"الذي ملأ الدنيا عدلا" "أعجوبة الإسلام أشَجُّ بني مروان"

هو الخليفة العادل خامس الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم ولد لأم من أصل طاهر وأب وَرع حيي يعرف حق الله وحقوق عباد الله فأمه حفيدة الفاروق عمر بن الخطاب ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجدته لأمه هي بنت راعية الضأن التي نهت أمها عن خلط اللبن بالماء وسمعها الفاروق ساعة كان يتفقد أحوال الرعية وهي تقول "إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فالله يرانا".

عندها سارع عمر بن الخطاب في تزويجها لولده عاصم بن عمر التقي الورع. فأنجب عاصم ابنة كانت زوجتة بعد ذلك لعبد العزيز بن مروان بن الحكم الذي تولى ولاية مصر في عهد أخيه عبد الملك بني مروان وكان عبد العزيز تقياً يحب الخير وأهله كريم أبي من هنا نبت عمر بن عبد العزيز نباتاً حسناً وأرسله أبوه إلى المدينة في صغره ليأخذ العلم عن فقهاء المدينة في ذلك الزمان وكان في مقدمتهم الفقيه سعيد بن المسبب والفقيه ابن حزم فأخذ العلم من أصوله وصار فقيه بني أمية وحدث له حادث في صباه وشج جبينه فكانت نبوءة عمر بن الخطاب حقاً، وصار ابن عبد العزيز أشج بني مروان الذي سوف يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً.

وكان عمر منذ صباه فاقداً لحكم بني أمية منبهاً للتجاوزات التي ترتكب بدعوى المحافظة على الخلافة والتي كان على رأسها أفاعيل الحجاج بن يوسف الشقفي الذي انتهك الحرمات وطارد العلماء وكل من يتلفظ بكلمة حق حتى ولو كان من عطرة بيت النبوة.

"واليا على المدينة المنورة" لما بلغ السنة الخامسة والعشرين اختاره الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك والياً على المدينة بعد أن كان واليها السابق ظالماً شرساً سيء الطباع فاستبشر أهل المدينة خيراً فبدأ حكمه بما يدل على الذكاء والحكمة.

"عين مجلساً استشارياً" بإخلاص عمر بن العزيز – لربه ولدينه مع خبرته وذكائه وفطنته وحكمته أخذ برأي الشوى عملاً بقول الله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم). الشورى/38 وقوله تعالى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله). آل عمران/ 159 – فمن أول يوم عُين والياً على المدينة جمع أئمة العلماء وأهل الفضل والتقوى والورع من أهل المدينة واختار من بينهم عشرة وجعلهم "مجلس شورى" له وقال لهم "إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق" "وأناشدكم الله إن رأيتهم عدواناً أو مظلمة أو باطلاً إلا أبلغتموني أمره وأرشدتموني إلى الحق ورفع كل المظالم لأحق الحق حتى أحس أهل المدينة بالسكينة والأمان واستعادوا ذكريات السلف الصالح وما كانت عليه المدينة في ماضيها السالف المشرق حيث علت راية العدل والكرامة وتوارى الظلمة وانكمشوا. "ولايته على الحجاز كله"

ولما شاع العدل في المدينة وانتشرت الأخبار بعدله وحكمته مما جعل الخليفة يضم إليه ولاية الحجاز كله مكة والطائف وما بينهما فنشر راية العدل مع سعة الأفق والذكاء والحكمة مما جعل الناس يأمنون فيعملون وأزال كل المعوقات في الدواوين مما سهل على أهل الحجاز معايشهم وكان يفتح بابه لكل صاحب رأي أو مشورة ومع جهد الحكم لم يتخلف عن صلاة أو طاعة لربه مما جعل الزُهاد من أمثال "سعيد بن المسيب" وهو يومئذٍ من أعظم علماء المسلمين عامة وكان يرفض زيارة الحُكام طوال عمره ويرفض استقبال رسلهم وكان يرفض حتى مجالسهم. كان يذهب إلى عمر بن عبد العزيز ويجالسه ويحادثه ويشير عليه ويرشده وكان في رضا سعيد بن المسيب الدليل الواضح على أن عمر بن عبد العزيز كان ينهج منهج السلف.

