( من يطع الرسول فقد أطاع الله )

من المعلوم أن الله تعالى قد اصطفى من عباده  ملائكة وبشرا رسلا يبلغون عنه رسالاته  إلى خلقه من الثقلين مصداقا لقوله تعالى : ((  الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس )) ، وجعل  الملائكة رسلا يبلغون عنه إلى رسل بشر، وهؤلاء بدورهم يلغون عنه إلى الناس . ولقد كانت رسالات الله عز وجل كلها تتعلق  بقضية واحدة هي توجيه الناس  إلى عبادة و طاعة خالقهم وقد خلقهم لهذا الغرض مصداقا لقوله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ، والعبادة طاعة وهي خضوع  وانقياد لله سبحانه  تعالى على وجه التعظيم  فيما أمر ونهى . ومعلوم أن طاعة الله عز وجل لا تتأتى إلا من خلال طاعة المرسلين وبأمر وإذن منه  مصداقا لقوله تعالى : (( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله )) . وبيان كيفية حصول طاعة الله عز وجل من خلال طاعة المرسلين هو أنه سبحانه وتعالى حين يوحي إليهم يأمرهم  أولا بطاعته والانقياد له عن طريق أوامر ونواه  معلومة ، وتكون طاعتهم له على الوجه الأكمل لما أودع فيهم سبحانه وتعالى من كمال لا يتأتى لغيرهم من الخلق ، ولما تولاهم به من عصمة تعصمهم مما لا يعصم منه الخلق من تقصير في طاعته والانقياد له فيما أمر ونهى . ولقد جعلهم الله تعالى إسوة لمن أرسلوا إليهم ، والتأسي بهم إنما  يكون بمتابعتهم في طاعتهم لله تعالى . ومع أن الخلق في التأسي لا يمكنهم بلوغ درجة طاعة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين  فإنه يقربهم من شيء من ذلك كل حسب ما قدر الله عز وجل له مما أودع فيه من قدرة . ومعلوم منطقا وعقلا  أن من يكون إسوة لا بد أن يبلغ درجة الكمال وإلا لا يمكن التأسي به وهو يشوبه نقص أويفتقر إلى كمال . ولو كان فيمن يتأسى به نقص أو عيب فإن  التأسي يصبح لا معنى له ، ولا يستقيم .

و معلوم أن الله عز وجل قد ختم الرسالات بالرسالة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن بدعا من الرسل مصداقا لقول الله تعالى : ((  قل ما كنت بدعا من الرسل )) ولم يكن يختلف عنهم إلا  بإرساله للناس كافة مصداقا لقوله تعالى : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا )) بينما كان من سبقوه من المرسلين يرسلون إلى أقوامهم فقط . وعدم بدعية الرسول صلى الله عليه وسلم تقتضي أن ينسحب عليه ما ينسحب على من سبقوه من المرسلين ، ومن ذلك لزوم الاقتداء والتأسي به في طاعة الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى مخاطبا كل الناس : (( لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة ))  لتتحقق بذلك طاعة الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى .

ومعلوم أيضا أن الله تعالى لمّا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين ومبعوثا للناس أجمعين هيأه وأعده لتبليغ الرسالة العالمية  عن طريق التخلق بخلقها الشيء الذي جعله على خلق عظيم مصداقا لقوله تعالى : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) أي  عابدا ومطيعا ومنقادا لله تعالى على الوجه الأكمل لتكون إسوة بهذا الخلق العظيم  للناس جميعا حتى تقوم الساعة . وكمال وعظمة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظمة وكمال رسالته مصداقا لقوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم  وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ))  أي أكملت  لكم  دينكم الإسلام بالتأسي بمن أرسلته إليكم وجعلته على خلق عظيم بالرسالة التي أرسلته بها إليكم، وهي أكبر نعمة أنعمت بها عليكم ورضيتها لكم  .

ولما جعل الله تعالى رسوله إسوة يتأسى به الناس جميعا لتتحقق بذلك عبادتهم وطاعتهم له ، فقد جعل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من طاعته  سبحانه وتعالى فقال : (( من يطع الرسول فقد أطاع الله ))  ،وهو ما يؤكد أن رسوله صلى الله عليه وسلم قد أتى الطاعة  على أتم وأكمل وجه ،وحاز بذلك درجة التخلق بالخلق العظيم .

