الأستاذ الشهيد كمال السنانيري، وزوجته الشاعرة أمينة قطب

بيت جهاد

تزوج الشهيد كمال السنانيري من الداعية المجاهدة، والأديبة والشاعرة أمينة قطب في قصة أغرب من الخيال سنرويها لكم بعد أن نتعرف علي سيدة هذا البيت الثائر؛ فقد كان زواجها نبعا صافيا من الإيمان، وثورة عاتية علي الطغيان:

 

زوجة مجاهدة:

ولدت الأديبة أمينة قطب في قرية (موشا) بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، ونشأت في بيت علم وأدب وجهاد؛ فهي أخت الشهيد سيد قطب صاحب الظلال رحمه الله، وأخت الأديب والمفكر الإسلامي الأستاذ محمد قطب رحمه الله، وكلاهما أثري المكتبة الإسلامية بالكثير من الكتب النافعة التي تربت عليها أجيال متعاقبة من أبناء الحركة الإسلامية وعموم المسلمين.

"اعتقلت عندما اعتقل جميع آل قطب، وصبرت على السجن والأذى، واستشهد أخوها العالم الرباني سيد قطب، ونال الشهادة بعض أقاربها، واستشهد زوجها المجاهد كمال السنانيري؛ فصبرت واحتسبت، ووظفت الأدب (قصة وشعراً) في خدمة الدين والجهاد والمعاني النبيلة في الحياة.

نشرت بعض أعمالها الأدبية في مجال القصة القصيرة في مجلة الأديب، ومجلة الآداب، ومجلة العالم العربي، وذلك في سنوات 1947 إلى 1954م، وكتبت ست قصص ضمها كتاب (الأطياف الأربعة) بالاشتراك مع أخويها الشهيد سيد قطب والأديب محمد قطب رحمة الله عليهم جميعاً"

(موسوعة الشاعرة أمينة قطب، بتصرف).

وكتبت بعد ذلك مجموعتين قصصيتين هما(تيار الحياة) و(في الطريق) وقد كانت مجموعة أقاصيصها الثانية (في الطريق) محاولة أولية لإيجاد قصة نظيفة تأخذ طابعاً إنسانياً، ولم تتجه إلى كتابة الشعر إلا بعد أن ارتبطت بالمجاهد كمال السنانيري وتأثرها بمعاناته ومعاناة إخوانه في السجن.

 

زواج يهزم الطغيان:

          ثماني سنوات قضاها الزوجان معاً كأنها يوم واحد، فقد  قبلت السيدة أمينة قطب أن ترتبط بالشهيد كمال السنانيري وهو في السجن بعد أن أجبر الطغاة أهل زوجته الأولي علي تطليقها منه عنوة، وعندما علم الأستاذ سيد قطب بذلك أثناء مقابلته للشهيد كمال السنانيري في مستشفي سجن طرة عرض عليه تزويجه من أخته أمينة قطب التي وافقت علي هذه الخطبة مراغمة للظالمين ودعماً لموقف المجاهد كمال السنانيري،

وأخذت عنوان أخته لتتعرف عليها وتصحبها في زيارتها لأخيها كمال بسجن قنا وتمت الخطبة ثم عقد القران، وبعد مدة خيرها الشهيد بين انتظاره وبين ابتداء حياتها مع من تختاره؛ فأبت إلا انتظاره حتي خرج من السجن عام 1973م فتم الزواج وكانت قد جاوزت الخمسين من عمرها فلم يرزقا بأولاد؛ ولكنهما عاشا في هناءة وسعادة قطعها عليهم الطغاة مرة أخري باختطاف الزوج الحبيب عام 1981م ليلقي ربه شهيداً تحت التعذيب الوحشي الذي أشرف عليه الجلادان حسن أبو باشا وفؤاد علام، وذلك في 18 فبراير من نفس العام. 

 

أشبه الناس بمصعب:

 كانت بداية الشهيد كمال السنانيري رحمه الله بداية ناعمة مرفهة تشبه بداية  الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه وكانت حياته بعد التحاقه بدعوة الإخوان ودخوله السجن وحتي بعد خروجه أشبه بحياة سيدنا مصعب بعد إسلامه وهجرته،

وكان موقف الثبات النادر من الشهيد كمال السنانيري ليلفظ أنفاسه تحت التعذيب دون أن يحصل منه الزبانية علي مبتغاهم أشبه بموقف سيدنا مصعب وهو ثابت في مكانه في غزوة أحد حتي لقي ربه شهيداً.