"أعلم علماء عصره" كان العالم الكبير "مجاهد بن جبير" الذي عرض القرآن على "عبد الله بن عباس" "ثلاثين" مرة والذي كان من أئمة العلماء المعدودين قال هذا الإمام:

"أتينا عمر بن عبد العزيز نُعلمه فما رجعنا إلا وقد تعلمنا الكثير من علومه" وقال الإمام "الليث" "ما التمسنا علم شيء من علوم الدين والفقه وعلوم الدنيا بكل نواحي العلوم إلا وجدنا عمر بن عبد العزيز" أعلم الناس بأصله وفرعه وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة" كما أنه يوجد لعمر بن عبد العزيز "صحاح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" لقد كان لعمر بن عبد العزيز خبرة علماء جمعها الله في عالم وخبرة آلاف الرجال جمعها لرجل – لقد كان كجده لأمه "عمر بن الخطاب" صواماً قواماً عابداً زاهداً والله يقول (واتقوا الله ويعلمكم الله) البقرة/ 282 ويقول تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) الطلاق/ 2 – 3 ولماذا لا يكون التقدم العلمي والمعرفي رزق يعطيه الله لأصفيائه ولأوليائه ومنهم "عمر بن عبد العزيز" قال تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتَّ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) البقرة /269.

"كان لا يخشى في الحق لومة لائم"

كان "ابن عبد العزيز" يقول الحق ويناصر المظلومين ويأوي الهاربين من مظالم الحجاج وغيره مما جعل الحجاج يضرب ضربته في غريمه "ابن عبد العزيز" فأرسل الحجاج إلى الخليفة أن عمر أصبح خطراً على الخلافة لأنه يأوي كل أعداء الخلافة حتى أرسل الخليفة الوليد بن عبد الملك إلى "عمر بن عبد العزيز" وناقشه في أمر إيواء من يسب الخلفاء ألا يُقتَل؟

قال "عمر": هل قتل نفساً بغير حق يا أمير المؤمنين؟

قال: لا ولكنه سب الخلفاء وانتهك حرماتهم.

فقال: "إذن يعاقب بما انتهك به لكنه لا يُقتل"..

وهنا أنهى الخليفة المقابلة بإشارة غاضبة ومن أقوال عمر: "لو جاءت كل أمة بخطاياها يوم القيامة.. وجئنا نحن بخطايا الحجاج وحده لرجحناها جميعاً".

ورأى الوليد نفسه أمام كفاية خُلُقية نادرة قادرة على تحديه بل وإهانته فأصدر أمره بعزل "عمر بن عبد العزيز" عن ولاية المدينة والحجاز!!

"إلى الجهاد في سبيل الله"

غادر هذا البطل المدينة التي أحبها والتي أحبته بعد أن ظل والياً عليها مدة "6" أعوام ملأها وجميع بلاد الحجاز عمراناً وأمناً وملأ الناس رخاءً وسعادة وبهجة ورجع إلى الشام وفور وصوله إلى الشام وجد جيشاً يتحرك للقاء جيش الروم فلم يسترح من عناء السفر وإنما انضم إلى جيش الجهاد حاملاً سلاحه وأخذ مكانه بين المقاتلين جُندياً عادياً يرجو الله ويسأله الشهادة أو عقبى الصالحين ولكنه يعود ليصاحب نخبة من الصالحين كالحسن البصري ورجاء بن حيوة وغيرهما.

