضية فلسطين، وهي أخطر هذه القضايا وأعظمها شأناً، استأثرت بعنايته أكثر من غيرها، ونالت من جهده وسعيه ما جعلها موضع رعايته الخاصة، وأحلها مكانة ممتازة في سويداء قلبه الكبير، وليس بمستغرب أن يكون هذا هو نصيب فلسطين من اهتمام فارس الخوري وحدبه عليها، فقد قدر هذا الرجل البعيد النظر والواسع الاطلاع، منذ البداية، أهمية القضية الفلسطينية، وأدرك ما تنطوي عليه الحركة الصهيونية من مطامع خطرة وبرامج شرهة، تتجاوز فلسطين إلى الأقطار العربية كلها، ولذلك فإنه كان يعتبر دفاعه عن فلسطين دفاعاً أيضاً عن الأمة العربية وديارها في مشرقنا العربي.

ووقف فارس الخوري إلى جانب قضية فلسطين وشعبها المكافح منذ فجر الحركة الوطنية الفلسطينية في 1918 حتى احتسبته الأمة العربية عام ،1962 فعرفه العرب عامة، والفلسطينيون خاصة، فارساً مغواراً يدافع عن قضية فلسطين دفاع الأبطال، ومناضلاً قوي الشكيمة ضد الاستعمار والصهيونية، ومكافحاً حلاحل في سبيل الحق، في مختلف الميادين العربية، والمجالات الدولية، وصوتاً مدوياً في حلبة الدعاية ومضمار الدبلوماسية.

إن خدمات فارس الخوري لقضية فلسطين ومواقفه الرائعة في الدفاع عنها أكثر من أن تعد، وأجلّ من أن تنسى، وأبلغ من أن يبلى ذكرها، ويحول مجال هذه العجالة دون تفصيلها، ولكن الواجب والاعتراف بالفضل والجميل يحتم تسجيل بعض ما قام به الفقيد الغالي من الأدوار الباهرة ذوداً عن فلسطين، ورداً للغيلة الصهيونية عن البلاد العربية.

إننا نذكر كيف هبَّ فارس الخوري يطالب المجلس التأسيسي السوري خلال اجتماعاته في 1928 لوضع دستور لسورية المستقلة، بأن ينص هذا الدستور على أن فلسطين جزء من سورية، وكيف جعل فلسطين مادة رئيسية في المباحثات السورية - الفرنسية في باريس عام 1936 وقد كان تمسك سورية بقضية فلسطين ومصيرها من العوامل الأساسية التي دفعت بالاستعمار الفرنسي، يؤيده صنوه الاستعمار البريطاني، إلى تقويض المجلس التأسيسي السوري، ورفض المطالب السورية في مباحثات باريس.

وفي مؤتمر بلودان العربي الشعبي العام المنعقد عام 1937 كان فارس الخوري مجلياً في الدفاع عن فلسطين وقضيتها، كما كان الحركة الدائمة في المؤتمر البرلماني العربي الدولي الذي عقد في القاهرة عام 1938 لتأييد قضية فلسطين، وسطع نجم فارس الخوري عالياً مشعاً في انتصاره لقضية فلسطين، ودفاعه عنها في (الأمم المتحدة) منذ رفعتها إليها بريطانيا في ربيع 1947 حتى أقعده المرض عن الاستمرار في تمثيل سورية في الأمم المتحدة.

