الشهيد أنور كلعمر

في بيئة كادحة، تأكل من عرق الجبين، وكد اليمين، لا من مالٍ موروث، ولا من رزق موفور، تعتز بقيم الإسلام وتحرص عليها، لا تقليداً موروثاً، ولكن إيماناً فطرياً، وتصديقاً ورضى بما قسم الله في الدين والدنيا.

في هذه البيئة، نشأ المجاهد أنور كلعمر ليتعرف على الحياة من خلال فهم لها ينبع من العبادة والعمل بمفهوميهما الإسلامي الصحيح.

فللعبادة وقت، وأي وقت! يستغرق فرائض خمساً يؤديها في أوقاتها في بيت الله المجاور لمنزله وفيه يجد الأنس والراحة حتى تظنه أنه لا يغادره لطول ما تراه في جنباته، فلكأنه ممن عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه: "سبعة يظلهم الله في ظلهم، يوم لا ظل إلا ظله: "شاب نشأ في طاعة الله" فكان لأنور نصيب من هذا الظل الوارف.

"ورجل قلبه معلق بالمساجد" وقد كان للمجاهد البطل حظ موفور من هذا الفيء ونعيمه. لقد كان يستشعر لذة في الكسب الحلال وهو بعد ابن الثالثة عشرة، ليكون ما يكسبه مصروفاً للكتب والدفاتر وحوائج المدرسة.

ولا تمضي سنتان على دخوله المرحلة الإعدادية، حتى يفاجأ كغيره من الطلاب بنظام جديد فاسد يستهدف اقتلاع الطالب من جذوره الإيمانية، وفرض فكر غريب دخيل يتصادم مع العقيدة التي تشربوا خلاصتها منذ نعومة أظفارهم، ولم يكن هذا النظام سوى شبيبة الثورة المزعومة التي أرادتها السلطة الغاشمة محضناً لفكرة تأليه الطاغية أسد، والإضفاء عليه من الصفات التي ترتفع عن مستوى البشر وهو الجهول الغشوم الخنوع.

وبالفطرة النقية والتوجيه السليم والقدوة الحسنة كانت نفوس من هم في سن أنور ترفض هذا الزيف الذي يركم ليلقى جزافاً في أفكار الطلبة الناشئة.

وأراد الله تعالى لهذا الفتى الناشئ في بيت من بيوت الله غير ما أرادوا، فهيأ له المحضن النظيف، والصحبة الخيرة، والأفكار السامية، والعقيدة الصافية في حلقات تعقد في بيوت الرحمن تظللها السكينة وتغشاها الرحمة وتحف بها الملائكة، باسطة أجنحتها رضى بما يصنع عباد الله المخلصون.

وتعزف نفس الفتى أنور عن مغريات النظام الأسدي الغاشم وقد أسقط فيها الكثيرين، ويرتفع بهمته عن الشهوات التي أججوها، وقد زلق فيها من زلق.

وفي الوقت الذي كان فيه المأجورون يهتفون باسم الطاغية أسد في احتفالات ومسيرات اصطفوها بمناسبة وبغير مناسبة، كان المجاهد أنور ينظر إليها نظرة النسر الأبي الذي علا مرتفعاً إلى الذرى ليخفق بجناحي العزة والإيمان، مستعلياً على الحطام الذي يتنافس عليه بغاث الطير وأراذل القوم غير آبهين لكرامة تداس أو عزة تهان.

ولا يجد أنور على كثرة الساقطين غير هتاف واحد يتملك شغاف قلبه.

إن الرسول لحي في ضمائرنا     على الزمان يرى منا ويستمع

ومع ارتفاع وتيرة الغضبة الشعبية في آذار عام 1980م ضد الطاغية أسد ونظامه الفاسد كان الشمال السوري على فوهة براكين ثائرة تتفجر في كل يوم من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية.

وكانت جسر الشغور على موعد مع العاشر من آذار لتعلن بعفوية الشعب المؤمن الطيب عن ولائها الحقيقي ويقينها الأبدي.

لا ولاء إلا لله ورسوله، ومهما علا الطغاة فإنهم إلا زوال.

وتسابق أبناء الشعب الذي قاوم فرنسا من قبل وقد ولى أزلام السلطة الأدبار تاركين السلاح والذخيرة ناجين بأرواحهم من فوق أسطحة المنازل، ويا لها من فرحة، إذ أصبح السلاح بيد الرجال، ودارت على المجرمين الدوائر.

ومضى أنور مع أحد إخوانه المجاهدين يجمع سلاح الهاربين غير آبهين للرصاص المنهمر.

وشاءت إرادة الله أن تختار البطل المجاهد أنور مع ثلة ممن صدقوا العهد.

ومكث الشهيد لينزف على أبواب إحدى العيادات الطبية، وقد حال المجرمون دون إسعاف المصابين! ليلقى الله بلون كلون العندم، وريح كريح المسك:

ستبقى يا شهيدَ المكرمات          مناراً في الليالي الحالكات

تنير دروبنا في كل آن            وتحدو بالهدى ركب الدعاة

ترديت الردى وحفظت حقاً         لتمسي في جنان ناضرات

وسوم: العدد 698