شوقي ضيف: منظومة من القيم الرفيعة وتكريس كامل للكتابة

أبرز تلاميذ طه حسين ترأس لاحقا مجمع اللغة العربية

شوقي ضيف: منظومة من القيم الرفيعة وتكريس كامل للكتابة

محمود قرني

رحل عن دنيانا العالم واللغوي وأستاذ الدراسات الأدبية الكبير الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورئيس اتحاد المجامع اللغوية العربية،وذلك عن عمر يناهز الخامسة والتسعين من العمر بعد صراع طويل مع المرض دام خمس سنوات.

ولد الدكتور أحمد شوقي عبد السلام ضيف في الثالث عشر من كانون الثاني (يناير) عام 1910 بمحافظة دمياط أقصي شمال غرب القاهرة، وتخرج في قسم اللغة العربية من جامعة فؤاد الأول عام 1935، وكان اول خريجي دفعته الدراسية، ثم حصل علي درجة الماجستير بمرتبة الشرف الأولي عام 1939، ثم نال درجة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف عام 1942.

وكان شوقي ضيف أحد أبرز تلاميذ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وقد أثري المكتبة العربية بحوالي سبعين مؤلفاً أو يزيد في الدراسات الأدبية والإسلامية، وقد ترأس مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ عام 1996 وحتي رحيله.وقد كانت رسالة الدكتوراه التي انجزها ضيف تحت إشراف الدكتور طه حسين في الفن ومذاهبه في الشعر العربي كذلك الفن ومذاهبه في النثر العربي بين أهم الآثار التي تركها.

وقد حقق شوقي ضيف عديداً من الكتب اللافتة منها الرد علي النحاة لابن مضاء القرطبي وهو الكتاب الذي كان يبغي ضيف تبسيطه لدارسي النحو العربي، وكذلك حقق رسائل الصاحب لابن عباد ، نقط العروس في تواريخ الخلفاء لابن حزم ، القسم الخاص بالأندلس من كتاب المغرب في حلي المغرب لابن سعيد ، السبعة في القراءات لابن مجاهد الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر وقد حصل الدكتور شوقي ضيف علي جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب، وعلي جائزة الدولة التقديرية في مصر وحصل مؤخراً علي جائزة مبارك في الآداب عام 2003.

ذكريات مع ضيف يتحدث الدكتور حسين نصار أحد أكبر المؤرخين والمحققين الأدبيين في مصر عن ذكرياته مع الدكتور شوقي ضيف: التحقت بكلية الآداب في جامعة القاهرة في أربعينيات القرن الماضي فالتقيت بعدد من الشبان يلقون علينا محاضراتهم، وتتفاوت أعمارهم وينتسبون إلي أقسام الكلية في مختلف تخصصاتها، لكنهم جميعاً كسبوا إعجابنا - نحن تلاميذهم - وإن اختلفت الأسباب، مدة التلمذة لهم ثم التلمذة معهم. وبقي لنا الدكتور شوقي ضيف أستاذ الأدب العربي القديم، بل أستاذ الثقافة الإسلامية ذلك الذي وهب عقله وحياته للأدب العربي هبة خالصة ودائمة.

ويضيف نصار: لا أذكر ان ضيف تقلد مناصب غير رئاسة قسم اللغة العربية، ومجمع اللغة العربية، والمنصب الأول يتولاه أقدم أساتذة القسم دون تطلع منه أو سعي، والمنصب الثاني قائم علي الانتخاب وكان توليه إياه اعترافاً من الجميع بما قدم الفقيد للغة العربية وأدبها.

ويردف نصار: وحين تعود بي الذاكرة إلي حين كنت تلميذاً له، أذكر انه لم يتغيب عن محاضرة إلا لمرض أو سفر، وكان قليلهما ولم يتأخر في حضور أية محاضرة، وكان المعلن في الجدول الرسمي أن المرحوم الأستاذ الشايب يدرس تاريخ الأدب ويدرس هو النصوص، ولكن الواقع كان غير ذلك، فقد تحولت محاضرات الشايب إلي درس للنصوص، وتحولت محاضرات ضيف إلي تاريخ الأدب.

ويقول الدكتور حسين نصار ان الراحل درّس إلي جانب ذلك علوم القرآن والحديث أعواماً. وكان له تلاميذه الذين حصلوا علي درجتي الماجستير والدكتوراه تحت إشرافه وهم الآن يملأون العالم العربي نشاطاً.

