الشهيد أحمد حاووط

إذا ذكرت أحمد، وجب عليك أن تتذكر فوراً كلمة (التحدي) بكل معانيها وأبعادها.. تحدي الباطل بكل أشكاله وألوانه، ذلك لأنك إذا نظرت في عيني أحمد، وجدت بريقاً صارخاً يجعلك تحسب نفسك أمام رجل يحمل هموم سورية وشعبها، ويسعى من أجل إنقاذ الشعب والوطن من لوثات أسد وجرائمه، لينتقل بهما إلى حياة العزة والحرية والكرامة، إلى الحياة الإسلامية.

في عام 1978 تمادى نظام أسد في طغيانه، واشتد في تعسفه، وكشر أسد عن أنيابه المتوحشة، فأنشب أظفاره الدموية في وزارة التربية، فأقدم على نقل عدد كبير من المدرسين الإسلاميين من وزارة التربية إلى الدوائر والوزارات الأخرى، كما أجبر أسد سائر طلاب المرحلتين: الإعدادية والثانوية على الانتساب إلى ما يسمى بشبية الثورة، ليقتل في الطلاب أخلاقهم، ويسمم سلوكهم، بما يقدمه لهم من ألوان التزيين للانغماس في أوحال الفجور والدعارة.. وكان لهذه القرارات والتصرفات آثارها السلبية، وانعكاساتها على نفوس المسلمين وشباب الحركة الإسلامية، أما أحمد فكان يطالب إخوانه بضرورة الرد الحاسم والسريع على هذه الممارسات الأسدية، وإلا فسوف يأتي اليوم الذي يذبحنا فيه أسد والناس يتفرجون.

هكذا كان أحمد، ذلك الفتى القوي العقيدة والبدن، يجهد نفسه في البحث عن طريق ينقذ فيه أمته من الأنظمة الطاغوتية، فينطلق داعياً إلى اليقظة والحذر والحيطة، لأن نظام أسد سيقدم على ما هو أخطر مما أقدم عليه وفعله ويفعله حتى الآن.. فاشتد نشاط أحمد، وتعددت أسفاره إلى هنا وهناك من المدن والقرى السورية، وإلى بعض البلدان العربية، لأنه وإخوانه المجاهدين كانوا يحسون أن ساعة الصدام مع النظام قد أزفت.

ولد أحمد في حلب عام 1957 من أبوين متوسطي الحال، وانتظم في جماعة الإخوان المسلمين عام 1973 ودرس في مدارس حلب، ونال الشهادة الثانوية عام 1976 بتفوق أهّله لدخول كلية الهندسة المدنية، وتابع دراسته فيها وبتفوق أيضاً حتى السنة الثالثة، وكان في الوقت نفسه، أي منذ عام 1976 قد التحق بالعمل الجهادي، وتولى تدريبه الأخ الشهيد البطل محمد أمين أصفر – رحمه الله رحمة واسعة- وكان يعتمد عليه في كسب العناصر الشابة المؤهلة للعمل الجهادي، كما كان يعتمد عليه مسؤوله الأخ الشهيد عدنان شيخوني اعتماداً خاصاً، فقد كان موضع ثقته، يرسله في المهمات الصعبة إلى بعض المدن والقرى، وينتدبه لتدريب الشباب في جبل العلويين، بعد أن أتقن هو ومن يعمل بإمرته لهجة سكان ذلك الجبل، وحفظ من المعلومات عنه، عن قراه ووجهائه وبعض (زعرانه) ما يمكنه من التخلص من أي مأزق قد يقع فيه، وكان أحمد مبرزاً في كل ما أسند إليه من الأعمال والمهمات.

وعندما حصلت اعتقالات عام 1979 كُشف أحمد وطورد، فتوارى عن الأنظار فترة من الزمن ضاق أحمد بها ذرعاً، ثم التقى إخوانه المجاهدين وقال لهم: إلى متى نبقى هكذا مطاردين، وإخواننا يعانون الويلات في السجون، ترى هل كان الإخوان يسمنوننا كالخراف، أم أنهم كانوا يعدوننا لمثل هذا اليوم؟

واحتدم النقاش بين مجموعة الشباب المجاهدين، ثم خرجوا بقرار خوض المعركة، ونووا جميعاً أن يستشهدوا في سبيل الله، ثم انطلق كل منهم يرتب أموره في القطاع الموكل إليه، وتسلم أحمد قطاعاً مهماً في مدينة حلب وريفها، وفي محافظة إدلب، تدريباً وتسليحاً وتعبئة للكسب الجديد من الشباب.. وبهذا يكون أحمد من أوائل من خاض ملاحم الجهاد في حلب، خطط ونفذ عدة عمليات ناجحة قادها بنفسه، ونالت إعجاب إخوانه المجاهدين عامة وإعجاب كل من النقيب إبراهيم اليوسف – القائد العام – ونائبه الأخ الشهيد البطل عبدالله قدسي. كان أحمد يعمل على أكثر من محور.. يخطط لبعض العمليات، وينفذ بعضها الآخر، ويقود المجموعات الجديدة ويدربها أحسن تدريب ويشتري القواعد ويبنيها ويوزع الإخوة عليها ويزور القواعد الأخرى الخاضعة لقيادته وإشرافه، وينظم الشباب ورجال الأحياء، ويشتري السلاح، ويبني العلاقات مع الوجهاء و(القباضايات) ويوقظ الهمم، ويشد العزائم، ويرفع المعنويات، ولا يكاد يترك إخوانه لحظة واحدة، وما كان يعرف لحياته طعماً مستقلاً.