وعندما استفحل الخطر الصهيوني على فلسطين في 1947 وتفاقمت المؤامرات الاستعمارية - الصهيونية ضدها، وشعر العرب ودولهم بوجوب مقاومة الغزو الأجنبي بشتى الوسائل ومختلف الأساليب، تداولت الدول العربية وجامعتها في موضوع الدفاع عن فلسطين، وتباحثت في أجدى الطرق لإنقاذها من الصهيونية، فكان من رأي فارس الخوري أن يتولى الفلسطينيون أنفسهم مهمة الدفاع، تؤيدهم الدول العربية وتساعدهم بالمال والسلاح والفنيين، وأن لا تدخل الجيوش العربية النظامية أراضي فلسطين، وقد كان رأي فارس الخوري منسجماً مع وجهة نظر الفلسطينيين وزعمائهم في كيفية الدفاع عن فلسطين، ولما أوصت لجنة الخبراء العسكريين العرب التابعة للجامعة العربية، في خريف عام ،1947 بأن أحسن الوسائل وأجداها للدفاع عن فلسطين وإنقاذها هي الاعتماد على الفلسطينيين وتزويدهم بالمال والسلاح والخبراء، وأن لا تدخل الجيوش العربية أراضي فلسطين أهاب فارس الخوري بالجامعة العربية ودولها إلى التقيد بهذه التوصية، التي جاءت تؤيد وجهة نظر الفلسطينيين ورأي فارس الخوري. وقد أصيب فارس الخوري بصدمة أليمة عندما رأى الدول العربية تعزف عن الخطة التي أوصت بها لجنة الخبراء العسكريين العرب، وتسير على خطة معاكسة لها بالمرة، ولم يخف فارس الخوري ألمه من هذه الضربة القاصمة التي أصابت الخطة المثلى لإنقاذ فلسطين، وأدلى بعدة تصريحات وبيانات رغم ما كان يشغله من مركز رسمي في الدولة السورية - يشجب فيها السياسة التي أدت إلى قلب توصية لجنة الخبراء العسكريين العرب رأساً على عقب..

ولما أعلن إنشاء (إسرائيل) في 15 أيار 1948 ودخلت الجيوش العربية النظامية أراضي فلسطين "لإنقاذها وتحرير أهلها العرب من الإرهاب الصهيوني" وكان فارس الخوري يمثل بلاده في الأمم المتحدة، فقام بأضخم الجهود المستطاعة لإحباط الدعايات المغرضة التي كانت تبث ضد العرب، ولإبراز وجهة نظر العرب، وشرح العوامل التي حملت دولهم على التدخل المسلح..

واستطاعت الجيوش العربية، رغم السياسة الخاطئة التي كانت توجّه العمليات العسكرية...، تهديد (إسرائيل) بهزيمة منكرة تقتلعها من جذورها. فتدخَّل مجلس الأمن، حرصاً على سلامة الصهيونية ودويلتها الباغية الدخيلة وأصدر قراراً بوقف إطلاق النار، وعقد هدنة بين الدول العربية و(إسرائيل). ولمّا قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بالضغط على الدول العربية للإذعان إلى قرار مجلس الأمن، أبرق فارس الخوري إلى الدول العربية وجامعتها يحضّها على رفض قرار مجلس الأمن، وعلى مواصلة القتال حتى يتمّ الإجهاز على (إسرائيل) وأكّد في برقياته بأن الأمم المتحدة ليست في وضع تستطيع معه اتخاذ أية تدابير أو إجراءات ضد العرب إذا هم واصلوا القتال، ولكن السلطات العربية المسؤولة رفضت نصيحة فارس الخوري، واستبعدت توصيته، فرضخت لمشيئة الإنكليز وإرادة الأمريكيين وأوقفت القتال، وعقدت الهدنة الأولى مع (إسرائيل) وفقاً لقرار مجلس الأمن، فأدى ذلك إلى النتيجة المؤلمة التي يعرفها العرب، ولو عملت الدول العربية برأي فارس الخوري وتوصيته لما كان هناك اليوم دولة (إسرائيل) في فلسطين.

ونقم فارس الخوري على الدول العربية لرضوخها لقرار مجلس الأمن، فوجه إليها انتقادات قاسية مريرة، وحمّلها مسؤولية كلّ ما ينجم عن هذا الرضوخ.

