علامة السودان الشيخ البروفسور عبد الله الطيب

د. عبد السلام البسيوني

رغم دراسته الإنجليزية وزوجته الخواجاية، فهو شيخ، داعية، مفسر، عالم إسلامي؛ فقد نشأ العلامة عبد الله الطيب نشأة دينية علمية كعادة أهالي تلك المنطقة، فدخل الخلوة ودرس القرآن الكريم، وحفظه كاملاً، وقرأ الشعر العربي القديم حتى بلغ مبلغ تفسير للقرآن الكريم مسجل بالإذاعة السودانية (من 1958 إى سنة 1969).

وهو من أعلام وأعمدة العربية في القرن العشرين (والعربية وعاء القرآن الحافظ له، وشارحة السنة والمسفرة عن لآلئها) وقد كان للعلامة عبد الله الطيب آراء تاريخية فيما يتعلق بالإسلام وعروبة السودان أثارت جدلاً كبيراً في الأوساط المختصة، إذ كانت ترى أن الوجود العربي في السودان سابق لدخول الإسلام وأن العلاقة بين شبه الجزيرة العربية والسودان لم تنقطع منذ ما قبل الإسلام، وأن أرض هجرة المسلمين الأوائل لم تكن إلى الحبشة المعروفة اليوم بإثيوبيا، وإنما إلى أجزاء من السودان؛ حيث كان العرب يطلقون اسم الحبشة على أرض السودان الواقعة غربي الجزيرة العربية!

وكان يقول أحب الكتب إليّ كتاب الله ودواوين الشعر وخاصة المتنبئ وأبا تمام.

وقد شارك في الدروس الحسنية أمام جلالة ملك المغرب، كما ألقى محاضرات في السيرة النبوية حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي!

وألخص جوانب من ظرف العلامة الطيب رحمه الله من دراسة للدكتور صديق عمر الصديق نائب معهد البروفيسور عبد الله الطيب، بعنوان: السخرية والطرفة عند البروفيسور عبد الله الطيب، بكثير من التصرف:

حكى الفكي محمد ود الطاهر شيخ خلاوي المجاذيب أن عبد الله الطيب كان مشاغباً في الخلوة أيام طفولته، فأراد الفكي أن يعاقبه ذات يوم ففر من وجهه، وظل الفكي يجري وراءه، حتى إذا أصبحت المسافة بينهما قريبة جداً، وأيقن الطفل أنه معاقب لا محالة، التفت الى الفكي، وقال له: فوضت أمري لله!

قال الفكي: فتملكتني رهبة شديدة، وخفت أن يعاقبني الله بسبب هذا الطفل الذي فوض أمره له، إن أنا عاقبته، فأمسكت!

كان عبد الله الطيب يستمع الى المذياع، ومعه مجموعة من الأساتذة، وخطيب سياسي في زمان غابر يملأ فمه بالكلمات التي تفضح فقره في اللغة بصورة مزرية، فصاح عبد الله الطيب: هذا لا يعبر وانما يبعِّر!

قال له أحد العلماء المصريين من أعضاء مجمع اللغة العربية: أنتم في السودان مخطئون في الماضي (عَرَف) فتقولون (عَرِف)!

فقال عبد الله الطيب: نحن نخطئ في الماضي، وأنتم تخطئون في المستقبل (لأن المصريين يقولون) تِعْرَف!

قدم الدكتور/عبد الله الطيب إلى الدوحة، أواخر التسعينات من القرن الماضي، للقاء محاضرة بعنوان: (أزمة المثقف العربي) – وحضرتها، وكانت المرة الوحيدة التي رأيته فيها، وكانت قاعة المجلس في هذه اللسلة سودانية كلها، إذا ظننت أنه لم يبق سوداني بالدوحة إلا حضر! - وفي الليلة التالية دعاه مجموعة من شباب الجالية السودانية إلى العشاء والمسامرة في أحد فنادق الدوحة. وأثناء الجلسة الممتعة مع هذا الأديب واللغوي الكبير، سأله أحد الحضور: " يا دكتور الناس ينسبون إليك هذه الأبيات:

ومدغشلٍ بالقحطلين تحشرفت             شرَّافتاهُ فخرَّ كالخُرْبُعطُلِ

وتفشحط الفشحاط في شحط الحفا         وانداحَ من خِنشارةِ البُحعْطنْجلِ

ويقولون إن أحدهم سألك: ما هو البعطنجل؟ فأجبت: بأنه صغار الجُلعْبُط، والمعنى واضح!

فضحك الدكتور وقال: أنا أعلم أن الناس ينسبون إليّ كثيراً مما لم أقله، ولكن لعلَّ هذا أن يكون من شعر الجن!