كلف مرة بمهمة مع أحد الإخوة وانطلقا للسيارة المخصصة لهما، لكنهما بوغتا بعناصر الإجرام الأسدية تداهم السيارة، واشتبك الإخوان مع العناصر الأسدية، في ملحمة بطولية استفزت مشاعر الناس، وتمكن أحمد من قتل عدد من عناصر السلطة وأصيب هو بجراح خفيفة، بينما أصيب أخوه إصابات قاتلة، ومع ذلك تمكن أحمد من إنقاذ الأخ المصاب والتواري عن الأنظار بسيارته التي أصيبت هي الأخرى إصابات بالغة، ومنه حمله أحمد في سيارة عامة إلى إحدى القواعد، والأخ المصاب يحتضر، وأحمد يتفطر ألماً وحزناً عليه، يحاول تضميد جراحه بما تيسر في القاعدة من لوازم الإسعاف الأولي، وكانت القاعدة في مكان ناء.. وتمر لحظات وقلب أحمد يتمزق، وعيناه تغسلان وجه أخيه بالدموع.. ويستفيق الأخ المصاب ويقول..

وداعاً يا أحمد..

إلى أين؟

إلى العالم الآخر.. أهلي بأمانتك..

ويفارق الأخ الروح فيهتف أحمد..

لا .. لا.. سأذهب معك..

وعندما داهمت عناصر البغي البيت الذي كان يتوارى فيه الأخ الشهيد حسني عابو، لم يكن أحمد يعلم شيئاً مما حدث فذهب إلى أخيه حسني، وعندما قرع الباب القرعَ المتفق عليه، فتح الباب رجل مسلح وصرخ بأحمد:

- ارفع يديك

فما كان من أحمد إلا أن قفز بالهواء وهو يهتف بملء صوته الله أكبر الله أكبر.. وسدد مسدسه إلى عنصر المخابرات وأرداه قتيلاً وخرج عناصر السلطة الذين كانوا يملؤون البيت، وناورهم أحمد وهو ينسحب وجراحه تنزف، حتى تمكن من الخلاص منهم.. وبعيداً عن عيون السلطة جرت معالجة جراحه الكثيرة..

وبعد أيام دوهمت القاعدة التي كان يتخذ منها مقراً لقيادته وتمكن أحمد من الفرار من بين عشرات العناصر المحمولين بالسيارات، بعد أن قتل بعضهم.. ويتحدث رجال المخابرات عن هذا (الملك) الذي تحمله الملائكة على أجنحتها، وتخبئه في أحضانها وتعمي أبصار المخابرات والوحدات الخاصة عنه.. إذ ما كاد يقع حتى يفلت بعون الله.

استشهاده

في يوم من أيام رمضان عام 1400هــــــ كان أحمد يأوي إلى قاعدته بعد يوم حافل بالعمليات والمطاردة لعله ينال قسطاً من الراحة تساعده على القيام بمهماته التي تنتظره وما كان أكثرها، وما كان أهونها على الرجال، الرجال من أمثال أحمد..

نام بكامل سلاحه ولباسه – كالعادة – وأخذته سِنةٌ من النوم انتبه منها مرتعشاً وهو يقول:

- يالله.. أنا ما زلت في هذه الدنيا؟

واجتمع عليه إخوانه يسألونه ما به؟ بأجابهم:

-رأيت نفسي في عالم آخر, فيه الشجر والماء والظل الظليل, وكان إلى جانبي الأخ الشهيد أيمن الخطيب يقدم لي شيئاً من الطعام.

واتخذ أحمد سمتاً مهيباً وقال:

- يا إخوان.. يبدو أنني سألحق بالشهيد أيمن.. هذه الرؤية دعوة منه لي.

وفي الصباح الباكر حمل العبوة الناسفة التي صنعها بيده في الأمس, وتأهب للخروج إلى الموعد المحدد لتنفيذ عملية كبيرة, وكان إخوانه ينتظرونه هناك.. وبعث أحد إخوانه ليسبقه مستطلعاً له الطريق, وتشاء الأقدار أن تتفجر العبوة التي يحملها, ليكون أحمد أول شهيد في تلك القاعدة.. فقد استجاب الله له ما كان يلح عليه من الدعاء في صلاته في جوف الليل:

-اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك.

حتى ضاق به بعض إخوانه من هذا الإحاح في الدعاء, فقال له:

- كفى يا أحمد.. إننا نريد النصر.. ارحم نفسك.. في كل صلاة قنوت ودعاء وإلحاح في طلب الشهادة؟

هكذا فليكن الرجال..

هكذا فلتلد الأمهات..

هكذا فليكن شباب الإخوان المسلمين..

وهنيئاً لك يا أحمد في مقعد صدق عند مليك مقتدر. 

وسوم: العدد 694