سيد قطب أديباً: شاعراً وقاصاً وناقداً

من لا يفهم سيد قطب أديباً لا يفهمه مفسراً

سيد قطب رحمه الله

أحمد الجدع

البحث عن سيد قطب

أول ما سمعت بسيد قطب كان في المدرسة الثانوية ، فقد كنت دائماً متعاطفاً مع التيار الديني ، وقد كان مدير المدرسة أحد أنصار الحزب الوطني الاشتراكي ، وكان شديد المضايقة للمتدينين على الرغم من محافظته على الصلاة، وعلى الرغم من متابعته واقتنائه كتاب "في ظلال القرآن" أيام صدوره في أجزاء متتالية .

أحببت أن أعرف شيئاً عن هذا الكتاب الذي يحرص مديرنا على قراءته ومتابعة أجزائه ، أليس عجيباً أن يقتني هذا الكتاب رجل اشتراكي يناكف المتدينين في مدرسته ؟

عرفت أن مؤلف هذا الكتاب ، وهو تفسير عصري للقرآن الكريم ، هو واحد من رجال الإخوان المسلمين بمصر، وهو معتقل في سجونها بتهمة التطرف الديني ، وهي التهمة التي اختارتها أمريكا واختارها أعوانها لكل من دعا إلى الإسلام شريعة ومنهج حياة .

وأخذت أتساءل : من هو سيد قطب هذا ؟

ولم يكن أحد في مدينتنا الصغيرة "جنين" يعرف عنه شيئاً سوى أنه مفكر إسلامي وأحد قادة الإخوان المسلمين ، وأنه معتقل في سجون مصر ظلماً وعدواناً .

هذا كل ما عرفته عن سيد قطب في أيام التلمذة الثانوية !

ولكن من هو سيد قطب ؟

إنه سيد قطب إبراهيم .

أسرته من أصول هندية جاءت إلى مصر من الهند ، فاستوطنت في قرية موشا التابعة لمدينة أسيوط بجنوب مصر .

هذه أول الحقائق في حياة سيد ، إنه من أصل هندي ، ومن المعروف عن الهنود أنهم يميلون إلى الفلسفة والاستغراق في التدين ، والإخلاص له .

وكان من المعروف عن قطب إبراهيم أنه رجل متدين ، يحرص على تربية أبنائه على الدين القويم .

والحقيقة الثانية التي يجب أن ننوه عنها هنا أن أسيوط التي جاء منها سيد قطب إلى القاهرة تقع في جنوب مصر مثلها مثل أسوان التي جاء منها عباس محمود العقاد إلى القاهرة ، فإن صلة المنشأ بين العقاد وسيد قطب لها تأثيرها في العلاقة الوطيدة التي نشأت بينهما فيما بعد ..

ثم إن هذا الأب ذا الأصل الهندي المتمسك بأهداب دينه حرص على أن يزود ابنه بما يحصنه في دينه ، فأدخله المدرسة في قريته وعلمه القرآن حتى حفظه ..

ولست أدري إن كان هذا الأب الهندي الأصل قد حرص على أن يكون حفظ القرآن مقترناً بفهمه ، مترسماً في ذلك مقولة ذلك الرجل الهندي الذي أنجب محمد إقبال أعظم الشعراء الإسلاميين المعاصرين إذ أوصى ابنه وهو يحفظه القرآن على أن يقرأه كأنما أنزل عليه !

إن هذه الوصية لهي لب القراءة ، فللقرآن روح يجب أن تصاحبنا ونحن نقرؤه أو نكتب عنه، وإلا فإن خيراً كثيراً يفوتنا من حفظ هذا الكتاب العظيم إذا لم نقرأه بروحه وكأنه علينا أنزل.