كان الطيب قد كلف تلاميذه في السنة الخامسة أن يكتبوا مقالاً في موضوعات بأعيانها فشغل عبد الرحمن ابراهيم (أستاذ بالجامعة الآن) عن الأمر، فلم يجد بداً - وقد حوصر بالزمن- من أن يعتمد على النقل من كتاب ظنه بعيداً عن معرفة البروفيسور، وكان ينقل بإهمال؛ إذ يترك بعض السطور بحيث لا تخل بالمعنى.

فلما جاءه المقال مصححاً كان عبد الله الطيب قد كتب بالقلم الأحمر السطور التي أهملها!

في السنة الخامسة في إحدى الدفعات شغل طالب (هو الدكتور صلاح طيفور - أستاذ بالجامعة الآن) عن إتمام بحث التخرج، وكانت رئيسة قسم اللغة العربية بكلية الآداب الدكتورة قد ألحت على عبد الله الطيب أن يسلمها درجات البحوث.

وبعد أن فرغ عبد الله الطيب من تصحيح البحوث، وجد أن الطالب صلاح طيفور لم يسلم بحثه فأرسل إليه بعض زملائه فلم يجدوه في الداخلية، ولم يعرف عذره بعد، فما كان منه إلا أن أمسك ورقة، وكتب عليها: الأستاذة الفاضلة دكتورة بتول: الآن حصلت على بحث الطالب صلاح طيفور ودرجته (B) وكان صلاح طيفور في المقابل قد أرسل البحث للدكتورة بتول، فلما عرف عبد الله الطيب هذا قال لها: أنا أعرف أن مستواه يستحق أعلى من الدرجة التي أعطيتها إياه؛ ولأنه أخر البحث أعطيته (B) عقاباً.

روي أن الدكتور جعفر ميرغني قد كان أحد الطلاب النابغين الأثيرين عند عبد الله الطيب، واحتاج في امتحان الأدب الأموي إلى شواهد في موضوع معين فلم يجد، فطفق يؤلف البيت ويقول: قال ذو الرمة. فناداه عبد الله الطيب فقال له:

يا جعفر: ذو الرمة قال الكلام دا وين؟ فاعترف جعفر بما فعل، فقال له عبد الله الطيب: والله لولا أنني أحفظ كل شعر ذي الرمة لما شككت في الأمر قط (وهذا يدل على تمكن الأستاذين).

* وله قصة اخرى مع جعفر ميرغني انه لما عرض على أستاذه عبد الله الطيب قصيدته التي يقول فيها:

رشأ أدار بخصره زنارا              ترك الفؤاد مقتلا أعشارا

فقال له عبد الله الطيب على الفور:

رشأ أدار بخصره زنارا              ترك الفقير ينمق الأعشارا

ذكر الدكتور الحبر أنه قال لعبد الله الطيب وقد عرض عليه قصيدة له: (المعنى دا أنا اخدتو منك يا أستاذنا)، فقال عبد الله الطيب:(انت الاخدتو مني شوية يا شيخ الحبر؟!)

جاء عبد الله الطيب ذات يوم إلى محاضرة طلب إليه أن يقدمها، فبدأ حديثه قائلاً: (محاضرتي دي زي كتاب الشريف يوسف الهندي). فقال له الحاضرون: كيف يا بروف؟ فقال عبد الله الطيب: الشريف الهندي قال لي جماعتو: انا ألفت لي كتاب:

فقالوا له سميتو شنو يا شيخنا؟ قال ليهم: (سلق سلق قدر الله ما خلق)!

شكا بعضهم رجلاً إلى شيخه لأنه قال له: (انت تشبه بلا الكرك الواقف فوق رمة) فما كان من الشيخ إلا أن قال له: (دحين يا فلان إت ما كدي؟!)

* لما تحدث عبد الله الطيب عن التجاني يوسف بشير في كتابه المرشد قال: إن  التجاني في قوله:

آمنت بالحسن برداً.. وبالصبابة نارا

وبالكنيسة عقداً منضداً من عذارى

وبالمسيح ومن طاف حوله واستجارا

إيمان من يعبد الحسن في عيون النصارى

كأنه أراد أن يقول: أموت أنا في عيون النصرانيات.