"صراع بين العادل والظالم"

كان عمر بن عبد العزيز بعدله وشعبيته ومحبة الناس له يكره الحجاج بن يوسف الثقفي لأنه كان يمثل قمة الظلم والقهر لملك بني أمية بينما كان "ابن عبد العزيز" يمثل قمة العدل والشورى وفي إحدى مواسم الحج أناب الخليفة عنه في موسم الحج طاغية العراق الحجاج فكتب عمر بن عبد العزيز إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يسأله أن يأمر الحجاج ألا يذهب إلى المدينة وألا يمر بها لأنه هو وأهل المدينة يكرهون الحجاج ويمقتونه فوافق الوليد بن عبد الملك وكتب إلى الحجاج: "إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من مَمَرّكَ عليه بالمدينة فلا عليك ألا تمر بمن يكرهك فنحَّ نفسك عن المدينة"

فأسرها الحجاج في نفسه وبدأ الكيد والوقيعة بــ "ابن عبد العزيز" "ولكن عمر كان لا يهمه إلا الحق مهما كان. وكان يقول "دنيا يأكل بعضها بعضاً" كان "عمر بن عبد العزيز" يغير كل شيء إلى الجد والبناء والعمل فراح يعمر ويعمر بادئاً بمسجد رسول الله فأعاد بناءه وأرسل بعثات التعمير والبناء إلى كل أرض الحجاز تحت ولايته وأمر بحفر الآبار وشق الطرق.

"كرامة من كرامات أولياء الله لــــ عمر بن العزيز"

  في العالم الثاني من إمارة "عمر بن عبد العزيز" تولى إمارة الحج ولم يكد يصل إلى مكة المكرمة حتى وجد أهلها في قحط وعُسر ومشقة فما كان منه إلا أن دعا صفوة علماء مكة والصالحين ومن شاء من عامة أهل مك ثم خرج بهم إلى فضاء مكة ثم صلى بهم صلاة الاستسقاء ولم يكن هناك بالسماء أثر لسحابة واحدة ولكن لم يمض لحظات على صلاتهم وتضرعهم حتى هطل الماء غزيراً على غير موعد وفي غير ميقاته – ولم يُصدق الناس أنفسهم وهم يرون السماء الزرقاء الصافية تُمطر وليس فيها سحابة واحدة وشهدت مكة كلها في عامها ذاك خصوبة نادرة مما يدل على التحول الروحي والقبول الإيماني لعمر (ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله) يونس/ 62 – 64.

"صلاته أشبه برسول الله"

صلى وراءه في صلاة الجماعة في مسجد رسول الله "أنس بن مالك" صاحب المذهب المعروف "المالكية: فقال "ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله من صلاة هذا الرجل "يقصد عمر بن عبد العزيز" رضي الله عنهم جميعاً – كما أن "ابن عبد العزيز" لم تشغله الإمارة عن التزود من العلم والفقه وخطب أبو النصر المديني يخاطب علماء المدينة يوماً فقال وهو يشير إلى "عمر" "إنه والله أعلمكم".

"أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً"

مات الوليد بن عبد الملك وخلفه أخوه "سليمان بن عبد الملك" ورغم أن سليمان كان يحب "عمر" ولكنه خشي من أن يوليه ولاية واكتفى بأن جعله مستشاراً له وصحبه مرة في استعراض جيش الخلافة وهو في فخر وزهو: ما تقول فيما تراه يا عمر" فقال عمر:

"أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً وأنت المسؤول عنها والمأخوذ بها والمحاسب عليها" فقال الخليفة "سليمان" ما أعجبك يا عمر!! فقال عمر:

"بل ما أعجب من عَرِفَ الله فعصاه وعرف الشيطان فاتبعه وعرف الدنيا فركن إليها" وكان عمر في صحبة للخليفة سليمان في رحلة للحج وهما في الطريق نزل سيل كاسح مما جعل الخليفة يفزع وأزعجه السيل الجارف وزُهل الخليفة لأن عمر بن عبد العزيز يضحك فسأله سليمان: ألِمِثلْ هذا يضحك الناس؟

فقال "عمر" يا أمير المؤمنين هذا في حين رحمة الله فكيف يكون الله في حال غضبه كان عمر يتوجه إلى الله بالموعظة والنصيحة ليفتح البصائر ويوقظ القلوب الغافلة.