إن بعضاً ممن أكرمهم الله بحفظ القرآن لم يتجاوز حفظهم ألسنتهم ، فهم لم يحفظوه بقلوبهم، ويحضرني هنا ظاهرة وقفت عندها ملياً ، إذ عرفت رجلاً حافظاً للقرآن ، كانت له مكتبة يبيع فيها كل ما هب ودبّ من المجلات الإسلامية منها و"الخلاعية" ، كنت أسائل نفسي وأقول : كيف يبيع هذا الرجل "الحافظ" مجلات الضلال والفجور؟ ولم أهتد لجواب شاف حتى أدركت لاحقاً أن للقرآن روحاً من لم يقرأه بها ويفهمه بها لا يتجاوز حفظه للقرآن لسانه إلى قلبه ، فهو لا يتفاعل معه ولا يسبح في آفاقه ، ولا يعيش في ظلاله ، ولا يدرك مراميه وأهدافه .

وأحسب أن سيد قطب عندما حفظ القرآن وحمله معه إلى القاهرة لم يكن قد تفاعل تفاعلاً شاملاً مع معاني القرآن وروحه ، وأنه سلك لذلك طريقاً كانت تبدو فيه معالم متفرقة لهذا التأثير، تدرج فيها شيئاً فشيئاً إلى أن اكتشف روح القرآن متفاعلاً معها في رحلة متأخرة من حياته الأدبية ومسيرته الحياتية .

والحقيقة الثالثة التي يجب أن نشير إليها في هذه المرحلة من حياة سيد قطب أنه عاش حياة القرية بما فيها من صفاء الروح ونقاء الطبيعة وحميمية العلاقات الاجتماعية ، وأنه عندما انتقل إلى القاهرة حمل معه هذه القيم وحاول الحفاظ عليها ما وسعته المحاولة ، ولأنه كان أكبر إخوته فإنه أخذ مكان أبيه في قيادة الأسرة وحاول أن يكون لإخوته أباً مكان أبيهم ، وهذا من أثر قيم القرية المرتبطة بقيم الإسلام العظيم .

وفي القاهرة سكن سيد قطب في حلوان ، وهي ضاحية من ضواحيها ، والحياة فيها أقرب إلى الريف منها إلى حياة المدينة ، ولعل رغبة سيد في إبقاء الصلة بين حياة الريف في أسيوط وحياة الريف في العهد الجديد هي التي دفعته إلى اختيار هذا المكان للسكن فيه .

والتحق سيد قطب بعد أن نال الشهادة الثانوية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة ، وكانت كلية دار العلوم آنذاك إحدى قلاع اللغة العربية ، تدرس فيها اللغة بمناهج جديدة عصرية ، ويقوم على التدريس فيها أعلام اللغة والأدب في ذلك العصر وعلى رأسهم طه حسين الذي أطلقوا عليه عميد الأدب العربي ، وأمين الخولي الذي كان يرأس "جماعة الأمناء" وهي جماعة تدعو إلى منهج جديد في اللغة والأدب ، وكان إلى جانب أمين الخولي زوجته الأديبة النابغة عائشة عبد الرحمن المشهورة بلقب بنت الشاطئ ، إلى أعلام آخرين كانت تموج بهم دار العلوم .

وعاش سيد قطب حياة القاهرة التي كانت تموج بالتيارات الأدبية فضلاً عن السياسية وكانت تدور فيها معارك أدبية فضلاً عن المعارك السياسية ، وكان من أعلام الأدب والشعر آنذاك أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعباس العقاد ومصطفى الرافعي وأحمد محرم وعبد الرحمن شكري وعبد القادر المازني ، إلى أعلام آخرين غصت بهم الساحة الأدبية ، وكانت جماعة "أبولو" قد أطلّت برأسها على ساحة الأدب مضيفة بعداً جديداً ووجهاً جديداً ومنحىً جديداً للأدب العربي الذي أخذت تتنازعه وجهات نظر متعددةومدارس متباينة وآراء متضاربة !