وُلد رحمه الله "في القاهرة في الحادي عشر من شهر مارس سنة 1918م في أسرة ميسورة الحال، ودرس المراحل الابتدائية والثانوية ثم التحق بوزارة الصحة قسم مكافحة الملاريا سنة 1934م ثم استقال من وزارة الصحة سنة 1938م وفكّر في الالتحاق بإحدى الجامعات الأمريكية لدراسة الصيدلة للعمل في صيدلية (الاستقلال) التي يملكها والده؛ إلاّ أن أحد علماء الدين أقنعه بعدم السفر إلى أمريكا لما فيها من الموبقات، فعدل عن السفر بعد أن هيأ حقيبة السفر واتجه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة المتجهة إلى هناك، وذلك عام 1938م.

وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1941م، وكان من الوعي والإخلاص والحركة ما جعله يبرز ويتقدم الشباب ويكلف بعدد من المهمات.

عمل من أجل فلسطين، كما عمل من أجل مصر، وقدم جهده في خدمة القضايا العربية والإسلامية فازدادت مهماته وازداد معها نشاطه وتضحياته"

(المستشار عبد الله العقيل، بتصرف).

يقول عنه الشيخ  عبدالله الطنطاوي:

"لقد وجد فيه الإمام الشهيد مصعباً جديداً يتفانى في خدمة الدعوة وأبنائها، ويسهر على فهمها واستيعاب أبعادها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والجهادية، فكان مناط الرجاء والقدوة العملية للشباب باستقامته وورعه وزهده وحركته وبذله من ذات نفسه وماله ووقته وجهده، وبتدينه، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويقوم الليل مصلياً وتالياً القرآن، وذاكراً ربه بدموع سخية سخينة، وبتواضعه لإخوانه من أبناء مصر ومن الوافدين من الأقطار العربية والإسلامية"

(جريدة اللواء الأردنية).

يقول عنه المستشار العقيل:

"كان بطبعه لا يحب المظاهر ويميل إلى البساطة، ويحب البسطاء من الناس ويهتم بوعظهم وتوجيههم وجمعهم على العقيدة الصحيحة النقية الصافية من البدع والخرافات، وكان زاهداً في الحياة، يقوم الليل ويصوم الأيام الطويلة.. وعاش في السجون لا يلبس إلا الثياب الخشنة.

ورجل هذه حياته وهذا زهده لم يكن غريباً أن يأبى ما يطلبه منه ضباط السجن وضباط المباحث ـ طوال مدة سجنه عشرين عاماً ـ من تأييد لنظام عبد الناصر، آخذاً بالعزائم معرضاً عن الرخص".

ويقول عنه الأستاذ صلاح شادي رحمه الله:

"عاش كمال السنانيري حياته في سجون عبد الناصر أكثر من تسع عشرة سنة، لا يلبس إلا ثياب السجن الخشنة.. وحتى الثياب الداخلية التي كان لكل سجين حق شرائها من مقصف السجن كان يرفضها لا لقلة من ماله وإنما كان يأبى إلاّ أن يعيش متجرداً من كل ما يعتبره ضباط السجن منحة توهب للسجين ترغيباً أو يحرم منها ترهيباً.. فآثر رحمه الله أن يتجرد من كل ما يمكن أن يحرم منه، ليملك من نفسه ما يعجز الغير أن يملكه منه.

كان هذا مفتاح شخصيته الزاهدة المتجردة وكان دأبه على هذا السلوك موضع عجبنا وإعجابنا.

فقد كنا نأخذ أنفسنا بالرفق لنستطيع أن نتحمل مشقة الطريق الطويل الذي قدر الله لنا أن نسلكه، أما هو فقد كانت نفسه أطوع لديه من بنانه، فما عاد يحس بمشقة تدعوه إلى الرفق بها".

