الشهيدان الشقيقان: عصام وعبد الله قدسي

1- رفقاً أنامل النسيم:

شهيدان أم شهيد..؟ روحان أم روح..؟ وجهان سماويان أم وجه متعدد الأنوار ترتجف الشفاه، وتهتز الأقلام، وترتعش أوتار القلوب... عصام! ري الكبد الظمأى! عبد الله! نجوى الروح الحالمة!! رفقاً أنامل النسيم بوجه عبد الله، فهو أَرَقُّ من النسيم! ورفقاً بجبهة عصام فهي جبهة ملك كريم.

من السابق ومن اللاحق؟ من الذي قضى نحبه وفاء بعهد ربه، ومن كان حتى أمد قريب ينتظر؟.. ثم.. لحق بشقيقه؟.. يا ملائكة الرحمة! هؤلاء هم المؤمنون؟ أرأيتم يا جند الله ويا براعم النور، أرأيتم كيف يفعل المؤمنون؟ أَتذكرتم قولَ ربكم جل وعلا، حين جعل آدم في الأرض خليفة، فخشيتم عواقب خلافته.. أتذكرون ما قال لكم؟ "إني أعلم ما لا تعلمون". أجل. صدق وعزته! إنه يعلم أنه سيكون في الأرض، وفي عهد كعهد "أسد"، رجالٌ مثل عبد الله وعصام! وهذا بعض علمه الذي وسع كل شيء.

عصام وعبد الله فتيان من فتيان الإسلام، أنبتهما ربهما نباتاً حسناً، وغمرهما بأنوار الإيمان، فتلألأت في العيون والقلوب والأرواح، وفاضت على من في البيت، بعد ظلمة طويلة دامسة، من ظلمات القرن المضطرب المذعور.

2- لهاث الديجور:

في بيت عريق ترعرعت زهرتا الضوء، تنامت الأغصان الندية، وتراكع نسغ الإيمان في الشرايين حاراً عطراً دفاقاً.. في بيت عريق، ولكنه مغلف بغلائل ظلمة متمدنة.. شب الملكان البشريان، وشبت معهما قوة لم يعرفها البيت ولا أهله، ولا المدنية المرجاة.. "من أين هذا النور الوافد؟ هذا الضياء الغريب؟ إنه جميل حَيِيّ آسر خلاب! لكنه عسير مألوف لدينا.. نسمع به، ونسمع عنه، ولكن لم نعرفه من قبل بهذا التدفق وبهذه الطلاقة".

هذه نجوى من نجاوى صامتة، كانت بُنيَّات النفوس المغلقة، تديرها فيما بينها في أرجاء البيت. وكان الشيطان يتململ ضجراً، وكانت أنفاسه الذليلة تحرق صدره المسعور. يتصدى؟ لا يستطيع! إنه يوسوس.. ثم يخنس. والأشعة تطارد، من زاوية إلى زاوية، ومن ركن إلى ركن.. حتى غادر البيت أخيراً.. لائذاً بجدار مجاور مصدوع، على أمل العودة في وقت قريب بعد أن تنكر له أهل البيت جميعاً، وتنكروا لديجوره السفيه الصاخب.. فانسل هارباً، وانسل وراءه ديجوره لاهثاً متلاحق الأنفاس، دامي الوجنتين من لسعات النور.

هكذا كانت حال الأسرة، مع زهرتي النور وفلذتي الكبد، وهكذا كانت حال الشيطان، وحال ديجوره اللاهث المرعوب.

 3- عصام:

وَيْحَ نابغة بني ذبيان! لقد سره عصام حاجب النعمان، فقال فيه:

فماذا كان يقول، لو رأى عصامنا، عصام الإيمان، عصام الحنيفية السمحة والدين الأبي، عصام الدماثة والبطولة، عصام الحياء والإقدام، كيف لو رأى شاباً في الثالثة والعشرين، متوهج العينين، مشرق الجبين، طويل القامة، أشقر الشعر، مؤمن القسمات والأنفاس؟ وكيف لو رأى خضرة الفردوس بين جفون الصقر الحلبي الطماح؟ كيف لو رأى كلية العلوم في حلب، وهي تحتضن نمراً كاسراً، تتوثب روحه بين أضلاعه، لتلج كلية أخرى، كلية أُعدت لتخريج الربانيين والشهداء كلية الإسلام الخالد..