وعندما تخرج سيد قطب من الجامعة عام 1933 عين مدرساً في مدارس وزارة المعارف ، وقد كان المدرس في ذلك العصر في مرتبة اجتماعية عالية لحداثة التعليم وقلة المعلمين ، ثم نقل إلى رئاسة الوزارة موظفاً بالإدارة الثقافية فيها ، وعندما أصبح الدكتور طه حسين وزيراً للمعاارف قرب إليه سيد قطب ، إذ كان على معرفة به عندما كان طالباً في كلية دار العلوم .

وفي أثناء عمله في الإدارة الثقافية بالوزارة اختاره طه حسين ليذهب في بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاطلاع على طرائق التربية فيها ، فقضى هناك عامين كان لهما أبلغ الأثر في حياته إذ اغتيل الإمام حسن البنا في مصر وسيد في بعثته ، ورأى فرحة الأمريكان بهذا الاغتيال وسرورهم به ، فلفت ذلك نظره ، وتساءل عن أسبابه ودوافعه ، وهو إذ ذاك لم يكن على معرفة بالإخوان المسلمين للدرجة التي تقفه على سرّ تلك الفرحة الأمريكية باغتيال رجل بسيط يدعو إلى العودة إلى الإسلام في بلد يموج في بحر من الدعوات وخضم من الأحزاب ...

سنتان في الولايات المتحدة الأمريكية (1949-1950) عاش فيها سيد قطب يطلع على مسيرة التربية في المنهج الأمريكي ، ويتأمل مسيرة الحياة في أمريكا بكل جوانبها ، وقد نظر إليها نظرة الناقد الفاحص الدارس ، ولعله كان أول مسلم ذهب إلى هناك ولم ينبهر بالحضارة الأمريكية ولم يذب فيها ، أو لعله من النفر القلائل الذين نأوا بأنفسهم في الذوبان في ثقافة الغير .

وعاد إلى مصر عام 1950 والمجتمع المصري يموج في بحار من الاضطراب ، وبراكين من الأفكار والأحزاب والجماعات كلها على وشك الثوران ، وما فتئ هذا الاضطراب أن عصف بالملكية في انقلاب عسكري قادته مجموعة من الضباط دارت حولهم آراء وشكوك لعل أقربها إلى الصواب استباق الأمريكان لكل الحركات التي كانت على وشك الوثوب على الملكية المصرية المتهالكة ، وعلى ممتلكات الإمبراطورية الإنجليزية الآخذة بالأفول .

وفي هذه الأثناء كان سيد قطب يرقب الأحداث ، ويدرس الاتجاهات ، ولكنه لم يلبث أن اختار طريقه منضماً إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين فرحوا به ورحبوا بانضمامه إليهم ، وما لبثوا أن أوكلوا إليه ممهام قيادية أهمها رئاسته لتحرير الصحيفة الناطقة باسمهم .

ومن المفيد وقد أشرنا إلى رئاسة سيد قطب لتحرير جريدة "الإخوان المسلمين (1954)" أن نذكر صلة سيد بالصحافة ، فقد تول إدارة مجلة "العالم العربي" وهي مجلة أدبية سياسية صدر العدد الأول منها عام (1947) ثم تركها بعد صدور أربعة أعداد منها ، وتولى توجيه مجلة "الفكر الجديد" التي صدرت عام (1948) وكان رئيس تحريرها حلمي المنياوي القريب من جماعة الإخوان المسلمين ، وأوقفت الحكومة هذه المجلة بعد صدور اثنى عشر عدداً منها .

نشر سيد قطب مقالات عديدة في هذه المجلات الثلاث ، وكان له تأثير فيها ، وبخاصة في الجانب الثقافي ، وهو بالإضافة إلى هذه المجلات الثلاث فقد نشر مقالاته في مجلات أخرى على رأسها مجلة "الرسالة" التي كان يرأسها "أحمد حسن الزيات" الأديب المشهور ، وكان سيد قطب أحد أبرز كتابها .

