خواطر في معجزة الإسراء والمعراج

قال الله تعالى ، في مطلع سورة الإسراء:

( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من ءاياتنا إنه هو السميع البصير) الاسراء: 1 .

تبدأ السورة بتسبيح الله وتنزيهه ، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف... فسبحان الله لكل عجيبة... لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سريت... حتى تقول له قريش: نذهب شهراً ونرجع شهراً... وإنما قال أسري بي... ومن الذي أسرى به؟ إنه الله العلي القدير... الذي ليس لقدرته حدود... ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء... ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ... فالله أسرى بعبده...ولم يقل بروح عبده... وكلمة العبد تطلق على الروح والجسد معاً... فالإسراء كان يقظة لا مناماً و بالروح والجسد وفي جزء من الليل وكذلك كان المعراج ... ولذلك أنكرت عليه قريش عندما أخبرهم بالإسراء ... ولو كان بالروح فقط لما أنكرت عليه... لأن أي إنسان يرى رؤيا منامية... مهما كانت غريبة وعجيبة وبعيدة ... ولا أحد ينكر عليه... ولذلك فإن الذي ينكر الإسراء ، فهو كافر وجاحد ، لأنه أنكر سورة من القرآن ، سميت باسم هذه المعجزة ( سورة الإسراء ) ... وأما الذي ينكر المعراج فهو فاسق لأنه لم يذكر في القرآن صراحة بل تلميحا في سورة النجم ، كذلك جاء ذكر الإسراء والمعراج صراحة في صحيح السنة ... 

وقال الله تعالى: بعبده ولم يقل برسوله أو نبيه... لأن مقام العبودية مقام عال ورفيع... وصف الله به نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ، في كثير من الآيات القرآنية... كقوله تعالى: ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً )..

وقال سيدنا على رضي الله عنه ، مناجيا رب العزة والجلال ، سبحانه وتعالى:

كفاني فخراً أن تكون لي رباً... وكفاني عزاً أن أكون لك عبداً .

وقال القاضي عياض ، رحمه الله تعالى:

متى كان الإسراء ؟

كان ، ليلاً... لماذا قال ليلاً مع أن الإسراء يحمل زمنه معه... فالإسراء في اللغة هو السير ليلاً... ولا يكون الإسراء إلا في الليل... كقوله تعالى مخاطباً لوطاً عليه السلام: ( فأسر بأهلك بقطع من الليل...).

وقال ليلاً ولم يقل في الليل... نكر الليل ، والنكرة للتقليل ، ليدل على أن الإسراء كان في جزء من الليل... ولم يستغرق الليل كله...

ومن أين كانت البداية والمنطلق ؟ 

من مسجد إلى مسجد... من حرم إلى حرم...

كما قال شرف الدين البوصيري ، رحمه الله:

فالإسراء : هو السير ليلاً من المسجد الحرام في مكة المكرمة ( أم القرى )... التي تؤمها جميع القرى ... إلى المسجد الأقصى المبارك ، بمدينة القدس الشريف... فك الله أسره... فهو رحلة أرضية... ولماذا إلى هذا المسجد بالذات؟ ليربط ما بين المسجدين برباط وثيق ومتين... فكما يجب الحفاظ والدفاع عن المسجد الحرام... كذلك يجب الحفاظ والدفاع عن المسجد الأقصى...لأنه أولى القبلتين... وثالث الحرمين الشريفين... ومسرى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ... وأرض المحشر والمنشر... وبلد الطائفة المنصورة... وثاني مسجد بني على وجه الأرض... بعد المسجد الحرام بأربعين سنة... ومهد النبوات والحضارات... فمعظم الأنبياء انطلقوا في دعوتهم إلى الله تعالى ، من المسجد الأقصى... ودفن في أرضه ، كثير من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام... وبارك الله فيه وفيما حوله بركات دينية ودنيوية ... فبلاد الشام بلاد مباركة ... وفي الحديث الشريف:

" اللهم بارك لنا في شامنا ، وفي يمننا " ...