ويؤكد نصار أن ضيف إبان رئاسته لقسم اللغة العربية كان يفسح الطريق أمام كل صاحب رأي ليعبر عن رأيه، ويتقبله ويرحب به، ويختتم الدكتور نصار حديثه بأن الراحل لايحتاج لمن يتحدث عنه بل ان كتبه وأعماله هي التي ستتحدث عنه باعتباره المؤرخ الأدبي، المفسر القرآني، الباحث الإسلامي، والمجدد النحوي.

المعني والقيمة ويقول الدكتور جابر عصفور الناقد والأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة:

شوقي ضيف هو المؤرخ الأدبي بأوسع وأرقي معاني هذه الكلمة. ولا أظن أن أحداً في ثقافتنا العربية الحديثة فعل ما فعله شوقي ضيف في هذا المجال، حتي أستاذه طه حسين حيث تظل كتبه قليلة في هذا المجال بالقياس إلي ما كتب تلميذه الذي التقط منظاراً لرؤية المنهجية من أستاذه، ومضي به في كل اتجاه ومجال. ويضيف عصفور:

ساعد شوقي ضيف علي التفوق في الإنجاز الكمي أنه لم يكن مثل أستاذه رجل معارك، ميالاً إلي الاقتحام وتدمير المسلمات في كل اتجاه ومجال، ولم تشغله السياسة مثلما شغلت طه حسين، فانطوي علي نفسه متوحداً، مؤثرا عزلة العلم التي اتاحت له تقديم إنجاز يبدو معجزاً من النظرة الأولي، فهناك موسوعته الضخمة تاريخ الأدب العربي بمجلداتها التسعة التي استغرق العمل فيها ما يقرب من عشرين عاماً، وهي المجلدات التي ألقت الضوء علي بيئات ظلت مجهولة في تاريخ الأدب العربي، مثل ليبيا وتونس وصقلية وإيران وأفريقيا وغيرها من البيئات التي اسهم إلقاء الضوء عليها في استكمال اللوحة البانورامية الكبري لمسيرة الأدب العربي في بيئاته المعروفة وغير المعروفة، وذلك علي نحو غير مسبوق في شموله وثرائه ودقته، وهناك إلي جانب هذا الجهد الاستثنائي العشرات من كتبه في مجالات الأدب العربي وفنونه.

ويضيف الدكتور عصفور أن مسيرة شوقي ضيف العلمية كشفت عن اهتمامه بمجالات اللغة والنحو، ولذلك كتب كتبه المرجعية في هذه المجالات التي بدأ اهتمامه بها عندما عمل في مطلع حياته العلمية عام 1935 محرراً بمجمع اللغة العربية عقب تخرجه وظلت الاهتمامات نفسها تعاوده في عمله الجامعي، وزاده قرباً منها تعيينه عضواً في مجمع اللغة العربية ثم رئيساً له. ويري الدكتور جابر عصفور أن الأصول الريفية والنشأة الأزهرية لشوقي ضيف قد دعمتا اهتمامته الدينية وهي الاهتمامات التي ـ حسب عصفور ـ كشفت عن إيمان سني مستنير راسخ في أعماق الوعي الذي اعاد تأمل الإسلام في أخريات العمر فأصدر العديد من الكتب في غزارة لم أعرفها في أحد غيره من أساتذتي الذين أفخر بالانتساب إليهم معني وقيمة.

حارس الثقافة الأصيلة أما الكاتب والصحافي بجريدة الأهرام سامح كريم فقد أحصي العديد من المؤلفات التي اثري بها ضيف مكتبتنا العربية في مختلف المذاهب والمشارب النقدية والأدبية لاسيما حول تجارب مؤثرة في الشعر العربي من امثال المتنبي وأبي العلاء وابن سناء الملك، وابن زيدون، وشعراء محدثين مثل البارودي وشوقي وحافظ والعقاد وبيرم التونسي وصلاح عبد الصبور، حيث أفرد لهم دراسات تحليلية وفق مناهج دقيقة للبحث الأدبي، مع دراسات قرآنية وبلاغية ونحوية ونقدية تعمق ما يتناوله من دراسات أدبية.

ويتناول سامح كريم السيرة الذاتية للدكتور شوقي ضيف التي صدرت في جزئين بعنوان معي ويراها نموذجاً لما يجب ان تكون عليه السيرة الذاتية حيث حرص في الجزء الأول علي الحديث عن نشأته وصباه وتعلمه بكتاب القرية فالمعهد الديني فتجهيزية دار العلوم فكلية الأداب بجامعة فؤاد الأول حتي نال الليسانس ودرجتي الماجستير والدكتوراه.