انضم سيد قطب إلى جماعة الإخوان المسلمين ، وأصبح أحد قادتها ومفكريها ، فأشرف على عدد من إداراتها منها الصحافة ومنها قسم نشر الدعوة ، وعندما قرر رجال الانقلاب التخلص من دعوة الإخوان المسلمين كثمن يؤدونه إلى من جاء بهم وساندهم كان سيد قطب على رأس من زج به في السجون عام 1954 ثم أعيد اعتقاله عام 1965 وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه الحكم في (29/8/1966) ولم تنفع كل الوساطات والاحتجاجات ، فقد كان رأس سيد قطب مطلوباً من موسكو وواشنطن ، وأعدم الرجل ونامت جماعات حقوق الإنسان .. كعهدنا بها مع كل المذابح التي تنزل بالمسلمين .

وفي 5/6/1967 أي بعد أقل من سنة من إعدام هذا العالم الرباني حلت الهزيمة النكراء بالأمة التي أغضت عن قتل علمائها وحرب دينها .

وتحضرني هنا ذكريات هذه الحرب المأساوية ، فقد كنا مجموعة من الشباب نعيش معاً في إحدى قرى الخليج، وكنا نستمع إلى أنباء الانتصارات الساحقة للجيش المصري من إذاعة صوت العرب من أمثال : ذباب العدو يتساقط يا أخي ، ومن أمثال : "عبد الناصر يا حبيب بكرة تدخل تل أبيب" ، إلى مئات الأغاني والهتافات ، وبينما كانت الفرحة تغمرنا ويعانق بعضنا بعضاً وقد أيقنا بالعودة إلى "فلسطين" كان زميل لنا ينزوي صامتاً ذاهلاً، وعندما دعوناه لمشاركتنا فرحتنا قال : إن النصر غير ممكن .. لا يمكن أن ينصر الله قاتل سيد قطب !

اكتشاف سيد قطب

وصل سيد قطب إلى القاهرة مزوداً بمحفوظ هام هو القرآن الكريم ، الذي ارتقى بمستواه الأدبي واللغوي ، واقترن هذا بموهبة منحها له خالق المواهب ، موهبة الشعر ، فقد بدأ حياته شاعراً يقول الشعر تعبيراً عن ذاته وآماله ، ثم انفعالاً بما يحدث حوله من حوادث وبخاصة ما يتعلق بالوطن ، وقد ذاع اسمه بين شعراء عصره ، فتسابقت المجلات المشهورة آنذاك في نشر شعره ، وأسرعت مجلة "أبولو" في نشر بعض قصائده نقلاً عن مجلات أخرى في محاولة لضمه إلى شعرائها ،ولكن خلافاً دب بين سيد ورئيس تحرير المجلة (أحمد زكي أو شادي) أنهى هذه الصلة .

قال سيد قطب الشعر مبكراً ، ولعل أقدم قصائده المعروفة لدينا أرخها عام (1925) وهي بعنوان "وردة ذابلة" وهو عهد مبكر من حياته ، وأول ديوان أصدره كان عام (1935) بعنوان "الشاطئ المجهول" ولم يتوقف سيد عن قول الشعر ، وكانت آخر قصائده المعروفة "دعاء الغريب" قالها عام 1950م وانتهت بذلك مرحلة هامة من حياة هذا الشاعر الكبير .

جمع الأستاذ عبد الباقي محمد حسين كل ما نشره سيد قطب من شعر في ديوان جامع صدر بمصر عام 1989 ، وتبين أن سيد قطب قد طرق عدداً من أغراض الشعر وعزف عن عدد آخر من أمثال المدح والفخر والهجاء والغزل المشين مما يدلنا على أنه كان شاعراً سوياً وأنه كان يحمل بين جنبيه قلباً طاهراً نقياً .

أهم الأغراض التي طرقها سيد قطب في شعره الحنين والتأمل والغزل العفيف والوصف والرثاء والوطنيات ، وهذه أغراض لا تقدح في شخصية سيد قطب الدينية ولا أخلاقه الشخصية، وعلى الرغم من إنشائه لهذه القصائد قبل توجهه الإسلامي إلا أنها جاءت على نسق لا يعاب به حتى الشاعر الإسلامي في مضامينه الشعرية .