لقد جمع الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام في المسجد الأقصى ، ليلة الإسراء والمعراج ، ليصلي بهم إماماً... فهو إمام النبيين والمرسلين وخاتمهم ، وشريعته خاتمة الشرائع السماوية السابقة وناسخة لها... فلا نبي بعده ولا رسول... ولا كتاب بعد القرآن الكريم ... معجزته الكبرى الخالدة... معجزة المعجزات... المعصوم والمحفوظ من كل عيب أو خطأ أو تحريف أو تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان... الذي تكفل الله بحفظه على مر الدهور والعصور... فقال تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )... فهو محفوظ في الصدور والسطور ، وتحدى الله به الإنس والجن... على أن يأتوا بمثله... أو بعشر سور من مثله... أو بسورة من مثله... فعجزوا... وأعلنوا عجزهم واستسلامهم... ومهما حاول أعداء الإسلام ، النيل من هذا الكتاب المقدس ، والدين الحنيف ، ونبي الإسلام العظيم ... فإن الله لهم بالمرصاد... ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ، ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ).

حاولوا أن يتلاعبوا ببعض ألفاظ القرآن... وألفوا قرآناً جديداً... سموه فرقان الحق... أو مثلث التوحيد ...

ونحن نسميه فرقان الباطل... ومثلث الشرك ... هو كقرآن مسيلمة الكذاب... يثير الضحك والاستغراب... 

وقد ألفه دجال كذاب ، ليناقض بزعمه ، كتاب رب الأرباب ، ولكن هيهات هيهات ...

( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ..

لقد كانت معجزة الإسراء والمعراج...تكريماً وتعظيماً وتأييداً وتشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم... فقد جاءت بعد معاناة وسلسلة من الأحزان ، مرت بالنبي صلوات الله وسلامه عليه... فقد مات عمه أبو طالب ، الذي كان يمنع عنه أذى قومه ، وماتت زوجه الطاهرة المصون ، خديجة رضي الله عنها وأرضاها ، التي جاءها السلام من الله تعالى وبشرت ببيت في الجنة من قصب ( لؤلؤ مجوف ) لا نصب فيه ولا تعب ... والتي كانت تواسي وتؤازر وتناصر الحبيب المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام بنفسها ومالها ، وكانت كما قال ابن هشام رحمه الله في سيرته: وزير صدق للإسلام ... 

فكانت معجزة الإسراء والمعراج ، ليذهب الله عنه الحزن ، ويخفف عنه ما لاقاه من أذى قومه ... وليطلعه على العالم العلوي... وليريه من ملكوت السموات والأرض... وكأن الله تعالى يقول له: يا حبيبي يا محمد إذا كان أهل الأرض يعذبونك ولا يستقبلونك ، فإن أبواب السموات تفتح ومن فيهن يستقبلونك ويرحبون بك ... وإذا كان الناس لا يؤمنون بك ، فقد أرسلت إليك نفراً وطائفة من الجن ليؤمنوا بك .

وإذا كان رواد الفضاء يفتخرون بصعودهم إلى القمر والمريخ ... في رحلة فضائية تستغرق مدة طويلة ، فإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ، قد ذهب به إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير ... إلى ما بعد السموات السبع وما فوقهن ... فقد جاب الآفاق ، واخترق السبع الطباق ، في جزء من الليل ، ورأى الأنبياء والملائكة ، والجنة والنار ، وتجلى الله عليه هناك ، حيث لا هناك هناك ... وكلمه بلا واسطة ولا ترجمان ... وفرض عليه وعلى أمته خمس صلوات في اليوم والليلة .

لقد كان الإسراء والمعراج معجزة ، والمعجزة أمر خارق للعادة... يؤيد الله بها أنبياءه ورسله تصديقاً لهم في دعواهم النبوة والرسالة... وكأن الله يقول لنا: { صدق عبدي فيما يبلغ عني}. فالمعجزة هي الفيصل بين النبي والمدعي ... ولولا المعجزات لادعى كثير من الناس النبوة.

وقدم رفيق الرحلة جبريل عليه السلام هدية الإسراء للحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام... وكانت كوباً من اللبن وكوباً من الخمر ... فاختار النبي صلى الله عليه وسلم بفطرته السليمة الصافية النقية... اختار ( اللبن ) ، فقال له جبريل عليه السلام: لقد اخترت الفطرة يا رسول الله.. وهديت الفطرة... وهديت أمتك... ولو اخترت الخمر... لغوت أمتك...فاللبن دليل الفطرة وغذاء للبدن... وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً يقول:" اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيراً منه... أما إذا شرب اللبن ، فيقول:" اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه... واللبن يقوم بخاصية الإرواء والإشباع... والإسلام وازن بين مطالب الروح والجسد... وأعطى كل ذي حق حقه.... فدين الإسلام دين الفطرة والعقل السليم المنصف ، ودين الواقعية والمثالية ، والكمال والشمولية ، والاعتدال والوسطية... ودين التوحيد الخالص .. ودين النظام والنظافة والحرية الحقة ... ودين الرحمة والمحبة والتسامح والسلام ... ودين العدل والمساواة وحقوق الإنسان... فقد شمل بعدله ورحمته وإنسانيته الإنسان و الحيوان والنبات والجماد ... 