 

أخلاق كأخلاق الصحابة:

يقول عنه المستشار عبد الله العقيل: "هو الأخ الحبيب والخل الوفي والتقي الورع والمسلم الصادق والداعية المجاهد، والمؤمن الصابر والرجل الصلب والمعدن النفيس والعامل بصمت، الصوّام القوّام، التالي الذاكر، الذي ضرب أروع الأمثلة في الثبات على الأمر، والجرأة في الحق والصبر على البلاء، فكان المثل لإخوانه الدعاة داخل السجون، يرونه القمّة الشامخة والطود الأشم، المعتز بربه المستعلي بإيمانه...

وبعد خروجه من السجن كثرت لقاءاتي به في مصر وخارجها فوجدته أكثر مما عرفته أول مقدمي إلى القاهرة، وكأن السجن الذي جاوز العشرين عاماً قد زاده نقاء إلى نقائه وصفاء إلى صفائه وصلابة إلى صلابته.

وكان حريصاً على جمع صفوف الإخوان في العالم كله.

وقد عملت معه وتحت إمرته في أكثر من ميدان، وبخاصة ميدان الجهاد في أفغانستان، الذي أعطاه جهده وطاقته، وبذل أقصى ما يستطيع لدعمه ورفده وإصلاح ذات البين بين قادته الذين أحبوه جميعاً ودانوا له بالأستاذية فلا يكادون يخالفون له أمراً في وجوده بينهم. أما عن جولاته في البلاد العربية والإسلامية وغيرها فالحديث عنها يطول والأثر الذي يتركه في نفوس من يلقاهم لا يمكن أن ينسى، لأن كلماته البسيطة تنفذ إلى القلوب وتوجيهاته الصادقة يتسارع الجميع إلى تنفيذها.

لقد عرفتُ عنه أموراً تمنيت أن أظفر بعشر معشارها لأكون من الفائزين ولكن شتان بين الثرى والثريا، لقد كانت رؤيتي له ولأخلاقه وسلوكه، تذكّرني بسيرة السلف الصالح، الذين نقرأ عنهم في الكتب، فقد كان السنانيري رحمه الله صورة صادقة عنهم.

إن الأخ الحبيب والرجل الصالح محمد كمال الدين السنانيري، ثمرة من الثمار اليانعة لمدرسة حسن البنا، ومن إخوان الصدق الذين قل أن يجود بهم الزمان، وإن أمثاله من إخوانه وتلامذته، هم الأمل المرتجى لهذه الأمة لإنقاذها من كبوتها وإيقاظها من رقادها وعودتها إلى منهج ربها.

أولئك هم الرجال الذين تفخر بهم الدعوات، وهم الذين يكثرون عند الفزع ويقلّون عند الطمع ويثبتون في الشدائد ويصدقون عند اللقاء"

(المستشار عبد الله العقيل، بتصرف).

تقول عنه زوجته الشاعرة:

قلبت في صفحـات عمــرك علني     *****    ألقى من الأخطاء ما ينسيني

إشراقة الوجه الحبيب على المدى    * ****   منـذ التقينـا من عـديـد سـنين

فبحثت في عهد الشبــاب فلم أجد     *****    عمـلاً معـيبًـا مخجـلاً لجـبين

 

رثاء ووفاء:

عاشت زوجته الشاعرة أمينة قطب تبكيه وترثيه وتكتب في ذكري استشهاده من كل عام قصيدة جديدة حتي أصبحت هذه القصائد ديواناً يمثل مرثية كبيرة لهذا الرجل الكبير.

فقد "عرف الأدب العربي مراثي الأزواج لزوجاتهم، وهي تفيض ألمًا وحزنًا على فراق أحبتهم، غير أن رثاء الزوجات لأزواجهن نادر في الشعر العربي،

وقد رثت السيدة "أمينة قطب" رحمها الله زوجها في أكثر من قصيدة في ديوانها "رسائل إلى شهيد "والذى يمثل صرخة استنهاض في وجه من تسميهم بـ"الخانغين" أو "القطيع"، أولئك الذين رضوا بالذلة والهوان .. وفيه مجموعة من القصائد جاءت كأنها رسائل وجهتها إلى الزوج الشهيد، وإلى السائرين على درب الحق رغم أشواك الطريق..