وكان قلب فارس الخوري قد أثخن بجراحات كثيرة في ذوده عن العرب، ودفاعه عن فلسطين، ولكن كارثة فلسطين كانت أعمق جرح أصابه، ورغم نقمته على السلطات العربية لتنكبها السير على الطريق القويم لإنقاذ فلسطين، وعمق الجرح الذي أصابه، فإن فارس الخوري ازداد قوة وجلداً في الدفاع عن فلسطين حتى النفس الآخر من حياته الغالية. وبالإضافة إلى جهوده السياسية انكبّ فارس الخوري، ومعه زوجته الفاضلة على معالجة شؤون اللاجئين، ومساعدتهم، والعمل على تخفيف نكبتهم ومحنهم، فقدم في هذا المضمار خير الخدمات، وأسدى للاجئين أحسن المساعدات (29).

قال الأستاذ محمد الفرحاني:

"كان فارس الخوري يرى... أن معركتنا مع اليهود، هي معركة التاريخ، وليست معركة مع عدو طارئ..

وكان- رحمه الله- يتململ حينما يرى أن سياسة بعض العرب في مواجهة هذا الخطر، لا تخرج عن حدود تقدير قوة إعداد اليهود وحاجتنا إلى إعداد قوي يكافئه، أو قوة دعايتهم وحاجتنا إلى دعاية قوية ترد عليهم، أو خطة المعسكر الإنكلو-أميركي في التمكين لـ (إسرائيل) والاستفادة منها، وحاجتنا معشر العرب إلى فضح خطته، وتفويت أغراضه، بالاستعانة بالمعسكر الروسي.. وبديهي أن الأستاذ فارس الخوري لم يكن يهمل أمر حاجتنا إلى إعداد قوي، ودعاية قوية ووجوب الاستفادة من المعسكرين المتنازعين وقد أكد لي أنه حاول ذلك قبلاً، وتحدث إلى كل من السيد فيشنسكي وغروميكو، يمموضوع إيجاد تقارب سوفييتي عربي، فلم يكن يلقى استجابة وإصغاء.. فكان السيد غروميكو لا يكاد يعقب بكلمة، أما فيشنسكي فكان يقول له: أنا واثق من حسن قصدك، وسلامة أهدافك، ولكن، للأسف، لا فائدة من ذلك، لأن الدول العربية مرتمية في أحضان الغرب، ولا حيلة للروس في التقارب من إحداها!!.

إلا أن فارس الخوري كان يرى، أن الأمر أخطر من ذلك بكثير، وأن من السذاجة الظن بأن اليهود الذين احتلوا (الأرض المقدسة) هم مجرد صنائع يلعب بها الإنكليز أو الأمريكان أو الروس، أو مجرد مخلب قطّ لهذا الاستعمار.. أو مجرد جسر له.. ويوافق على وصف كلّ سياسة تقوم على هذا الظنّ بأنها سياسة جاهلة بالتاريخ وبالاقتصاد وبحقيقة خطر اليهود.

فالأستاذ فارس الخوري يدرك أن اليهود، إنما هم أصحاب عقيدة رهيبة يؤمنون بها، على أنهم شعب الله المختار، وأن عقيدتهم وقفٌ على جنسهم، لا يدخلها غيرهم، وأن حكم العالم هو من حقهم وحدهم، ويجب أن يصير إليهم، وأن غيرهم حيوانات أعطيت شكل الإنسان كي يسهل تسخيرها، وأن مال غير اليهودي يحل لأول يهودي يستولي عليه مهما تكن الوسائل، وكل هذه نصوص في التلمود، كتابهم المقدس، يعبدون ربهم بها، ويرسمون سياستهم بروحها، وأن حكماءهم التلموديين قد وضعوا لهم سياسة قديمة متصلة المراحل تعتمد على ثلاث قواعد، على إفساد غير اليهود بكل وسائل الإفساد، وعلى جمع شمل اليهود وتوحيد قواهم، وعلى السيطرة بوسائل المال والتجسس والنشر على القوى العالمية، وضرب بعضها ببعض حتى يؤول الأمر في النهاية إلى شعب الله المختار، وفارس الخوري يدرك أيضاً أن الذكاء اليهودي مافتئ يعمل بجد ونشاط على تدمير أعز ما لدى الآخرين من معتقدات، وهدم الأعمدة التي شيّدوا عليها بناء تفكيرهم.

