الشهيد مصطفى القري "أبو بكر"

إنها حكمة الله على مر العصور، حكمته في أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام فشأنه في خلقه أن تخرج الوردة المعطار من ثنايا الأشواك الواخزة.. في تلك القرية الوادعة المستلقية على سفوح جبل سمعان الجنوبية والتي تستند بساعدها على بداية سلسلة جبال حارم بمحافظة إدلب، أشرق الصبح عن ميلاد أبي بكر في أحد منازل قرية الدانا عام 1961م. وعلى صورة مماثلة للصورة التي فتح عليها خليل الله عينيه تفتحت عينا أبي بكر، وظلت نظرة التساؤل تلازمه إلى أن ماز الخبيث من الطيب، وقرر في نفسه الانتصار للحق مهما كلفه من ثمن.

لقد حز في نفسه أن يرى والده أداة قمع في يد السلطة رئيساً لسجن مخابرات أمن الدولة في حلب، كان يناديه رؤساؤه ومرؤوسوه بالشركسي ولا يعرف بغير هذا اللقب، كان العصا الطيعة في يد المقدم الهالك علي سعد الدين، وفي يد عمر حميدة رئيس فرع مخابرات أمن الدولة في حلب من بعده يشاركه حتى في موائد خمره الحمراء. ويستشيط مصطفى غضباً من ممارسات أبيه:

- أماه ألم يبق في رأس أبي نخوة؟ أما عاد له من ضميره رادع؟ ألا يغار على عرضه؟ أيجوز أن تقدم أختي وهي سافرة الشاي والقهوة لضيوف أبيها أعداء الله ورسوله؟.

وتثور أمه في وجهه:

- لا تنطق بكلمة واحدة، وسأعرف كيف أتصرف مع أصحابك فهذا كلامهم.

ومن حلب مكان إقامتها تشد الرحال في عام 1979 إلى قرية الدانا، فهي تعلم أن مصطفى يقضي عطلته هناك بعد أن انضم إلى صفوف المجاهدين سراً، وهناك في القرية المجاهدة "الدانا" التقت بأبي هادي الذي كان يتردد ابنها عليه حسب ظنها، وبحنق جنوني طلبت منه ألا يستقبل ابنها ويطرده إن جاء إليها أو التقى به، ولم تصدق نفيه لمزاعمها فسألها:

- هل أنا المسؤول عن ابنك إن سلمنا بما تقولين؟

وتمضي في حدتها صائحة:

- إنني أفضل أن يذهب ابني إلى الخمارات والحانات على أن يطالب أخته بالحجاب ويعترض على تصرفات أبيه.

وتذهب محاولاتها اليائسة أدراج الرياح، ولا تقوى هذه الأم الضالة على ثني ابنها عن مواكبة ركب الجهاد، فيوعز أبوه لبعض عناصر المخابرات من زملائه بإلقاء القبض عليه واستعمال أسلوبي الترغيب والترهيب معه، ويفشل أسلوب الترغيب مع المجاهد الشاب فيلجأ ضابط التحقيق إلى أسلوب آخر.

- اسمع يا قري، إننا لا نسمح لابن حافظ أسد أن يعكر صفو الأمن حتى لو اضطررنا لاستعمال كل ألوان التعذيب، أتفهم؟ هذه آخر كلمة أنصحك بها. وأي تحرك مريب لك ستلقى عليه العقاب المناسب.

وينهره أحد الجنود ويوجه إليه بعض الإهانات على مسمع والده الذي أخرج فصول هذه المسرحية لصده عن طريق الهدى والجهاد.

ويستمر هذا الأب في ممارسة الضغط على ابنه، ولكن بصورة مادية، فيقاسمه أجر عمله في ورشة الميكانيك، غير أن المجاهد أبا بكر لم يأبه لذلك فهو يحمل ما تبقى له من أجر عمله ليشتري به طعاماً لإخوانه المجاهدين الذين انضم إليهم في حلب مصداقاً لقوله تعالى: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".

ويلح المجاهد على إخوانه ليحمل السلاح فيلبون رغبته فتغمره الفرحة ويرفع يديه إلى السماء:

- اللهم إني أسألك الشهادة بعد أن أثأر لإخواني من العملاء والمأجورين أعدائك يا الله.

ويدرك الوالد الضال أنه قد خسر فلذة كبده فيصب جام غضبه على السجناء في التحقيق، وتنتشر أخبار هذا المحقق بين المجاهدين وهم يعرفونه.