ذات سهرة كان عبد الله الطيب يتحدث عن تمثل شكسبير في شعره للمعاني التي انفرد المتنبي بذكرها في الشعر العربي، وكأنه يشير إلى احتمال تأثر شكسبير شاعر: "ومن يكون الإنجليز الأول بشاعر العربية الأول، فسأله أحد الضيوف الأعاجم فأجابه عبد الله الطيب ببلاغة إنجليزية: إذا كنت لا تعرف من هو المتنبي فــــــ .I`m afraid I can not help you

ذات إجازة دفع منظر النيل الساحر ابنتيه على السباحة فيه، فما لبثت وأنا الوحيد في عمريهما (نزار عبده غانم) أن لحقت بهما بالسباحة في النيل الأزرق الممتلئ، وكان عبد الله الطيب في تلك الفترة قد أخذ يجيد اللغة الفرنسية، بل أخذ يقول بطرافة:(أجيد الإنجليزية والفرنسية وبعض العربية)، كأنه يقصد أن من الصعب جداً أن يدعي أحد أنه قد أحاط بالعربية وغرائبها، فصاح فينا بالفرنسية بينما كنا نسبح:

 Attension a la crocodile))  وكان السودانيون فعلاً يتحدثون عن تماسيح النيل لا سيما النيل الأزرق، فظننا أن عبد الله الطيب قد شاهد تمساح يتجه إلينا فسارعنا بالخروج إلى الشاطئ.

كان مرةً يقدم محاضرة بالقاعة (102) بكلية الآداب، جامعة الخرطوم، فخاطبه أحد الحضور قائلاً: "أريد أن أسأل البروفيسور عن..."، فقاطعه أحد الطلاب المهووسين بالإعجاب بالدكتور الطيب، قائلاً: "يا أخي لا تقل يا بروفيسور.... فإنها  كلمة أجنبية! ولكن قل يا أستاذ"؛ فقال دكتور عبد الله الطيب: "لا بأس؛ فكلتاهما أجنبية" وهذا لأن الأولى لاتينية، والثانية فارسية..

قال تلميذه المحبب إلى نفسه، دكتور/ الحبر يوسف نور الدايم: إني أحسب أنه لا يوجد بيت من الشعر قالته العرب إلا وأستاذنا عبد الله الطيب قد اطلع عليه، إن لم يكن يحفظه، وقد كنت ذات يوم في المكتبة الكبرى بجامعة الخرطوم وعثرت على كتاب قديم ممزق من كتب اللغة العربية، وبينا أنا أقلب في ذلك الكتاب عثرت فيه على بيت لشاعر جاهلي مغمور يصف تمرة، فحفظت ذلك البيت، وكنت أظن أنني الوحيد في العالم كله الذي يحفظ ذلك البيت. وكان من عادة أستاذنا عبد الله الطيب أن يقيم مآدب للإفطار في رمضان يدعو إليها تلاميذه وأصدقاءه ومحبيه، وبينما كنا معه ذات يوم في إحدى تلك المآدب، مددت يدي لأتناول تمرة من الطبق، وأنا أتمثل بذلك البيت، فما كدت أكمل صدر البيت: وكنتُ إذا ما قدِّم الزادُ مولعاً... فإذا بالأستاذ يكمل عجز البيت على الفور؛ قائلاً: بكلِّ كُمَيتٍ جلدة لم توَسَّفِ.

كنا ندخل عليه بمكتبه فيرحب بنا كل الترحيب، ثم يشرع في درس متجدد قشيب غير رتيب، فيبحر بنا أستاذنا البروفسير في خضم علمه الذي لاساحل له، وما أكثر ما كان يلطّف درسه بما يقول الشعراء والأدباء من ظريف المزاح، وبما يرويه الرواة والوعاة من طُرف ملاح: انتقل بنا ذات مرة من حديث الآداب إلى حديث الأنساب فقال: ينتسب الجعليون إلى الفضل بن عباس بن عبد المطلب، ويزعمون أنه جدهم، والمشهور أن الفضل بن عباس قد مات عقيماً، فليبحث الجعليون عن جد لهم، قال ذلك رغم أنه من صميم الجعليين، ثم ضحك ضحكة من بحر الطويل، وربما ضحك مثلها وهو يسهب في شرح رائية عمر ابن أبي ربيعة الشاعر القرشي المتهتك حتى إذا بلغ إلى بيته المشهور، كونه من أهم الشواهد النحوية: -

فَكانَ مِجَنّي دونَ مَن كُنتُ أَتَّقي ****  ثَلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ وَمُعصِرُ

قال: يقصد ابن أبي ربيعة بالكاعبين فتاتين ناهدين، وبالمعصر جارية جميلة، ثم قال: يُروى أن يزيد بن معاوية كان يتفقد جيش أهل الحرة فمرّ به رجل من أهل الشام معه مجن قديم قبيح - والمجن هو الترس أو الدرقة - فنظر إليه يزيد وضحك ثم قال: (ويحك! مجن عمر بن أبي بيعة كان أحسن من مجنك هذا)، وحين يبلغ أستاذنا هذه العبارة يضحك كما ضحك يزيد أو يزيد.

حكاوى: د. صديق عمر الصديق/ صحيفة الصحافة: بمناسبة مرور العام الأول على رحيله 17/6/2003 نوستالجيا مع عبد الله الطيب/ د. نزار محمد عبده غانم.

وسوم: العدد 695