أولاً: بروتوكولات حكماء صهيون

ولا ينسى فارس الخوري أن يشير إلى بعض الذي جاء في (بروتوكولات حكماء صهيون) مما يؤكد هذه الحقيقة المؤكدة.جاء في البروتوكول الرابع ما نصّه:

(إننا نقصد أن نظهر كما لو كنّا المحررين للعمال، جئنا لنحررهم من هذا الظلم، حينما ننصحهم بأن يلتحقوا بطبقات جيوشنا من الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين، ونحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعاً لمبدأ الأخوة والمصلحة العامة الإنسانية. وهذا هو السبب الذي يحتم علينا أن ننتزع فكرة الله ذاتها من عقول المؤمنين، وأن نضع مكانها عمليات حسابية، وضرورات مادية، ولكي نحول عقولهم عن سياستنا، سيكون حتماً علينا أن نبقيهم منهمكين في الصناعة والتجارة، وهكذا ستنصرف كل الأمم عن مصالحها، ولن تفطن في هذا الصراع العالمي إلى عدوها المشترك).

من هذا نعلم شدة إدراك اليهود لخطورة التمكين للعقيدة في الله، في أي مجتمع غير يهودي، لعلمهم أن من شأن هذا الإيمان أن يجمع شمل غير اليهود تحت قيادات قوية، ويعينهم على الاستقرار، ولهذا يعودون فيؤكدون نفس هذا الموضوع في البروتوكول الثالث عشر الذي نصّ:

"ولهذا السبب سنحاول أن نوجه العقل العام نحو كل نوع من النظريات المزيفة التي يمكن أن تبدو تقدمية أو تحررية، لقد نجحنا نجاحاً كاملاً بنظرياتنا عن التقدم، في تحويل رؤوس غير اليهود الفارة من العقل نحو الاشتراكية، ولا يوجد عقل بين غير اليهود يستطيع أن يلاحظ أنه في كل حالة وراء كلمة (التقدم) يختفي ضلال وزيغ عن الحق ماعدا الحالات التي تشير فيها هذه الكلمة إلى كشوف مادية أو علمية".

ثانياً: السلاح الروسي

قال فارس الخوري:

