إشراقات من سورة الأنعام 16

إشراقات من سورة الأنعام

(عداء الصهاينة والصليبيين للإسلام)

د. فوّاز القاسم / سوريا

(( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم , الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ))

لقد تكرر في القرآن الكريم ذكر معرفة أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - لهذا القرآن ; أو لصحة رساله محمد [ ص ] وتنزيل هذا القرآن عليه من عند الله . . تكرر ذكر هذه الحقيقة سواء في مواجهة أهل الكتاب أنفسهم , عندما كانوا يقفون من النبى [ ص ] ومن هذا الدين وقفة المعارضة والإنكار والحرب والعداء [ وكان هذا غالبا في المدينة ] أو في مواجهة المشركين من العرب ; لتعريفهم أن أهل الكتاب , الذين يعرفون طبيعة الوحي والكتب السماوية , يعرفون هذا القرآن , ويعرفون صدق رسول الله [ ص ] في أنه وحي تلقاه من الله .

إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند الله ; ويعرفون - من ثم - ما فيه من سلطان وقوة ; ومن خير وصلاح ; ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها ; وبالأخلاق التي تنبثق منها ; وبالنظام الذي يقوم عليها .

ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله ; ويعلمون جيدا أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الإسلام  ! . .

إنهم يعرفون ما فيه من حق , ويعرفون ما هم عليه من باطل . . ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها , وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم , لا يمكن أن يهادنها هذا الدين , أو يبقى عليها . . وأنها - من ثم - معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض , ويستعلي هذا الدين , ويكون الدين كله لله . .

أي أن يكون السلطان في الأرض كله لله ; وأن يطارد المعتدون على سلطان الله في الأرض كلها . وبذلك وحده يكون الدين كله لله . .

إن أهل الكتاب يعلمون جيدا هذه الحقيقة في هذا الدين . . ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم . . وهم جيلا بعد جيل يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة ; وينقبون عن أسرار قوته ; وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها ; ويبحثون بجد : كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين ? كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله ? كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه ? كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به ? كيف يحولونه من ثورة دافعة تحطم الباطل والجاهلية وتسترد سلطان الله في الأرض وتطارد المعتدين على هذا السلطان , وتجعل الدين كله لله . . إلى مجرّد تراث ثقافي بارد , وإلى مجرّد بحوث نظرية ميتة , وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ ? كيف يفرغون مفهوماته في اوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه ، مدمرة له , مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة ?!

وفي النهاية ، كيف يملؤون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى , ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من عقيدة المسلمين الباهتة ?!

إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة ; لا لأنهم يبحثون عن الحقيقية - كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين ! - ولا لينصفوا هذا الدين وأهله - كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافا من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين ! - كلا ! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة , لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين ! لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها ! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها ! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها !

وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم !

ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك . . وأن نعرف معه أننا نحن الأولى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا وأباءنا !

إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرنا ينطق بحقيقة واحدة . . هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم). . ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة . . إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع ; بلغة من اللغات الأجنبية . . وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه , ومصادر قوته , ووسائل مقاومته , وطرق إفساد توجيهه ! ومعظمهم - بطبيعة الحال - لا يفصح عن نيته هذه ; فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة ; وأن الحركات العربية والإسلامية التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين - الممثل في الاستعمار - إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية ; وأن استمرار الهجوم على الإسلام - ولو في الصورة الفكرية - سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة لدى المسلمين !

لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث . . يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين , حتى ينوم المشاعر المتوفزة , ويخدر الحماسة المتحفزة , وينال ثقة القارى ء واطمئنانه . .

ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة . . !!!

يقولون مثلاً : هذا الدين نعم عظيم . . ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة "الإنسانية " الحديثة ! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع , وفي أشكال الحكم , وفي قيم الأخلاق ، وفي خروج المرأة وتحرّرها ...!

وينبغي - في النهاية - أن يتمثل في صورة عقيدة باهتة في القلوب , وشعائر باردة في المساجد ، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة "الإنسانية " الحديثة ! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب . . وبذلك يظل دينا عظيماً . . !!!

وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين - وهي ظاهريا تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر - يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب ; لينبههم إلى خطورة هذا الدين , وإلى أسرار قوته ; ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف , ليسددوا ضرباتهم على الهدف . وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم !

ومن جهة أخرى ، فإن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف للمؤمنين الصادقين من أبناء الإسلام ، كلما عاشوا في ظلاله  ، وغاصوا في أعماقه يستخرجون كنوزه ودرره ، وهم يخوضون معركة العقيدة ; ويتدبرون بعلم قصص التاريخ ; ويطالعون بوعي أحداث الحاضر . ويرون بنور الله ، الذي يكشف لهم الحق , وينير لهم الطريق.