الدكتور عصمت سيف الدولة

في ذكرى رحيله (30 مارس عام 1996م)

مفكر وكاتب عربي مصري ضد الظلم والاستبداد

محمد أبو مليح - صحفي مصري

يصعب دوما الحديث عن المفكرين؛ ويعود ذلك لغزارة نتاجهم الفكري وكثرة عطائهم. وعند التوقف إزاء مفكر قومي كبير بحجم الدكتور عصمت سيف الدولة نجد هذه الصعوبة، لكننا نجد في عبارة "ما لم يدرك كله لا يترك كله" أكبر محفز لنا للبحث في منجزه القومي والحضاري والإنساني، وليس فقط منجزه الفكري فهو يشكل تجربة حية على تجسيده الصارم لما يدعو الجميع له ويطالبهم به.

فـ"سيف الدولة" يعد أحد العقول القومية الواعية بحق بالفكر الذي نظر له ومارسه فعلا، سواء بأمور أمته وقضاياها المتشعبة أو لطبيعة المرحلة التي مرت بها ليوفق في مرحلة صعبة بين ما كان يعد متناقضا ويوائم بين العروبة والإسلام، وليقضي حياته منافحًا للظالمين، ومكافحًا من أجل المظلومين.

التكوين

ولد "سيف الدولة" في (20 من أغسطس من عام 1923م) في جو من الهدوء والفقر، في قرية "الهمامية" وهي قرية صغيرة بمركز "البداري" بمحافظة أسيوط في مصر.

وكانت تلك البيئة يترافق معها ضيق الرزق والمكان، ورغم ذلك فإنها اتسعت لجميع الناس بالحب والرحابة والتعاون، وشكلت له تلك البيئة مجموعة من القناعات في مقدمتها أن الناس سواسية، وهو ما ولد عنده منطق رفض الظلم مهما كان مصدره.

ومن والده الشيخ "عباس سيف الدولة" تعلم أن يصبح رجلاً صلبًا مقاتلاً متعلمًا، فوالده كثيرًا ما خاض المعارك في قريته "الهمامية" من أجل تعديل الخريطة الاجتماعية، وحاول الابن أن يكمل هذه المعارك وعلى نطاق أوسع ثم أوسع، فيسعى لذلك أولاً على مستوى بلده مصر ثم على مستوى العالم العربي كله.

وبعد أن أكمل "عصمت" تعليمه الأساسي انتقل إلى القاهرة، تلك المدينة الصاخبة ذات الطبقات الاجتماعية المتفاوتة تفاوتا صارخا؛ فأعلن الحرب على ما يخالف مبادئه وما تربى عليه من قيم التعاون والإخاء.

وقد حصل على ليسانس الحقوق عام (1946م) من جامعة القاهرة، ثم على دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام (1951م) ودبلوم الدراسات العليا في القانون العام عام (1952م) من جامعة القاهرة، ودبلوم الدراسات العليا في القانون عام (1955م) من جامعة باريس، ثم الدكتوراة في القانون (1957م) من جامعة باريس.

بين الفلسفة والواقع

لم يكن "عصمت سيف الدولة" كاتبًا أو فيلسوفًا يعكف على القرطاس والقلم متفرغًا لصياغة النظريات والأفكار، بل كان يصوغ أفكاره ونظرياته في أشكال مجسدة يراها الناس عيانًا بيانًا تسير بينهم مطبقة.

ففي عام (1967م) وبعد هزيمة مصر في تلك الحرب، نجده يتعالى على الهزيمة فلم يقف عندها، ولكن ذهب يبحث عن أسبابها وما أدى إليها، ليعلن بقوة دون خشية أن هناك منافقين، وأنهم هم السبب في الهزيمة، وهؤلاء هم حاشية السلطة.

وفي أول أيام حكم السادات تم القبض عليه ليتهم بإنشاء تنظيم قومي هدفه قلب أنظمة الحكم في العالم العربي، وهو ما سمي بعد ذلك بتنظيم "عصمت سيف الدولة" فاعتقل لأول مرة في (15/2/1972م) وحتى صيف (1973م).

ومع ذلك لم يثنه السجن عن صرامته، ولم يوهن من عزيمته في الدفاع عن المظلومين، ففي (1977م) وقف يدافع عن الشعب الذي خرج للشارع في مظاهرات صاخبة يطالب بحقوقه في 18و19 من يناير، وهو ما أطلقت عليه الحكومة حينها "انتفاضة الحرامية" وقام رجال الشرطة بالقبض على العشرات والزج بهم في السجون، فخرج سيف الدولة ليعلن أن ليس هؤلاء هم "الحرامية"، بل إن الحرامي الأصلي هو من هدد لقمة عيش المواطن، وعرفت المرافعة حينها باسم "دفاعًا عن الشعب". كما اعتقل مرة أخرى (5/9/1981م).