لقد أخطأ جمال عبد الناصر خطأ فادحاً بإعلانه نبأ الأسلحة، فالرجل العسكري لا يعلن عن قوته، حتى يفوّت على العدو الاستعداد له بمثل ما عنده، ولكنني أعتقد أنه كان مسوقاً لذلك برغبته توطيد دعائم حكمه الداخلي في مصر.. أي أنه للاستهلاك المحلي ليس إلا.. وقد نجح جمال عبد الناصر في تأليف القلوب حوله نجاحاً كبيراً ما كان ليخطر على بال، ذلك أنه بعد تطور الأحداث، واتجاه سياسة أكثر الشعوب العربية ودولها إلى التمرد على الحلفاء الإنكليز والأمريكان الذين خانونا وأعانوا اليهود علينا بعد حربين عالميتين كنا فيهما أوفياء صادقين، وكان هذا الاتجاه استجابة للمشاعر الشعبية المتأججة التي كان (المعسكر الروسي) لبوادرها بالمرصاد، يلقطها ويغذيها.. فجاءت صفقة الأسلحة ليستبشر الناس بها، وليؤيدوها كل التأييد، وليطالبوا بالاستزادة منها.. ولكن، هل كان هذا هو كل شيء في السياسة الدولية؟!! وهل كان اليهود بمعزل عن سياسة المعسكر الروسي حينما أمدنا بالسلاح؟!! أو على الأقل.. هل كانت تعوزهم وسائل المخابرات ليعلموا بالصفقة قبل أن تتم، وليخبروا بها الإنكليز والأمريكان حتى يبادروا إلى عمل يفوت على المعسكر الروسي التدخّل في شؤون الشرق الأوسط، وتسليحه، كما فعلوا حينما سرقوا الأسرار الذرية من أمريكا، ونقلوها إلى روسيا في الحادثة المشهورة التي كانت نتيجتها تنحية (أوبنهايمر) اليهودي الذي كان رئيس الاكتشافات الذرية الأميركية، وما قيل في تبرير هذه السرقة من أنه كان القصد منها إيجاد شيء من التوازن بين القوى العالمية إلى حين.. فما علاقة هذا العالم بالتوازن الدولي، وهو أمر سياسي بحت؟!.. ثم إعدام روزنبرغ العالم الذري اليهودي الأمريكي وزوجته بمثل هذه التهمة.. فياترى... هل كانت مصلحة اليهود في تفويت التسليح الروسي للعرب أقل؟!.. أو هل كان عملاؤهم ومخبروهم في روسيا التي تجسسوا لها وسرقوا الأسرار لحسابها أقل من عملائهم ومخبريهم في أمريكا؟!.. وهل نستطيع أن نطمئن إلى الأكثرية اليهودية في مجلس السوفييت الأعلى وكاكانوفتش نائب رئيس وزراء روسيا، اليهودي (ولم يكن أقصي عن منصبه) والعدد الكبير من اليهود بين وزراء دول أوروبا الشرقية.. إن كل هؤلاء قد تخلّوا عن يهوديتهم، وأصبحوا روسيين وشيوعيين فقط.. ثم.. هل يقتصر دور المعسكر الروسي على تسليح العرب فقط بالصفقة التي أعلناها ولا يسلّح (إسرائيل)؟!! وإذا كان يسلّحها فبمقدار أقل أو أكثر؟! من يستطيع أن يعلم؟! والذي يدفعنا إلى الشك والريبة والحذر، هو ما نعرفه عن تاريخ اليهود الطويل، وأنه عبارة عن سلسلة من المؤامرات والجرائم الكبرى لا تنقطع إلا لتعود فتتصل.. ولقد ذكرنا أن حكماءهم التلموديين قد وضعوا لهم سياسة قديمة متصلة المراحل من قواعدها الثلاثة: السيطرة بوسائل المال والتجسس والنشر على القوى العالمية وضرب بعضها ببعض حتى يؤول الأمر في النهاية لشعب الله المختار.. ومن المؤكد، أن حبّ التحكم في العالم ليس مجرد رغبة طارئة لدى اليهود، بل هو في الواقع من صميم طبيعتهم ودينهم ومعتقداتهم.. جاء في كتاب اليهود المقدس (التلمود) ما نصه: "يجب أن نزوج بناتنا الجميلات للملوك والوزراء والعظماء، وأن ندخل أبناءنا في الديانات المختلفة، وأن تكون لنا اليد العليا في الدول وأعمالها، فنفتنهم ونوقعهم في الحروب، وندخل عليهم الخوف، وفي كل ذلك نستفيد الفائدة كلها". ولذا، فلا بد أن تدفعنا الريبة والحذر من اليهود إلى سؤال آخر قد يبدو غريباً هو.. هل يمكن أن يكون لليهود مصلحة في صفقة الأسلحة؟ وما هي؟! حتى نلعب اللعبة بمهارة، فنستفيد من التسلح ونفوّتها عليهم؟!.. وهذا التساؤل يجعلنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة التي لا يختلف معنا فيها الكثيرون، وهي أن ركائز السياسة الروسية في كل بلد هم الشيوعيون.. وأن حجة الشيوعية الأولى في بلادنا ليست الظلم الاجتماعي، وإن كان الظلم الاجتماعي من حججها، ولكنها في مظالم الاستعمار وسياسة الإنكليز والأمريكان، ومن شأن هذه الصفقة أن تقوي حجة الشيوعية تقوية إيجابية، ومعنى ذلك أن انتشار الشيوعية هو الثمن الحقيقي الذي تطمع فيه روسيا من الصفقة، ولا غبار عليها في ذلك، فهي تعمل لمصلحتها، وترسي ركيزة سياستها، ولكن مهمتنا نحن أن نقدر خطر انتشار الشيوعية علينا وعلى قضية فلسطين نفسها التي نطلب السلاح في الدرجة الأولى من أجلها؟!! وهنا جاز لنا أن نتساءل عن الضمانات التي اتخذها الزعماء العرب لحماية الشعوب العربية من خطر الشيوعية، ولتحقيق ما يصرح به جمال عبد الناصر بين الحين والحين من أنه يستورد حديداً لا مبادئ.. ولا عبرة في مكافحته الشيوعية كحزب في بلاده، مادامت تنتشر بسرعة مذهلة في البلاد العربية الأخرى وتقوى.. والأمة العربية كل لا يتجزأ.. ونحن نرى أن الشيوعية في سورية تبرز بشخص نائبها الوحيد في مجلس النواب السوري، ولجنة الشؤون الخارجية فيه، وفي بعض جلسات مجلس الوزراء، وتتولى الوزارة والنيابة في قطر عربي مجاور (هو الأردن) وتمشي- أي الشيوعية- في الشوارع، وفي مدرجات الجامعة والمدارس والصحف، وتعرض كتبها في المكتبات، وأن تشيع هذه البلاد، معناه استقرار (إسرئيل) وبقاؤها.