ويسمعهم أبو بكر وهم يصفون المحقق الجلاد الجركسي بالوحشية ولا يرون بداً من قتله جزاء لما اقترفت يداه فتعلو وجهه ابتسامة ممزوجة بالألم:

- والله لن يكفيكم شره سواي.. إنه والدي، لقد غرق في الضلالة والعمالة. سأقتله بأحد مسدسيه وأكفيكم عناء المخاطرة وأحمل مسدسيه وذخيرته غنيمة لنا.

ويتهادى إلى سمعه صوت من بعيد:

- وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما...

فيرفع يديه إلى السماء:

- اللهم اهد أبي وأمي فإنهما لا يعلمان.

وهنا يقول أحد إخوته المجاهدين:

- سننذره مرتين فإن لم يتب.

فيقاطعه المجاهد البطل:

- فسأنزل فيه حكم الله.

وتأتي الأخبار بأنه ترك فرع التحقيق إلى عمل إداري في فرع المخابرات، فينهى المجاهدون أبا بكر عن الإساءة لأبيه.. ويفرح أبو بكر ويدعو لأبيه بالهداية.. وتهاجم سلطات البغي الأسدي إحدى قواعد المجاهدين بعد أن جاءتها تقارير فيستشهد أحد المجاهدين وتأسر السلطة آخر في إحدى القرى المجاهدة.

ويعرف المجاهدون المجرم المسبب، إنه العميل الذي نشط في الفترة الأخيرة، ويوجهون إليه ثلاثة إنذارات ليتوب فلا يرجع عن غيه.

وفي إحدى القواعد في حلب يطلب إلى المجاهدين تنفيذ حكم الله في العميل المجرم، فيهرع المجاهدان أبو بكر وأبو ذر يطلبان تكليفهما بهذه المهمة، ونزولاً على إصرارهما تُسند إليهما تلك العملية ثأراً لأخويهما الشهيد والأسير.

ويصل المجاهدان إلى المكان المتفق عليه بعد أن تعرفا إلى العميل المجرم قرب بيته قبل أيام ورسما صورته البشعة على صفحة الثأر الإسلامية.

وفي موقع الكمين المحدد يرى المجاهدان العميل، وتتراءى لهما أبواب عدن، ويستنشقان عبق الجنة الوارفة ويسمعان صوت أخيهما الشهيد يناديهما:

- هذا قاتلي فاقتلوه.

ويقتربان منه ويبادرانه:

- ما اسمك يا هذا؟ ومن أين أنت؟

فتبدو أمارات الفزع على وجهه القبيح ولا يملك لسانه مناصاً من التلعثم:

- آني.. أ.. أنا..

ويعرفان أنه المقصود بذاته فيضع أبو ذر المسدس في رأسه بينما يرقب أبو بكر المكان لحماية أخيه ويبدأ أبو بكر معزوفة الثأر:

- خذها يا عدو الله.

وتتعالى أصوات شهود العيان:

- قتله.. قتله..

- تسلم إيدو.. إلى جهنم وبئس المصير..

وينسحب المجاهدان وأبو بكر لم يُعرفْ للناس بعد، وتسرع سيارة الشرطة خلف أبي ذر فيطلق عليهم الرصاص ممزقاً واجهة السيارة وينطلق، فتوقفه كلمات الضابط المعتوه.

- أنت يا ولد عد إلى المخفر وأعلم الشرطة أسرع يا ولد!

فينطلق أبو بكر في وجهه:

- ومن قال لك أننا أولاد. نحن جند الله.

- عد وإلا قتلتك.

وتستدير سيارة الشرطة عائدة ويلحق أبو بكر بأخيه، وفجأة يعلو صوت الرصاص وينظر المجاهدان، وإذا بعدد من السيارات تحمل عناصر المخابرات التي تواجدت يومها قريباً من مكان الحادث ومعهم مسلحو حزب الطاغية أسد وأفراد شرطة المخفر المعزز بعناصر مخفر مجاور.

وتنطلق صيحات المجاهدين البطلين أبي بكر وأبي ذر.

- الله أكبر، الله أكبر.. الثأر والجنة ورب الكعبة، ولا نامت أعين الجبناء.

وتدور معركة قصيرة غير متكافئة يقاتل فيها المجاهدان حشداً كبيراً من عناصر الإجرام، إلى أن تنفد الذخيرة وتصعد الأرواح الطاهرة إلى بارئها.

وسوم: العدد 708