أهم ما يلفت النظر في ديوان سيد قطب الأول "الشاطئ المجهول" هذا الإهداء الذي تصدر الديوان ، فقد اعتدنا أن نقرأ إهداءات الكتب الأولى لكبار الأدباء فنجدها مهداة للزوجات أو الأولاد أو الأمهات ، وما وجدت ديواناً يهدي إلى الأخ إلا هذا الديوان ، لقد كان سيد قطب وهو في سن مبكرة يشعر بالمسؤولية والحب معاً لإخوته الذين غدا مسؤولاً عنهم مسؤولية مبكرة، يقول سيد في إهدائه :

أخي ذلك اللفظ الذي في حرفه

أخي ذلك اللحن الذي في رنينه

أخي أنت نفسي حينما أنت صورة

تخذنك لي ابناً ثم خدناً فيا ترى

فدونك أشعاري التي قد نظمتها

رموز وألغاز لشتى العواطف

ترانيم إخلاص وريّا تآلف

لآمالي القصوى التي لم تشارف

أعيش لألقى منك إحساس عاطف

لتبقى على الأيام رمز عواطفي

ألم أقل لكم إن سيد قطب كان شاعراً سوياً ، منسجماً مع نفسه ومع البيئة التي جاء منها والتي عاش فيها .

وقد بقيت بيئة الريف كامنة في نفس سيد مؤثرة في توجهه الأدبي ، تطفو على ظلال أدبه وبيانه ، وكان هو يحس بذلك فيقول :

إني فقدتك في  الطفولة  غافلاً             عما حويت من الوجود السامي

لكن وجدتك إذ كبرت بخاطري            رمزاً   أحيط   بغمرته  الإلهام

ولم يكن سيد في شعره بعيداً عن قضايا أمته ، فهي حاضرة في معظم قصائده ، وقد كان هو قد انغمس في مجتمع القاهرة ، وعايش الحركات التي كان يموج بها والأحداث التي كانت مدار الاهتمام في عهده ، وهو لم يقتصر باهتمامه على الحوادث المحلية ، بل امتدت بها إلى مشاكل الوطن العربي وبخاصة فلسطين ، وقد كان اهتمامه بها مبكراً ، قال في قصيدة له بعنوان : "إلى البلاد الشقيقة" بمناسبة الحوادث الدامية في فلسطين عام 1931 :

عهداً  على   الأيام  ألا تهزموا           قالنصر  ينبت  حيث يهراق الدم

تبغون الاستقلال ؟ تلك طريقة            ولقد   أخذتم   بالطريق   فيمموا

وهو   الجهاد   حمية   جشامة            ما إن تخاف من الردى أو تحجم

إن   الخلود  لمن  يطيق ميسر            فليمض طلاب  الخلود  ويقدموا

وطن   يقسم    للدخيل   هدية            فعلام  يحجم   بعد   هذا محجم

وفيها يقول متفائلاً باليقظة ، واضعاً ثقته بأمته :

الشرق   ياللشرق   تلك   دماؤه        والغرب ياللغرب يضريه الدم

الشرق ويح الشرق كيف تقحموا        حرماته الكبرى وكيف تهجموا

غرتهمو  سنة  الكرى  فتوهموا        ياللذكاء ! فكيف قد غرتهمو ؟

سنة   ومرت   والنيام  تيقظوا        فليعلموا من نحن أو لا يعلموا !

اليوم  فليلغوا  الدماء  وفي  غدٍ        فليندموا عنها ولات المندم !