"الحادث الذي أيقظه وآلمه"

كان "حبيب بن عبد الله بن الزبير" يُحرّض على الأمويين ويُشهِّرُ بهم فأرسل الخليفة الوليد بن عبد الملك أمراً إلى أمير المدينة "عمر بن عبد العزيز" بأن يضرب "خبيباً" فأمر عمر بضربه فأقضى الضرب إلى وفاته ولما أبلغوا عمر بوفاة "خبيب" غَشَّاهُ حزن عميق وحبس نفسه "سبعين" يوماً يتضرع إلى الله ويطلب منه المغفرة والعفو وظل مقتل خبيب هذا يُؤرقه بقية عمره وكان يبكي بكاءً طويلاً ولما سألوه: كيف تبكي وقد وفقك الله لعمل أهل الجنة؟

فقال وكيف بخبيب!! إن نجوت من خبيب فأنا بخير؟!! وبدأ زُهده الشديد.

"ولاية العهد من سليمان لعمر"

فاجأ المرض الخليفة "سليمان" فأمر بأن يُلبسوا أولاده ملابس الإمارة وأن يُدخلوهم عليه فما أدخلوهم وجدهم صغاراً لا يملأون العيون فأنشد قائلاً:

إن بني صغاراً

أفلح من كان له كباراً

وخلا بمستشاره الأمين "رجاء بن حيوة" من يوليه الخلافة من بعده فقال "رجاء" إن مما يحفظك في قبرك ويشفع لك عند ربك أن تستخلف على المسلمين رجلاً صالحاً" قال سليمان: ومن هو يا رجاء فأجاب رجاء بلا تردد "عمر بن عبد العزيز" فقال سليمان ونعم ما رأيت ولقد جال خاطري نحوه: والله لأعقدن لهم عقداً لا يكون للشيطان نصيب فيه".

"عمر بن عبد العزيز وكيف عهد إليه سليمان بالخلافة؟"

كان ترشيح سليمان لــــ "عمر بن عبد العزيز" كرجل صالح في أسرة بني أمية ولأنه أراد أن يُرضي الله بعمله حيث كان في مرض موته كما أحس بذلك ولأنه أصبح على حافة القبر وقال المؤرخون إن من أعظم حسنات "سليمان" اختياره لـــ "عمر بن عبد العزيز" للخلافة من بعده، وقد ساعده على ذلك المستشار الصالح "رجاء بن حيوة" الذي قام بدوره على أكمل وجه وكان حكيماً ذكياً وإلا لفشل الأمر ولتغير وجه التاريخ. "ما هي العقبة الصعبة في ترشيح عمر"

كان الخلافة من بعد سليمان لأخيه "هشام" لكنه أحس أن في ترشيحه لـ "عمر" أصلح للأمة – لأن عمر رجل صالح – فرأى أن يتقرب إلى ربه بترشيحه لصالح الأمة ولكن كيف يتغلب على غضب إخوته – فقد وجد الحل – بأن يتولى الخلافة بعد عمر "هشام بن عبد الملك" ومن بعده إخوته فلم يتخطَّ ولاية العهد إلا لـــ "عمر" فقط ولقد كان هذا التخطي صعباً على "هشام" ولكن دقة التخطيط جعله أمام أمر واقع.

"الوصية بولاية العهد"

وكتب "سليمان" وصيته "إني وليت الخلافة من بعدي لــ "عمر بن عبد العزيز" ومن بعده لــ "هشام بن عبد الملك" فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم" فدعا "رجاء بن حيوة" الأمراء الأمويين لمقابلة الخليفة – وكانت الوصية طُويت وخُتمت وتواصى الخليفة ورجاء بن حيوة ألا يعلم بمضمون الوصية أحد إلا بعد موت الخليفة – واحتشد الأمرء عند الخليفة وطلب الخليفة مُبايعتهم واحداً واحداً ومن تردد منهم زجرهُ سليمان حتى بايعوا جميعاً وهم في حيرة من هو الخليفة القادم؟

وسوم: 642