ومن يتتبع إنتاج "عصمت سيف الدولة" الفكري يلحظ ذلك كله وبوضوح فقد كتب: "أسس الاشتراكية العربية"، و"نظرية الثورة العربية"، و"الطريق إلى الوحدة العربية"، و"المقاومة من وجهة نظر قومية"، و"هل كان عبد الناصر ديكتاتورا؟"، و"حكم بالخيانة"، و"هذه المعاهدة"، و"هذه الدعوة إلى الاعتراف المستحيل"، و"الاستبداد الديمقراطي"، و"عن العروبة والإسلام"، وغيرها وهي كلها عبارة عن اشتباكات في معارك مع قوى وأفكار سائدة في أوقاتها.

نظرية جدل الإنسان

عتبر حرية الإنسان من أشد ما اهتم به "سيف الدولة" فكان يبحث دائمًا عما يحرر الإنسان أو يساعده على ذلك؛ وكان من الأفكار المنتشرة، في ذلك الوقت، نظريتا "الجدلية المثالية"، و"الجدلية المادية"، حيث اعتبرت الأولى التطور الاجتماعي قائمًا بالأساس على الفكر، بينما رأت الثانية أن التحرر يقوم على المادة.

 أما "سيف الدولة" فحمل رؤية مختلفة حيث أشار إلى أنه يلزم لإحداث تطور اجتماعي أن يتحرر الإنسان من قيود المادة، وبناءً عليه يستطيع أن يبدع في الأفكار التي ينتج عنها لا محالة عملية التطور الاجتماعي، كما قام بتخصيص كتابه "الأسس" لطرح "جدل الإنسان" واختبار صحته في عدد من القضايا مثل: الديمقراطية، والحرية، وحركة التاريخ، والاشتراكية، الأمة، القومية، والوحدة، والتنظيم والأخلاق وغيرها. وكانت عملية الاختبار تتم عن طريق تطبيق هذه الأمور على منهج جدل الإنسان ثم عرضها على المادية الجدلية مثلاً.

ولخص نظرية جدل الإنسان في كتابه "المنطلقات" فيقول: "ما دام انضباط الأشياء والظواهر في حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية شرطًا أوليًّا لإمكان تغيير الواقع، فإن تغيير واقعنا مهما تكن صعوبته هو أمر ممكن، وبهذا تسقط مبررات اليأس والسلبية، ولا يبقى إلا أن نعرف كيف نحقق هذا الممكن وهو ما تقوم به نظرية جدل الإنسان".

كما يؤكد على أن الطبيعة بدون الإنسان ليست متطورة، فهي معه وبه متحولة من شكل إلى آخر، وهو بذلك يفرق بين التحول والتطور، مشيرا إلى أن الجدل متركز بالأساس في الإنسان، فهو مدفوع دائمًا لإشباع حاجته المادية والمعنوية، وهذا هو الباعث على حركة الإنسان وتطوره. ولذلك نجده يؤمن بقيمة الإنسان، وقيمة إبداعه الذي من المستحيل أن يأتي دون حرية، فالإبداع والعبودية لا يجتمعان.

الدكتاتورية انحطاط أخلاقي

كان لسيف الدولة نظرية في الأخلاق ضمنها في كتابه "أسس الاشتراكية العربية" فيقول في أحد صفحاته: "إن الإنسان إذ يبدع مستقبله، يتوقف نجاحه على المعرفة الشاملة بالظروف، وإن هذا لا يتم إلا بالمساهمة الجماعية في هذه المعرفة، ثم الاشتراك في تصميم الحل، بحكم أن المشكلات من ماض مشترك، وأن المستقبل للجميع.. وهذا يقتضى اتصال الظروف بوعي الناس كما هو بغير تحريف، وأن التعبير عن الظروف بغير صدق ليس تعويقًا للتطور فحسب، بل تضليلا يهدر الجهود الإنسانية".

كما يعتبر في مكان آخر أن الاستبداد بالرأي والتبرم بالناس والضيق بآرائهم انحرافات خلقية، لهذا يدعو المواطن العربي للتبرؤ من النزوع الديكتاتوري والتسلط، فالديمقراطية عنده فضيلة خلقية ونظام سياسي معًا، والديكتاتورية انحطاط خلقي.