وفي مرحلة التطور التي مرّ ا سيد قطب بعد عام 1950 وذلك عند تحوله إلى الاتجاه الإسلامي الدعوي سكت عن قول الشعر ، واستغرقته الدعوة ، إلا أنه عاد إليه في سجنه ، فقد سلم لنا مما قاله في سجنه قصيدتان دعويتان هما في شعر الدعوة الإسلامية من غرره ، ولست أدري إن كان له سواهما ولم يسلم لنا لظروف السجن والقهر ثم الاستشهاد ، إلا أن هاتين القصيدتين تعبران عن مرحلة التحول إلى الشعر الإسلامي الخالص .

القصيدتان أولاهما بعنوان "هبل" وهبل الرمز الذي اختاره الشاعر لكل طاغوت حكم بالهوى ، فهو قد تحول في عتوه وطاغوته إلى هبل معاصر ، وهي إشارة من سيد قطب إلى دخول أمتنا عصر الجاهلية الأخرى ، الجاهلية الثانية التي عبد فيها الناس أصناماً من البشر بدل أصنام من الحجر .. ويالها من مفارقة :

هبل هبل  رمز السخافة والدجلل

من بعد ما اندثرت علي أيدي الأباة

عادت إلينا اليوم في ثوب الطغاة

تتنشق البخور تحرقه أساطير النفاق

ممن قيدت بالأسر في قيد الخنا والارتزاق

وثن يقود جموعهم ... ياللخجل !

أما القصيدة الثانية فهي بعنوان "أخي" والأخوة هنا ليست أخوة الدم كما عبر عنها في قصيدته المهداة في مطلع ديوانه الأول والتي مرت بنا آنفاً ، إنما هي ارتقاء إلى أخوة أسمى وأعلى ، إلى أخوة العقيدة ، إلى أخوة المسيرة الجهادية في سبيل حياة أفضل تحت راية الإسلام :

أخي أنت حرٌّ وراء السدود               أخي أنت حرٌّ بتلك القيود

إذا كنت بالله مستعصماً          فماذا يضيرك كيد العبيد ؟

وهي قصيدة مفعمة بالأمل رغم الجراح :

أخي إنني ما سئمت الكفاح               ولا أنا ألقيت عني السلاح

وإن طوقتني جيوش الظلام              فإني على ثقة بالصباح

هذا سيد قطب شاعرا ً، فماذا عنه قاصّاً ؟

كتب سيد قطب ثلاث قصص طويله : "طفل من القرية" و "المدينة المسحورة" و "أشواك" .

أما "طفل من القرية" فهو في السيرة الذاتية التي تعرض بشكل روائي ، فقد عرض فيها سيد حياته في القرية، وحياة القرية ذاتها ، وهو في اختياره لهذا الأسلوب الروائي في السيرة الذاتية كان متأثراً بأستاذه "طه حسين" في كتابه "الأيام" وسيد قطب قد صرح بذلك في إهدائه الرواية لطه حسين ذاكراً أن روايته "أيام من الأيام" ./span>

وأما روايته الثانية "المدينة المسحورة" فهي مستقاة من التراث الشعبي العربي في قصص ألف ليلة وليلة ، وفيها من روح هذه القصة التراثية الشيء الكثير .

ووأما روايته الثالثة "أشواك" فهي سيرة ذاتية أيضاً ، سيرة حبه الذي انتهى دون ارتباط ، وحياته التي استمرت بلا زواج ، والعجيب أن سيد قطب في روايته هذه سار سيرة العقاد في روايته "سارة" وأن كلا الرحيلين انتهى في قصته إلى نفس المصير وفي حياته الواقعية إلى نفس المآل .. بلا زواج .

وهذه الروايات الثلاث ، وإن لم تأخذ حظها من الانتشار والذيوع إلا أنها وبلا شك تمثل مرحلة من مراحل سيد قطب الأديب الذي تغلب عليه الذاتية فيترجم آماله وآلامه في أدبه .

إذا كان سيد قطب شاعراً وقاصاً قد أخذ مكانه بين أدباء جيله ، وعرفوا له حقه ، وأشادوا به ، إلا أن سيد قطب ناقداً كان أعلى صوتاً وأعمق أثراً وأكبر مكانة ..