ففي قصيدة "في دجى الحادثات" تصف لقاء كيانين ألّفت بينهما العقيدة ووحَّد بينهما الإحساس المسؤول بثقل الرسالة وجسامتها ليتحركا في صبر الأباة المجاهدين صوب الهدف الذي أملاه الواجب الشرعي، تقول

هل ترانا نلتــــــــــــــــقي أم أنها    *****     كانت اللقيــــــــــا على أرض السراب

ثم ولــت وتــــــــــــلاشى ظلــها     *****    واستحالت ذكريـــــــــــــــات للـعذاب

هكذا يســـــــــــــــأل قلبي كلــما    *****     طـالت الأيام من بعد الغيـــــــــــــــاب

فإذا طيفـك يرنو باســـــــــــــــماً     *****    وكأني في استمـــــــــــــــــاع للجواب

أولم نمضي على الحق معـــــــاً     *****     كي يعود الخيــــــر للأرض اليبــــاب

فمضيـــــــــــنا في طريق شائك     *****     نتخلى فـيه عـن كل الرغــــــــــــــاب

ودفنا الشــوق في أعمــــــــــاقنا      *****    ومضينـا في رضـــــاء واحتســـــاب

قد تعاهدنا عـلى الســـــير معـــاً      *****    ثم عجلت مجيــــــــــــباً للذهــــــــاب

حين ناداني رب منــــــــــــــــعم     *****    لحياة في جنــــــــــــان ورحــــــــاب

ولقاء في نعيـــــــــــــــــــــم دائم     *****    بجنـــــود الله مرحا للصحــــــــــــاب

هل ترانا نلتقي أم أنها كانت اللقيا علي ارض السراب ؟؟!!

بهذه الكلمات التي خضبتها الدموع ودعت زوجها وشريك حياتها تلك الدموع التي وصفتها بأنها:

("لم تكن قط دموع حسرة أو ندم، فحاشا لله أن تندم نفس مؤمنة على ما قدَّمت، أو على ما قدَّم الأحباب من عمل نال به صاحبه ـ بإذن الله ـ الكرامة بالشهادة في دين الله، ولكنه الفراق الطويل ومعاناة الخطو المفرد بقية الرحلة المكتوبة.

إنها امرأة مسلمة، وهي مع إسلامها لا تخفي إنسانيتها بقوتها وضعفها، ولا تكتم مشاعرها وأحاسيسها، تستعلي على الواقع المؤلم حينا، ويثقل كاهلها تحت الحمل المضني، فتجأر بالشكوى، ولكنها لا تسقط أرضا، إذ تأتيها رافعةُ الإيمان التي تنتشلها من كبوة اليأس، وتحصنها من عتمة القنوط.

وقفت السيدة "أمينة" رحمها الله ديوانها على زوجها، فهو إذًا أشبه برثائية كبيرة؛ وهو ما يذكرنا بـ"الخنساء"في رثائها لأخيها "صخر"؛ حيث رثته بأكثر أشعارها التي أبدعتها...

ولرثاء السيدة "أمينة قطب" رحمها الله لزوجها مذاقه الخاص الذي ينبع من كونها شاعرة وزوجة ومسلمة، ولها فكرتها التي تؤمن بها في الإصلاح والدعوة إلى الله، يمكننا أن نقتبس من كلامها في الحديث عن ديوانها وقصائده المتنوعة، والتي تدور حول زوجها الشهيد ومعاناته في سجنه هو وأهل الحق، وصبرهم على الإيذاء والتعذيب، والصراخ في وجه الظالمين المتجبرين الذين لا يعرفون للإنسان أي قيمة وينتهكون كرامته، ونلحظ أنها لا تستسلم أبدًا لليأس أو القنوط من رحمة الله؛ لأنها ترى في استشهاد زوجها مكسبًا تتمنى أن تنال مثله، وترى في ذلك قربانًا من أجل دعوة الله، وضريبة يجب دفعها حتى تشرق شمس الحرية.

إن استشهاد زوجها لا يمثل قضية ذاتية فقط؛ لأنها هي التي فقدته، وقلبها هو الذي يحترق، لم يكن الأمر كذلك دائمًا، بل استشهاد زوجها هو قضية أمة؛ لأنه مات من أجل هذه الأمة تمامًا، مثلما استشهد أخوها الشهيد سيد من قبل، ومثلما استشهد الكثيرون من إخوانه في عهد مظلم متجبر".

(إخوان ويكلي بتصرف).

رزقنا الله الصبر والثبات على الطريق

ورحم الله أوتاد دعوة الحق والقوة والحرية

والله اكبر ولله الحمد

وسوم: العدد 668