وأما المعراج: 

فهو الصعود من المسجد الأقصى إلى السموات العلا ... فهو رحلة سماوية...

وسياحة في عالم الملكوت... رحلة من الصحراء إلى السماء... رحلة التشريف والتكريم ...

إلى أن وصل مقاماً سمع فيه صرير الأقلام...وتأخر عنه رفيق الرحلة جبريل عليه السلام ... فقال له صلى الله عليه وسلم:" أههنا يترك الخليل خليله؟ فقال له جبريل: إنني إذا تقدمت احترقت... أما أنت إذا تقدمت اخترقت...( وما منا إلا له مقام معلوم ).

في الإسراء ... قال الله تعالى: ( لنريه من ءاياتنا ) ، أما في المعراج ، فقد قال الله تعالى: ( لقد رأى من ءايات ربه الكبرى ) ... مما يدل على أنه قد أعد وهيئ لذلك ... حينما غسل جبريل وميكائيل عليهما السلام ، قلبه بماء زمزم ... في طشت من ذهب... لقد تحمل أكثر مما تحمله جبريل وموسى عليهما السلام ... فجبريل تأخر ومحمد تقدم ... ( وخر موسى صعقاً )... ومحمد ثبت ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) و( ما زاغ البصر وما طغى ) ، ولو تجلى الله عليه في الأرض لدكت الأرض دكاً ، كما حصل لجبل الطور ...

وكانت هدية المعراج ... الصلاة... غذاء للروح والعقل والقلب ، فـ " الصلاة صلة العبد بربه "... و الصلاة معراج المؤمن... والصلاة عمود الدين ... وركنه الركين... والصلاة نور... وشفاء ودعاء ومناجاة...

يقول أحمد شوقي رحمه الله:

وقال غيره:

ويقول الشاعر الكبير يوسف عبيد المحيميد المنبجي ، رحمه الله تعالى:

الشعر من خجل تعثر والدمع من يأس تحجر

ماذا أقول بموكب الإسراء من شعر يسطر

مات البيان العبقري به وماتت جن عبقر

وتلعثم الوتر الجريح بلحنه عياً وأقصر

أين الرياض وزهرها وأريجها العبق المعطر

والطير يزجي اللحن من أغلال آسره تحرر

يا نفحة ريا الشذا من شعر عبد الله تنشر

وروائعاً يشدو بها حسان كالأسياف تشهر

وقع السهام بصدر جيش الكفر أو طعنات خنجر

إن خر للأصنام ناحتها ورب العرش يكفر

فلأحمد فوق الطلول إلى رحاب القدس معبر

قم يا محمد فالطباق السبع والدنيا تنور

وبذكر مقدمك الملائك في سماء العز تفخر

والقدس نرجعها ورمس المعتدين بها سيحفر

هل يقبر الإسلام لا بل شانئ الإسلام يقبر

وصدق الله العظيم إذ يقول:

( إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر * )

وصلاة وسلاماً على صاحب الإسراء والمعراج ... سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا محمد ، السراج الوهاج ، القمر المنير ، والهادي البشير ، والرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، وأستاذ الحياة ، ومعلم الناس الخير ، نبي الرحمة والملحمة ، المبعوث رحمة للعالمين ... الذي زكى الله عقله ، فقال تعالى: ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) ، وزكى الله لسانه ومنطقه ، فقال سبحانه: ( وما ينطق عن الهوى ) ، وزكى الله شرعه ، فقال عز وجل: ( إن هو إلا وحي يوحى ) ، وزكى الله علمه ، فقال جلت قدرته: ( علمه شديد القوى ) ، وزكى الله فؤاده، فقال جل وعلا: ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، وزكى الله بصره ، فقال جل جلاله العظيم: ( ما زاغ البصر وما طغى ) ، وزكاه الله كله ، ومدحه بما منحه ، فقال عز من قائل: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

وسوم: العدد 768