في عام 1959 عندما كنت طالباً في كلية النجاح الوطنية بنابلس أنهي دراسة الشهادة التوجيهية على النظام  المصري قال لنا أستاذ اللغة العربية إن أعظم ناقد عربي في هذا العصر هو سيد قطب . /span>

ولفت هذا الإطراء انتباهي ، وأخذت أبحث عن سيد قطب  الناقد ، ولما كانت أدوات البحث لدي - في هذا السن - محدودة ، فقد سألت أستاذنا عن سرّ العظمة في هذا الناقد ، فكان جوابه أنه تناول أعمال أدباء زمانه بالنقد الموضوعي والمنهجي ، وأنه اتبع في نقده منهجاً جديداً ، وأنه صاغ منهجه هذا في كتاب عظيم أصدره بعنوان "النقد الأدبي أصوله ومناهجه" .

وحصلت على هذا الكتاب وقرأته ، وما كانت استعداداتي الأدبية في ذلك الوقت لتستوعب منهج سيد قطب في النقد ، إلا أن رأي أستاذنا في سيد قطب بقي مخزوناً في داخلي ، يراودني حيناً بعد حين حتى توالت الأيام وازدادت معرفتي بسيد قطب ناقداً ..

ظهرت موهبة النقد لدى سيد قطب وهو طالب في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ، وقد كانت منزلته في النقد قد بدأت تتوطد حتى إن كليته دعته إلى إلقاء محاضرة في النقد ، فألقى محاضرته الشهيرة التي طبعت فيما بعد بعنوان : "مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر" كان فيها سيد قطب ناقداً منحازاً إلى شعراء الجيل الحاضر من الشباب ومنحازاً أيضاً إلى شعر عباس محمود العقاد ، متحاملاً تحاملاً قاسياً على شعر أمير الشعراء أحمد شوقي ، وكان في هذا حاطباً في حبل أستاذه العقاد !

ويأخذنا الحديث هنا إلى علاقة سيد قطب بالعقاد ، كما تأخذنا هذه العلاقة إلى الحديث عن المعارك الأدبية التي دارت بين العقاد والرافعي ، وقد ضرب فيها سيد قطب بأسهم .

كان ميل سيد قطب إلى العقاد شخصاً ومنهجاً ، لهذا نراه يدافع عنه ، ويبالغ في الدفاع ، ويعتبره شاعر عصره في الوقت الذي يحط فيه من شعر شوقي ، بل ويسخر منه تماماً كما كان العقاد يفعل ذلك .

ككان العقاد شاعراً مكثراً ، أصدر عشرة دواوين ، ثم جمعت في مجلدين كبيرين يشبهان في حجمهما مجلدي شوقي "الشوقيات" وكان العقاد يتوقع لشعره الخلود ولشعر شوقي الفناء .. ولكن .. ما حدث هو عكس التوقعات ، فمن منا يذكر الآن العقاد شاعراً ، ومن منا الآن لا يقر بعبقرية شوقي في الشعر وبإمارته له !

لقد كان سيد قطب ظالماً لشوقي ، ولكنا لا نحب أن نقف على هذا الملمح النقدي طويلاً ، فقد كان سيد قطب أيضاً ظالماً للرافعي ، شديد الهجوم عليه . /span>

أظن أن سيد قطب كان منسجماً مع نفسه ومع علاقته بالعقاد عندما قسا في نقده على علمي البيان في عصره : شوقي والرافعي ، وأغلب الظن أن سيداً قد طوى هذه الصفحة بمرور الأيام ، فلم يعد في كتاباته يشير إلى ذلك الموقف ولا إلى ذلك العهد .