ومعلوم أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي في حقيقة الأمر طاعة لله تعالى تقتضي التزامات، ذلك أن من يدخل في دين الإسلام يكون شأنه شأن من يدخل بيتا فيلزمه أن تكون أحواله فيه داخله  حسب ما في هذا البيت من مرافق وما تقتضيه من تصرفات بحيث يطبخ طعامه في مطبخ ، وينام فوق سرير في غرفة نوم ، ويستحم في حمام ... إلى غير ذلك مما أعدت له تلك المرافق . ولو أن إنسانا أراد الاستحمام في المطبخ أو النوم في الحمام  لما تيسر له ذلك وعد فعله مخالفا مقتضيات المرفقين  ،ولهذا ما يلزم من يعلن إسلامه كشأن الداخل  إلى بيت إذ عليه أن يعرف الغاية من دخوله الإسلام  وهي  عبادة وطاعة الله عز وجل أمرا ونهيا ، و التي لا يمكن أن تتأتى دون طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تأسيا واقتداء به ، وهو الذي لقنه ربه سبحانه وتعالى الكيفية المثلى لعبادنته وطاعته  على الوجه الأكمل . ولا يمكن بلوغ ذلك إلا بمعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جيدة محيطة بأحواله  وشمائله  أخلاقا وطباعا وخصالا وأقولا وأفعالا  ،و ذلك تخصيص وقت معلوم لتلك المعرفة  ، وهو ما حذا بأهل العلم والصلاح  بسن سنة استغلال حلول ذكرى مولده الشريف  لاتخاذه  فرصة لتحقيق هذا الغرض الذي هو التزام بأمر الله عز وجل  بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تأسيا ومتابعة ، و التي هي من طاعته سبحانه .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو أن بعض المنتسبين إلى الإسلام ينكرون الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم  ويبدّعون  ويؤثمون من يفعل ذلك ، مع أن الاحتفال إنما هو اهتمام وانشغال . وما مناسبة إحياء ذكرى المولد الشريف سوى فرصة ثمينة  تقتنص لتجديد الصلة بالشمائل المحمدية التي تفضي بمن يهتم بها إلى معرفة الخلق العظيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي  معرفة بالكيفية التي تحصل بها طاعة الله عز وجل اقتداء وتأسيا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يمكن أن تحصل بكيفية أخرى.

والذين ينكرون الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام بذريعة أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يأمر به  واهمون فيما يزعمون ،لأن آفاق الفهم عندهم جد ضيقة ذلك لأنهم يقيسون الاحتفال بمولد سيد الخلق عليه الصلاة والسلام  على ما  يحتفل به من مناسبات مرتبطة بأحوال عموم الناس والتي ليس فيها ما يدعو إلى الاحتفال بها  بنما الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مولد متميز لرسول كريم على خلق عظيم بشهادة رب العالمين ، وهو  أعظم حدث على الإطلاق في تاريخ البشرية قاطبة لأنه يترتب عنه معرفة  ما يجب أن يعرف حق المعرفة  ضرورة بغرض الوصول إلى ما أراده الله تعالى من وراء خلقه وإرساله  إلى الناس جميعا.

 وعجبا لبعض الناس يحرصون أشد الحرص على معرفة من يعلمهم شيئا من أمور دنياهم يريدون إتقانه وقد يبلغ بهم الأمر لتحقبق هذا الغرض حد تكلف التأسي بعض صفاته أو أحواله التي قد لا تفيدهم شيئا فيما يريدون، و لكنهم  مع الأسف حين يتعلق الأمر بمن أمروا شرعا بالتأسي به لتحصل لهم طاعة خالقهم ينكرون على من  يدلهم  على اغتنام فرصة حلول مناسبة مولده الاحتفال بها وهي وسيلتهم إلى التعرف على شمائله  معرفة من مقتضيات التأسي به .

وقد يخيل إلى كثير من الناس أنهم على معرفة جيدة برسول الله صلى الله عليه وسلم ،والحقيقة أن شأنهم كشأن من يغمس أصبعه في بحر لسبره، فلا يصيب منه إلا يبلها وما هو بسابره .

