دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 12

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

حرب القلّة ضدّ الكثرة (12)

د. فوّاز القاسم / سوريا

إن واحدة من أهم خصائص ديننا الإسلامي الحنيف هي الواقعية الحركية ، فهو حركة تغيير شاملة ذات مراحل مختلفة ، ولكل مرحلة أولويّاتها وخصائصها التي تتناسب مع طبيعة الظرف والواقع الذي يعيشه المسلمون ، ففي المرحلة المكيّة مثلاً  لم يكن مسموحاً للمسلمين بالجهاد في سبيل الله واستخدام العنف الثوري في التغيير، لا لزهد في عملية الجهاد ، بل لأن فقه المرحلة ، وفهم الواقع ، كان يقتضي استخدام وسائل أخرى أنفع للدعوة والدعاة ، مثل : الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، والصبر واحتمال الأذى ، وكفّ الأيدي وعدم المواجهة المسلّحة . قال تعالى في تلك المرحلة :  بسم الله الرحمن الرحيم (( ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة )) النساء (77).

ولكن ، ما إن وطئت أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنوّرة ، وتغير الظرف وتغيّرت المرحلة ، حتى أذن الله له بالجهاد ، فقال تعالى عن تلك المرحلة : بسم الله الرحمن الرحيم

(( أُذِنَ للذين يُقَاتَلونَ بأنهم ظُلموا وإنَّ اللهَ على نصرهم لقدير ، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا ربُّنا الله )) الحج (4).

ونظراً لقلة أعداد المسلمين يومها بالمقارنة مع كثرة أعدائهم كما ذكرنا مراراً ، لذلك فقد لجأ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ستراتيجة مبدعة هي : حرب القلّة المؤمنة ضد الكثرة الكافرة ، والتي تعرف اليوم كما ذكرنا ب( حرب العصابات ) والتي من روحها وجوهرها :

المعنويات العالية التي تستند إلى قضية عادلة مقدّسة ، والكفاءة الفردية التي تعوّض القلّة العددية ، وخصوبة الذهن العسكري ، وسرعة الحركة ، ومرونة الخطّة ، وابتكار تكتيكات عسكرية مبدعة ، والمفاجأة ، والمبادأة ، والتركيز على تحطيم العدو وإرهاقه ، وتوجيه ضربات سريعة ومتلاحقة له ثم التواري ، بدلاً من التشبث في الأرض والدفاع عنها ... وهكذا ...

ولقد اقتدى بهذا الرسول العظيم ( ص ) خلفاؤه من بعده ، فها هو ذا الخليفة ( الصدّيق ) رضوان الله عليه ، يطبّق نفس المباديء التي تعلّمها من حبيبه وقائده ، وذلك عندما يجد نفسه أمام نفس التحدّي الذي واجه صاحبه من قبل إبّان ارتداد المرتدّين ، فيستنفر الأمة للجهاد ، ويحشدها للمعركة ، ويشكّل الفيالق ، ويحرّك الكتائب ، ويضرب بمنتهى الرشاقة والقوّة في أكثر من اتجاه ، حتى يدوّخ الأعداء ويشلّ تفكيرهم ، ويربك خططهم ، ويقول قولته الخالدة التي لا تزال تجلجل في أذن التاريخ : ( والله لو منعوني عَقالاً كانوا يؤدّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لجالدتهم بسيفي هذا حتى تنفرد سالفتي ) .

ويكفي لكي ندلّل على مدى جدّية الصدّيق (رض ) وحزمه وبراعته ، أن نذكّر بأنه كان قد جهّز أحد عشر جيشاً ، عقد لكلّ منها لواءً ، وجعل على كلّ منها قائداً ..

ونذكّر أيضاً بأن واحداً فقط من هذه الجيوش ، وهو جيش خالد بن الوليد ( رض ) ، كان تعداده عشرة آلاف مجاهد ، وهو الذي كان فيما بعد النواة الأولى لفتح العراق كلّه .!!!