وباسترجاع شريط حياته ومواقفه العامة والخاصة نجده شديد الحرص على ضبط سلوكياته الخاصة من رؤيته الأخلاقية، رغم معاناته في عشرات المواقف كي يحقق لنفسه هذا الانضباط، وهذا جعله يجني ثروة لا تقدر بثمن من السلام الداخلي مع النفس.

بين العروبة والإسلام

من القضايا التي شغلت ذهن "عصمت سيف الدولة" سؤال أخذ جدلا واسعا هو: هل نحن أمة العرب أم أمة الإسلام، وهل حضارتنا حضارة عربية أم حضارة إسلامية؟

وأصدر في هذا الشأن كتابا بعنوان: "عن العروبة والإسلام" عام (1986م) شرح فيه موقفه من العروبة والإسلام كاشفا أنهما لا يتعارضان مطلقا بل يكمل كل منهما الآخر.

وفيه يقول: "هناك طائفة تناهض العروبة بالإسلام، لو كانت حسنة النية في الدعوة إلى إقامة نظام إسلامي في الوطن العربي فإن مناهضتها العروبة تهزم غاية دعوتها، وإن كانت سيئة النية تريد أن تنقض الحضارة العربية القومية فإنها ستفشل كما فشل البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية".

ويضيف: "وهناك طائفة تناهض الإسلام بالعروبة، لو كانت حسنة النية في الدعوة إلى التقدم العربي حتى على الطريق الأوربي فإن مناهضتها الإسلام بالعروبة تهزم غاية دعوتها، وإن كانت سيئة النية تريد أن تنقض الحضارة العربية الإسلامية فإنها ستفشل كما فشل الروس السوفييت في اتحاد الجمهوريات السوفيتية".

تنبؤ بالمستقبل

كان "عصمت" من المفكرين الذين يعايشون الناس أفراحهم وأتراحهم فقد أكسبته هذه المعايشة قدرة عالية على استنباط الأحكام والتنبؤ بالأحداث. ففي عام 1970 كتب "المقاومة الفلسطينية من وجهة نظر قومية" تحدث فيه عن أن منظمة التحرير الفلسطينية ستعترف بالعدو الصهيوني وتقيم معه معاهدات وعلاقات ومفاوضات، وهو ما كان بالفعل.

وفي مارس 1979م كتب: "هذه المعاهدة" وتكلم فيها عن كيف أن كامب ديفيد ستؤدي إلى انهيار كامل في بنية النظام العربي عامة والمجتمع المصري بخاصة.

أما في عام 1982م فقد كتب مقالة شهيرة بعنوان "أيها الشباب العربي هذه فرصتكم لتحرير فلسطين" دعا فيها إلى استثمار الفرصة التاريخية لبدء حرب شعبية تبدأ بلبنان ولا تنتهي فيه. وهو ما وقع بالفعل على يد "حزب الله".

وفي عام 1979 ألف كتيبًا بعنوان: "رأسماليون وطنيون.. ورأسمالية خائنة" حذر فيه من بيع القطاع العام وخصخصته، مؤكدًا على حق الشعب في هذه الهيئات والمصالح.

الأديب الفنان

لا يخفى على أحد العلاقة بين الأديب والمفكر، فالمفكر أديب يعبر عن هموم أمته وهمومه عن طريق صياغة الأفكار، والأديب مفكر يعبر عن همومه وهموم من حوله عن طريق صياغة الأبيات الشعرية أو المقطوعات النثرية أو النصوص الأدبية، وإذا اجتمع الأدب مع الفكر أخرج لنا عملاً لا يملك أحد أمامه إلا الانبهار، وهو ما كان مع الأديب المفكر "عصمت سيف الدولة".

فعندما طلب منه أن يكتب مذكراته الشخصية آثر أن يكتب سيرة قريته التي تربى فيها ثم سيرة والده الذي أخذ عنه الكثير، فكتب "مذكرات قرية"، ثم كتب "مشايخ جبل البداري"، بالإضافة لذلك فقد كان فنانًا أنتج فنًا تشكيليًّا رائعًا خاصة في سنوات السجن، كما كتب عددًا من الروايات والمسرحيات ذات الطابع الفكري والسياسي والفلسفي.

وأخيرا كان لمواقفه السياسية أثرها في ألا تجعل من اسمه اسمًا لامعًا إعلاميًّا، لا قبل موته ولا بعده، رغم اعتراف المثقفين الحقيقيين بدوره.

وقد رحل سيف الدولة المدافع عن الأرض في يوم الأرض، في (30 من مارس عام 1996م) بعد أن خاض معارك ضارية كثيرة دافع خلالها عن حرية الإنسان والأرض العربية.