 وكرد على الذين ينكرون الاحتفال بمولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم احتفالا يكون باستعراض شمائله  بذريعة أنه لم يفعل ذلك ولم يوص به، نقول لهم إن الله عز وجل قد أمركم بذلك حين جعله لكم إسوة حسنة ، ولا يمكنكم ذلك إلا بمعرفته من مولده إلى نشأته إلى  بعثته إلى موته صلى الله عليه وسلم . كما نقول لهم إنكم تفعلون ذلك مع غيره ممن يعظمون في أعينكم من زعماء وعلماء وقادة وساسة ، فتبحثون في ظروف مولدهم ونشأتهم وأحوالهم ... إلى غير ذلك ولكنكم حين يتعلق الأمر بمولد من جعله الله عز وجل إسوة لكم وفي ذلك خلاصكم في آجلكم ،تجعلون مولده  كمولد  عامة الناس ، وترونه حدثا لا يستحق أن يحتفل به ، فعجبا لكم كيف تذهبون .

ولقد كان أهل العلم الورع والصلاح يجعلون شهر ربيع الأول كله مناسبة لاستعراض حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لينهلوا من معينها ما يبلغهم الغاية من خلقهم ووجودهم وهي طاعته التي هي من طاعة الله عز وجل . وكيف تستكثرون ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قليل في حقه لا يفي بما يجب لقدره العظيم .

وقد تجد من هؤلاء من يقولون بألسنتهم  يجب أن يكون رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم حاضرا معنا  كل حين في وجداننا كل وليس في مناسبة مولده فقط ، وحقيقة أمرهم  أنه  عمليا لا حضور له في حياتهم اليومية عندهم  حين يعرض لهم من الأحوال ما يستدعي حضوره  والتأسي به كما أمر الله عز وجل ، وهم بذلك يقولون ما لا يفعلون ، ومع ذلك يعيبون على ما يحيون ذكرى مولده الشريف رغبة في الوصول إلى التأسي به عن طريق معرفته أولا حق المعرفة. ولو طلب منهم وصفه خلقا وخلقا لما جاءوا بطائل .

ولا شك أن من ينشغل  ويهتم برسول الله صلى الله عليه وسلم عند حلول مناسبة مولده الشريف أقرب إلى التأسي به وأحرى بذلك  ممن تمر به هذه المناسبة دون أن تخطر له على بال .

وبقي أن ننبه الذين يسيئون إلى شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم ممن حرموا نعمة الإسلام من العالمين  أو من يقرونهم على ذلك أو يسكتون عليه أنهم مطالبون  جميعا من الخالق سبحانه وتعال بطاعته ، وأنهم سيسألون عن ذلك ، وسيحاسبون عليه ، فكيف بهم إذا سئلوا عمن أرسل إليهم قالوا إنا كنا به من الساخرين  . وإذا ما كانت طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعة الله عز وجل ، فإن الإساءة إليه عليه الصلاة والسلام إساءة إلى الله تعالىعما يصفون .

وبقي أيضا أن نقول للذين هبوا لنصرته أنهم مهما فعلوا لن يوفوه حقه من النصرة إلا إذا اتخذوه إسوة حسنة ، أما النصرة دون تأس واقتداء به  فمحض عبث  بل قد يكون بعض ما يظن نصرة  له يغذي إساءة المسيئين إليه.  

 اللهم وفقنا لنصرة رسولك صلى الله عليه وسلم نصرة ترضيك وترضيه  . اللهم  سهل لنا وعلينا سبل الاقتداء والتأسي  به على الوجه الذي يرضيك ويرضيه. اللهم اجعل حبه يزيد في قلوبنا ولا ينقص ولا يفتر ولا يغيب أبدا . اللهم إنا نعوذ بك من مودة ومولاة من يبغضه  ويسخر منه ، واجعلنا اللهم نحب من يخلص في  حبك وحبه ، ونكره ونبغض من لا يحبك ولا يحبه أو يبغضك ويبغضه .

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى العترة الطيبة من آل بيته ،والنخبة الخيرة من صحبه ، والفرقة الناجية من تبيعه ، وعلينا معهم فضلا ونعمة منك يا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات . 

وسوم: العدد 902