ثالثاً- الشيوعية من صنع اليهود

وكان فارس الخوري يركز في أحاديثه إلى أن حكومة الثورة الشيوعية الأولى هي أول حكومة اعترفت باليهود كجماعة ذات حق بإنشاء كيان خاص لهم، فهي بعد استلامها الحكم في روسيا بأسبوع واحد، أصدرت قانوناً باعتبار (اللاسامية) جريمة، واللاسامية كما هو معروف، كره اليهود وعداء الشعوب الأخرى لهم، وفي عام 1920 أي قبل قيام دولة (إسرائيل) بثمانية وعشرين عاماً اعترفت حكومة الثورة الشيوعية اعترافاً صريحاً بضرورة قيام دولة يهودية في فلسطين، وبتنظيم الجمهوريات اليهودية في ألمانيا، وفي النمسا، وعندما عرض مشروع التقسيم على هيئة الأمم، كان الاتحاد السوفييتي والدول السائرة في ركابه (على الرغم من جهودنا الجبارة التي بذلناها معها) في مقدمة الدول التي قررت مشروع التقسيم، كما كانت في مقدمة الدول التي اعترفت بـ (إسرائيل) ونحن نعلم أيضاً أن الذين قاموا بالثورة الشيوعية هم من اليهود الكبار الذين كانت تمولهم مصارف يهودية كبرى في أوروبا ونيويورك، وأن روسيا قد ظلت في أيديهم حتى عام 1926 عندما بدأ ستالين يسيطر تدريجياً على الحكم، واضطراره تروتسكي على الهجرة من روسيا.. وفي عام 1930 خفت وطأة الحكم اليهودي عن روسيا، ومن هنا قيل إن ستالين انتزع الثورة الشيوعية من أيدي اليهود، ووضع حداً للمرحلة اليهودية في الشيوعية، لأنه أبعد بالفعل عن الحكم والسيطرة أربعة عشر زعيماً يهودياً هم أبرز الزعماء والحكام في تاريخ الثورة الشيوعية، ولا ننسى محنة اليهود على يديه في أخريات أيامه، حتى لقد أشيع أنه مات قتيلاً بيد اليهود!!

يتبع