فلسفةُ الصيام في عاشوراء

عاشوراء يومٌ من أيام الله، فقد نجّى الله فيه موسى ومن معه من كتائب الحرية والكرامة الإنسانية، وأهلك فيه فرعون ومن معه من ألوية الظلم والعبودية، حيث انشق البحر شقين فسارت في الوسط كتائب الأحرار إلى الساحل الآخر، وعندما دخلت ألوية البغي والظلم بغى عليهم البحر وعاد إلى وضعه السابق جزاءً وفاقاً؛ ليعود الناس أحرارا كما خلقهم الله لا يستعبدهم أحد من خلقه!

▪عندما وجد النبي صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل يصومون في ذلك اليوم؛ تساءل عن السبب فعرف أنهم يحتفون بهذه الطريقة بنجاة أسلافهم المؤمنين من طغيان فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم)، فصام ذلك اليوم ورغّب أصحابه بصيامه، فماذا أراد صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّمنا من خلال الدعوة إلى صيام ذلك اليوم؟

▪لقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّمنا أن معركة الحرية واحدة في أي زمان أو مكان، حيث أن المسلم ينحاز إلى حرية الناس مهما كانوا وأينما حلّوا؛ لأن ذلك جزء من إفراد الله بالعبودية، وحيثما وُجد ظلم وإكراه وفتنة لأي جماعة من البشر فإن المسلم ينبغي أن يكون هناك مُدافعاً ومنافحاً، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}، والفتنة هنا هي الإكراه والقَسْر ومصادرة القناعات، فالإسلام مع حرية الناس واختيارهم وفق مبدئه القرآني العظيم: {لا إكراه في الدين}، وهذا مقصد من مقاصد الجهاد كما ذهب إلى ذلك علماء الفكر السياسي الإسلامي قديما وحديثا.

▪إن من مهام المسلم تحرير الناس من عبودية الأرباب المتجبرين ودعوتهم لعبادة الواحد القهار، ومن ثم فإنه يفرح بكل فكرة أو دعوة تستنقذ الناس من بين براثن العبودية مهما كان أصحابها، ويجب عليه أن يتعاون مع هؤلاء إن وُجدوا وذلك تحت راية الحرية فهي قاسم مشترك كبير؛ لأن استنقاذ الناس من هُوّة العبودية مقصد عظيم من مقاصد الإسلام الخالد، ومن ثم فإنه يستحق التعاون مع كل شريك ما دام التعاون سيصب لصالح قضية الحرية، وينبغي الاحتفال وإظهار الحفاوة بالمحطات والمناسبات ذات الصلة بهذه القضية، فهي مناسبة إنسانية جليلة؛ لأنها تُجسِّد إنسانية الإنسان وتُبيّن مكانة كرامته، ومن المعلوم أن كثيرا من الأدبيات الإسلامية تجعل من الحرية قرينةً للشريعة، بل وذهب بعض علماء المقاصد إلى أن الحرية تسبق الشريعة كما فعل الإمام الطوفي!

▪ ولكن لماذا احتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بمناسبة حرية بني إسرائيل من استعباد الفراعنة، وذلك عن طريق الدعوة إلى الصيام، مع أن هذه المناسبة عيد، والاحتفال بالأعياد يكون في العادة مقترنا بالفرح والمرح، وتكون أيام الاحتفال أيام أكل وشرب وليست أيام صيام وإمساك؟!

▪يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحتفي بالحرية بطريقة عملية بنّاءة، وليس من خلال الانفعال الفرائحي الذي لا يتعدى حدود العاطفة الوقتية والمجردة من أي فعل يخدم جوهر القضية الأساسية، وهي تجفيف منابع الطغيان الكامنة في تكوين الإنسان، فإن المجتمع الحر هو الذي يكون أعضاؤه أحرارا، وما لم ينتصر الإنسان على ذاته فسيظل عبداً يحمل نفسية العبيد ويحمل القابلية لاستعباد غيره له!

▪ لقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتفال عن طريق الصيام، قيام المسلمين بتضييق شرايين الطغيان الذي ينبعث من التكوين الترابي في ذواتهم، وقد وصف الله عموم بني الإنسان بحملهم لاستعدادات الطغيان، فقال تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}، ولا شك أن الصيام الواعي يضعف طغيان الغرائز ويُذكي أشواق الروح، وأنه يقوي تيار القيم ويُعلي من شأن الأخلاق، ذلك أن الجوع يهذب الشهوات ويشذب الغرائز، ويضبط إيقاع المطالب ويُلجم اندفاع النزوات، ويُعلي من شأن الروح ويربي مَلَكات الحرية والكرامة والمسؤولية، ويساعد المرء على التحكم بذاته، ويعين دوافع الخير على التفتُّق والانبثاق من بين ركام التراب وأطباق الطين، وهي الدوافع والأشواق التي ما تزال ترتقي بصاحبها في سماء المسؤولية حتى يبذل نفسه ويسكب دمه من أجل الدفاع عن حريات الناس وحقوقهم، ولهذا كان الذين يرابطون في هذه الثغور من أفضل المجاهدين عند الله، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، والذين يقضون نحبهم في هذا السبيل يشهد الله لهم بالأهلية لدخول الجنة (الشهداء) وما زالوا في الدنيا؛ ذلك أنهم تخلوا عن حياتهم من أجل ديمومة حياة الناس، وهل هناك حياة حقيقية بدون حرية حقيقية؟!

▪وربما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بمضاهاة بني إسرائيل في صيامهم بهذه المناسبة، أن يفتح لنا باباً من أبواب الاقتباس من الآخر ولا سيما في مضمار الحرية وحقوق الإنسان، واليوم وقد تقدم الغرب كثيرا في هذا المضمار، وابتكروا وسائل وآليات ناجحة للمحافظة على حريات الناس وحقوقهم، فما الذي يمنع المسلمين من الاستفادة من هذه الوسائل؟!

▪ونختم هذه المقالة بملاحظة جديرة بالتأمل، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه باقتباس الفكرة بحذافيرها، وهي صيام يوم عاشوراء كما يفعل اليهود تماماً، وإنما أمرهم بإضافة يوم قبل عاشوراء أو بعده؛ حتى يظل التميز الإسلامي بارزا حتى في هذا الميدان، وهذا في شعيرة تعبدية، فكيف يكون الأمر في ميادين الاقتباس الحضاري؟

لابد من تكييف ما يتم اقتباسه بعلم ودراية، بحيث لا يتم إقحامه إقحاماً وإنما يوضع في مكانه المناسب تماما بعد تشذيبه من المؤثرات الثقافية ومن الزوائد التي لا تتناسب مع ثقافتنا وأوضاعنا وظروفنا الخاصة، وبذلك نحافظ على هويتنا الذاتية المميزة ونضمن قيام الشيئ المقتبس بحل مشكلة موجودة، ونمنع تحوله إلى مشكلة إضافية كما يحدث اليوم في مضمار الاقتباس غير المنهجي، والذي تَحوَّل إلى اتباع أعمى وغزو ثقافي يَحول دون تحقق النهوض الحضاري المنشود.

وسوم: العدد 791