ويري سامح كريم أن السؤال المطروح حول من يخلف ضيف في المجمع سؤال صعب بعد أن انتهي عصر الرواد الأفذاذ الذين تولوا رئاسة المجمع من امثال أحمد لطفي السيد وطه حسين وإبراهيم بيومي مدكور، وأخيراً شوقي ضيف ويقول كريم إن الكفاءات المجمعية أصبحت متقاربة لذلك يقترح اختيار رئيس للمجمع من الشباب ويقول:

حين نذكر الشباب بالنسبة للمجمع فإننا نقصد الذين تتراوح أعمارهم بين الخمسين والستين عاماً حيث يعتبر هذا العمر شاباً يافعاً غضاً بالنسبة لشيوخنا المجمعيين.

ويري كريم أن ذلك يمكنه أن يوجد حلولاً لمشكلات كبري تواجهها اللغة العربية والمجمع معاً، وكذلك قضية عدم مشاركة المرأة في عضوية المجمع منذ انشائه عام 1932 رغم أن قانون انشاء المجمع لا يستبعد مشاركة المرأة.

القيمة والقامة أما الدكتورة مي يوسف خليف مديرة مركز اللغة العربية بجامعة القاهرة فتقول:

رحيل العالم الكبير الدكتور شوقي ضيف يعني رحيل منظومة من القيم رفيعة المستوي، تلك التي تجلت في أخلاقياته مع طلابه وحوارييه ممن أدار معهم حواراته العلمية الهادئة ـ أو اشرف علي رسائلهم العلمية. وتضيف الدكتورة مي خليف: شرفت بالانضمام لموكب الدارسين علي يديه فتعلمنا منه أفضل ما يأخذه الطالب من استاذه بما يمكن الإشارة إليه ـ إيجازاً ـ في عدة صور مضيئة: منها تواضع العالم واخلاقه حيث لم يعرف لسانه فحشاً في القول، ولم يعرف وجهه قبحاً في المواجهة، بقدر ما كان قريباً إلي نفوسنا عبر حواراته وأصول دراساته التي أثري بها المكتبة العربية من جانب، وأثري بمثلها عقول طلابه، من جيل الأساتذة الجدد من جانب آخر، ومنها أيضاً الموسوعية التي انطلق منها مع رفاق دربه وتلاميذه، فبدأ مؤسساً لموسوعية البحث الأدبي لوجوب الإلمام بالدراسات الدينية قراءة وفهماً وتحليلاً ، بما يتجلي في إمكانية توظيفها في خدمة الدراسات الأدبية، وهو ما انعكس ـ بالفعل ـ في الطبيعة النوعية لمؤلفاته بين التأريخ للأدب العربي، وبين دراساته القرآنية والبلاغية والنحوية، وانطلاقه بين التأليف والتحقيق وتأصيل مناهج البحث، ووصولاً إلي طرح دراسات عامة للمثقف العربي غير المتخصص حول عالمية الاسلام، وغيرها من القضايا العصرية الجادة، والتي لا يعتبر الإسهام فيها واجباً علي علمائنا الكبار من قامة الشيخ العلامة الراحل. وتضيف مي خليف إلي هذه الأسباب: مستوي الجدية والأصالة والمنهجية التي انطلق منها الدكتور شوقي ضيف، بأستاذية العالم الذي يعرف حق علمه ويحترم دائرة عمله، ولعل هذا هو ما حدا به إلي تجاوز حلقات الكلية والتخصص المنهجي بأن يترأس مجمع الخالدين بما تعكسه تلك الرئاسة من مدلولات ومؤشرات.

تقول مي خليف: وضع شوقي ضيف دستوراً وميثاق شرف للأستاذية تبدت ملامحهما في مبادئه التي اتسق فيها مع نفسه، ومع تلاميذه، حيث غرس فيهم حب العمل وإتقانه مع احترام سلوك الأستاذ بين تلاميذه نموذجاً وقدوة ومثلاً أعلي ، ثم كان الحرص علي التجديد والابتكار من خلال التعددية القرائية بين الموروث والاستشراق وفتح مجالات المناقشة والحوار، والاعتراف بحق الباحث في الاختلاف مع أستاذه، مع تقدير مساحات الاحترام وأداب الحوار دون شطط أو تجاوز أو المساس بالقيمة أو الاقتراب من القامة.