ويح فتى ذبيان.. بل ويح الشعراء كل الشعراء..! لو تنسموا نفحة من عبير الشهادة، لما هاموا في كل واد، ولما لَذَّ لهم المقام إلا في رياض الإسلام. المسجد.. كتاب الله.. حديث رسول الله.. وكتب أخرى تزخر بأشعة من قبس النبوة.. هذا هو ميدان الصقر الأبي، ميدان القلب والروح والفكر.. يثقف ويثقف، ويعبد ويدعو إلى العبادة، أمّا الزند المفتول الصلب، فله ميدان آخر، ينمو فيه وينمي.. لله در النبوة، كيف تفعل أقباسها بأرواح الرجال!

– أبشري أم عصام! لقد رفرفت اليوم روح عصام في رياض الفردوس!

وتنهمر حبات اللؤلؤ، على الوجه الطاهر المؤمن، تستفسر: كيف؟ جبلة هابطة، مخلوق ذليل من مخلوقات الله التي لا يعبأ بها أحد.. لسان أرخص من كرامة (أسد) يشي بهم لأزلام أسد.. فتدحرج الأقزام حول العرين.. حاصروه.. صبوا عليه لهيب الحقد الباطني اللزج الموبوء.. (آر.بي.جي)، رشاشات، مصفحات.. والبيت الأثري المتصدع، يرسل ما فيه من لهب مؤمن، ومن رصاص أبيٍّ غيور.. ملاحم يكلُّ دونها الخيال.. وتسابقت الأرواح الخمس إلى عرش ربها، تأوي إليه في أقفاصها الذهبية في حواصل الطير الخضر، لترتع في رياض الجنة تفطر على أغصانها قبل عيد الفطر بثلاثة أيام، تاركة سحورها الدنيوي الخشن، يتكفأ بعضه على بعض، تحت قذائف الأقزام.

عصام.. عصام.. مرحى لك يا عصام ! طوبى لك وحسن مآب يا عصام.. ادع لمن خلفك من إخوانك يا عصام!

4- عبد الله؟

هنيئاً لمن لا يعرف عبد الله! فهو آمنٌ من احتراق الكبد، وآمن من أن تذهب نفسه حسرات على عبدالله..

أرأيت ليثاً في ثياب إنسان، وملكاً في وجه رجل، وشريعة سماوية تتحرك في هيئة مخلوق بشري؟ أرأيت خيزرانة من نور، تتواثب في خفة فهد وصفاء زهرة؟

أسمعت بحياء عثمان وحنكة خالد وشجاعة علي!؟

لو رأيت عبدالله، لرأيت فيه أطرافاً من هذا كله..! كان الله في عونك يا أمة القرآن، ما أقسى مصابك بعبد الله، وبإخوة عبد الله!.. قامة فارعة، شباب رائع، بنية رشيقة متكاملة، وجه أبيض ريان، يغشاه شيء من ذبول العبد المتخشع لربه، الكادح إليه.

في عينيه زرقة لا تعرفها البحار، وعلى الشفتين ابتسامة مقيمة مطمئنة، تدخل القلوب بلا استئذان.. ذخيرته من الزمن ربع قرن وحسب، فيه من الملاحم مالا تعرفه أعمار النسور جميعاً..

آثر دراسة الزراعة فانتسب إلى المعهد الزراعي في حلب.. إلا أن عينيه المتوهجتين، كانتا ترعيان غراساً في بستان فريد، في غير هذا العالم الترابي. عزماته لا يمتلك مثلها في هذا العصر، إلا أفذاذ الرجال.. تدريب من طراز عجيب، وحيوية من نوع غريب. ومع هذا، تراه فتحسب نفسك أمام طفل وديع، بلغ  الخامسة والعشرين من عمره. وكأن دماءه قلقة تغلغلت في جوارحه، فارتوى منها كيانه كله.. روح عرفت ربها، فهشمت كل أطواق الخوف، ومزقت أغلال التراب جميعاً.. وجبهة تلألأ فيها نور الحق، فحذفت من قاموسها كل معاني الاستكانة والتذلل والخشوع لغير الله سبحانه..

