حديث عيد .." الدرر المباحة في الحظر والإباحة "

ونشأت في حلب . وحلب في فقهها حنفية - شافعية ملتزمة صارمة . وكنا مجموعة من الشباب المتعلم ، وكانت لنا جلسة نلتقي فيها ، ليس على تدخين ولا على فصفصة بزر أو لعب طرنيب - وإنما نلتقي على قراءة كتاب بل درس كتاب . كنا متقاربين في العلم والثقافة والمعرفة ، ونشعر بالمتعة أن نتهجى المعارف معا . وننتقل كل ثلاثة أشهر إلى كتاب .

وبدا لنا بعد أن أنهينا كتابا في أيدينا أن نزداد فقها في الدين ، وكانت الديار قد خلت أو كادت . والمصابيح التي كنا نأنس بعلمها قد هُجّرت أو هاجرت ، فتفاوضنا فيما بيننا ، وكنا قد سمعنا عن عالم في مصر اسمه يوسف القرضاوي ، وأن له كتابا عنوانه " الحلال والحرام في الإسلام " ، فقررنا أن ندرس كتاب " الحلال والحرام في الإسلام " للشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله ، لعله كان في طبعته الأولى أو الثانية ..

واشتريت الكتاب بثلاث ليرات ونصف . من المكتبة العربية في باب النصر ، لصاحبها من آل التلاليني . وكان أخا ودودا . لا أزال أذكر لون غلاف الكتاب فضي فاتح لماع . فرحنا به . وعقدنا العزم على المضي فيه . رحم الله من توفي من مجموعتنا تلك ، وحفظ الله من بقي . وكان فيها العديد من الشهداء الذين قضوا في تدمر ..ثم لم نلبث إلا أسبوعا ، حتى جاءنا التعليم : لا تقرؤوا كتاب الحلال والحرام للقرضاوي .. فالقرضاوي " رجل متساهل " أو ربما عبارة أشد منها . ومنذ ذلك اليوم ظللت أذكر موضع الكتاب في مكتبتي . وكأنه نشيد الأنشاد في الكتاب المقدس ، وكأنني الرجل دون الثلاثين الذي يحرم عليه مقاربته .

في ذلك العصر كنا شباب طاعة ، ولسنا مثل شباب هذا اليوم كلما قلت له قال !! ولا أدري هذا الذي أصفنا به وصف مدح أو ذم !! وضعت الكتاب في موضعه في المكتبة ولم أعد إليه أبدا ، ولكنني بدأت أبحبش : لماذا ؟! وماذا كان فيه ؟! ودائما ظل الفضول باب الإنسان إلى المعرفة . قالوا : يقول في الموسيقا قولا عظيما ، وكلنا أطلقنا الشهقة : يا لطيف ..!!

ثم جاء التوجيه : إذا أردتم أن تقرؤوا في الحلال والحرام فاقرؤوا : " الدرر المباحة في الحظر والإباحة " للشيباني - النحلاوي . كتاب في الحلال والحرام على الفقه الحنفي المنضبط . . مؤلف الحظر والإباحة خليل الشيباني رحمه الله تعالى من علماء القرن الرابع عشر الهجري ، ومتوفى : 1350 للهجرة . أي أنه كان قريب عهد بعصرنا . وحيّ الله السمع والطاعة ..

وصرنا إلى كتاب الدرر المباحة ، وتعلمنا منه علما نافعا . واستزدنا منه اغترافا ورشفا.

كان من الأحكام الجديدة على مجموعتنا ، والتي أفدناها من الدرر المباحة .. وأكتب هذا ونحن في أيام عيد وأيام أضحى ، وأيام أكل وشرب وبعال وكل ذلك لأهله ، كلٌ بحسبه..

أن أكل أنثيي الكبش في مذهب الأحناف مكروه على التحريم . ..والكراهية التحريمية هو حكم أقرب إلى القول بالحرمة ، امتاز به فقه الأحناف الذين يجعلون مراتب الأحكام بحسب أصولهم : سبع ، وليس خمسا فقط : فيقولون : الفرض - الواجب - المندوب - المباح - المكروه تنزيها - المكروه تحريما - الحرام . فلفظ الواجب عند الحنفي لا يوازي الفرض كما هو عند غيره . ولفظ المكروه تحريما لا يوازي الحرام. قراءة الفاتحة في الصلاة عند الحنفي واجب وليست فرضا. وهي عند الشافعي واجب بمعنى أنها فرض . لو غفل عنها الحنفي جبرها بسجدتي السهو . ولو غفل عنها الشافعي أعاد صلاته . الفرض عند الحنفي من التلاوة أن يقرأ في الركعة ما تيسر له من القرآن . أفصل ليتجلى محل الخلاف بين مصطلحي الفرض والواجب عند الحنفي وغيره . صلاة الوتر آخر الليل عند الحنفي ليست فريضة ولا سنة ، بل هي في منزلة بين المنزلتين اسمها "الواجب "

وكان مما تعلمنا من كتاب الحظر والإباحة أولا أن المقصود بالأنثيين : الخصيتان ، وما كنا في مجموعتنا تلك نعلم هذا من علم اللغة .

وقد كان شائعا في مدينتنا حلب أكل خصاوي الكباش . ويبيعها القصاب الحلبي وثمنها متميز. ويصفها الناس لبعضهم على أنها معينة على البعال . ومع أن فقه القصاب الحلبي حنفي بامتياز ، إلا أن هذا مما تجاوزه القصابون وتساهلوا به . وفي الحقيقة فإن الحكم قد فاجأنا وبقينا نتساءل : كيف ..؟!

هذا لتعلم إن كانت لك أضحية وكنت حنفيا ... وإن أحببت أن تبحث كما بحثنا فقد وجدنا في فقه المذاهب الأخرى ولاسيما المالكية فرجا ومخرجا ، فرج الله عن كل مكروب ومهموم ..

وبقي أن أتساءل : وماذا لو كنا قرأنا كتاب الحلال والحرام للشيخ يوسف القرضاوي في ذلك الزمان ..؟! وكبرنا وعلمنا ..

وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 888