لم تقتصر جهود سيد النقدية على هذين الكتابين ، بل انتشرت مقالاته النقدية على طول الساحة الصحفية وعرضها ، فتناول كثيراً من الكتب التي صدرت في زمانه بالنقد ، وتناول كثيراً من الأدباء الذين أصدروا هذه الكتب بالمدح والذم ، وأصدر بعضاً من هذه المقالات في كتاب بعنوان "كتب وشخصيات" وهو في عالم سيد النقدي كتاب هام جداً لأنه يعطينا صورة صادقة عن أسلوبه النقدي لعميق .

لم يظهر الوجه الإسلامي لسيد قطب في هذه المرحلة ، بل إني لأزعم أن كتبه النقدية التي تحمل أسماء إسلامية لم تكن نابعة من توجه إسلامي ملتزم ، بل كانت استكمالاً لمنهجه النقدي ، ودخولاً في موجة التحولات التي انتابت المجتمع الأدبي المصري في ذلك الوقت ، فقد أقبل كبار الكتاب المصريين الذين اتهموا بالتوجهات الغربية إلى التأليف في الإسلاميات فأصدر طه حسين "على هامش السيرة" وأصدر العقاد عبقرياته الإسلامية ، وأصدر محمد حسين هيكل"حياة محمد"، وأصدر سيد قطب "مشاهد القيامة في القرآن" و "التصوير الفني في القرآن".

وهذه الكتب وإن لم تصدر عن توجه إسلامي ملتزم إلا أنها كانت خطوة تحول في كتاباته وهي إفراز لهذا الحفظ الدفين للقرآن الكريم في صدره ، فكان في كتاباته الإسلامية التي أضاف إليها "العدالة الاجتماعية في الإسلام" يخطو خطوة جادة نحو التعرف الحقيقي على القرآن الكريم، ونحو الارتباط بالدعوة إلى الإسلام كمنهج حياة !

التحق سيد قطب بجماعة الإخوان المسلمين ، وبدأ معها توجهه الإسلامي الملتزم ، وأصبح لا يرى خلاصاً للناس جميعاً إلى بالإسلام وهديه .

وتلاحمت شاعرية سيد قطب مع موهبته في النقد ، مع أسلوبه الذي هذبه القرآن وصقله في صياغة طريقة فريدة في فهم القرآن وتفسيره .

إإن الاسم الذي اختاره سيد قطب لتفسيره للقرآن الكريم يجمع كل خبرته النقدية السابقة ، إنه "في ظلال القرآن" وقد طالما تحدث سيد عن ظلال المعاني التي تحملها الكلمات والجمل في قراءاته النقدية ، وهو حين يتناول القرآن الكريم في تفسير عظيم اعتبره المثقفون تفسير العصر فإنما تناوله بروحه الأدبية النقدية وبنفسه الشفافة التي رافقته في مسيرته الأدبية وانتهت به إلى هذا العمل العظيم .

إن الذي يقرأ في ظلال القرآن دون أن يعرف سيد قطب أديباً فإنه يفقد كثيراً من طلاوة هذا التفسير ، لقد كان سيد قطب من أعظم أدباء العرب في هذا العصر ، ومن أكثرهم إثراء للحياة الأدبية شعراً ونقدأً ، وكل هذا ظهر جلياً واضحاً في ظلال القرآن .

إن سيد قطب كان مدركاً لتأثير الكلمات في حياة الشعوب ، ولكنه اشترط لها حتى تعطي ثمارها شروطاً قل من يستطيع التزامها .. ولكنه هو التزم ها ، فكان تأثيره في كتابته عظيماً على أمته .

كان يقول رحمه الله :

إن كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان ، أما الكلمات التي ولدت في الأفواه ، وقذفت بها الألسنة ، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي ، فقد ولدت ميتة ، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام .

إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كثيراً ، ولكن بشرط واحد : أن يموتوا لتعيش أفكارهم ، وأن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم ، وأن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق .

إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء ..

وبعد ، هذه رحلة بحث وكشف ، فهل استطعنا أن ننجح في بحثنا وفي كشفنا ، أرجو ذلك .. ورحم الله الشهيد سيد قطب رحمة واسعة .