هذا هو عبد الله بن كمال قدسي. هل عرفتك به هذه الحروف الهزيلة؟ هيهات.. هيهات!

لو قفزت من ارتفاع تسعة أمتار إلى الأرض ومعك سلاحك.

ولو سحقت المئات من أقزام (أسد) وأزلامه وماسحي أحذيته.

ولو ولجت بحار الرصاص والدم والدخان واللهب، وانسللت منها بخفة الفراشة، تقفز على جماجم الكلاب (الأسدية) المسعورة.

ولو بقيت عاماً كاملاً تقارع البغي وقواته من بيت إلى بيت ومن حي إلى حي بصحبة نقيب مغوار كالنقيب إبراهيم اليوسف.

ولو دمرت عشرات المصفحات، ونصبت عشرات الكمائن البارعة الموفقة.

لو نصبت لك خنازير التسلط الوثني ثلاثة كمائن، فدمرت اثنين منها، ورشَّكَ الثالث من وراء جدار، دون أن يمتلك الشجاعة لمواجهتك، فضمخت روحك عطور الفردوس التي تصبو إليها.. لو فعلت هذا كله، وفعلت أضعافاً مضاعفة من أمثاله فلربما عرفت من هو عبد الله، ولعرفت لم آثر الله بالشهادة وهي غالية غالية.

فامرح يا عبد الله راضياً عند ربك مرضياً.. امرح في غلائل العبير والنور، بين البساتين والحور.. مع أخيك الذي سبقك بعام، إلى دار الخلود.

5- بيت الشهادة:

عرين نَوَّرَ الله جواءه، بآي الذكر الحكيم، وعطَّرَ هواءه بأريج الجنات.. فملأ القلوب الرضى، وملأت النفوس الطمأنينة، وملأ الجوارح الاستسلام لمشيئة الرحمن.

القرى والأراضي نهبتها الثعالب الخائنة!؟ فليكن!

البيوت والأمتعة سرقتها القنافذ الدنيئة!؟ لا ضير!

إن الشهيد يشفع لسبعين من أهله.. الشهيد الواحد..! تجارة رابحة والله..!

الخنازير المحمومة تعذب الأجساد، وتنهش اللحوم والأعراض..! لا بأس!

إن أمر الله آت، وإن الله متم نوره.. وإن مباركة محمد صلى الله عليه وسلم للشام حق لا مرية فيه.

6- دعوة:

ربنا مَكِّنْ لنا ديننا الذي ارتضيت لنا، وأعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بنا، وأعنا على نصرة دينك، وعبادك المؤمنين، وبلادك التي باركها نبيك الكريم – صلى الله عليه وسلم-.

ربنا لا تجعلنا فتنة للظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.

ربنا إن لك جنوداً لا يعلمها إلا أنت، فأمدنا الله بجند من جندك، وهيئ لنا نصراً من عندك.

ربنا عذبهم بأيدينا، وامسخ من والاهم من أمتنا قردة خاسئين، كما فعلت بأصحاب السبت.

ربنا إنك تدافع عن الذين آمنوا، فدافع عنا ربنا فإنا مؤمنون.

ربنا إنك ولي الذين آمنوا، فتولنا ربنا، إنك أنت الولي الحميد.

ربنا لقد دمرت أصحاب الفيل، وما موقف وثنيي حافظ أسد من عبادك المؤمنين، بأقل سوءاً من موقف أولئك من بيتك العتيق، وكلهم في قدرتك سواء إنما أمرك للشيء إذا أردته أن تقول له كن فيكون.

بسم الله الرحمن الرحيم:(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول)"صدق الله العظيم".

وسوم: العدد 669