( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )

من المعلوم أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه ، ولذلك يرتبط بغيره من بني جلدته بعلاقات مختلفة تفرضها عليه ظروفه وما تتطلبه حياته . ومن ضمن تلك العلاقات علاقة الخلّة وهي علاقة تكون بين اثنين أو أكثر قوامها الصحبة التي يطبعها التلازم ، وقيل إنها من التخلل وهو الامتزاج ، ذلك أن الخل أو الخليل يكون كالمتخلل لصاحبه أو الممتزج به ، وقيل هي صداقة محبتها تتخلل القلب ، فتصير خلاله أي في باطنه .

وكما تكون الخلة في خير تكون  أيضا في شر . ويحصل بسبب الخلة تأثر الأخلاء بعضهم ببعض سواء في خير أو في شر يجمعهم . ولقد ورد في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "  المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وفي هذا الحديث تحفيز وتحذير في نفس الوقت ، تحفيز على الخلة الصالحة ، وتحذير من الخلة الفاسدة . وقد مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلتين معا في حديثه الذي يقول فيه : "  إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك  إما أن يحذيك ، وإما إن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحا منتنة " .  وفي هذا الحديث أيضا تحفيز على الخلة الصالحة التي تثمر فائدة  ونفعا ومصلحة  ، وتحذير من الخلة الفاسدة  التي تفضي إلى ضرر ومفسدة .

وبموجب هذا الحديث الشريف الأخلاء في هذه الحياة الدنيا صنفان أخلاء  تجمع بينهم خلة صلاح  تستمر في الآخرة، وأخلاء تجمع بينهم خلة فساد تنقطع في الآخرة بل تتحول إلى عداوة كما جاء في قول الله تعالى : (( هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )) ، ففي هذه الآية الكريمة بيان لما يكون عليه الأخلاء في الآخرة مباشرة حين تقوم القيامة حيث تتحول من كانت تجمعهم خلة الفساد إلى أعداء يتبرأ بعضهم من بعض، بينما تستمر خلة الصلاح بين من كانت تجمعهم .

ولما كان الأخلاء يتأثر بعضهم ببعض ، فإن الصالح منهم ينتقل صلاحه إلى خليله عن طريق التأثر والاقتداء ، كما أن الفاسد منهم ينقل فساده إلى خليله عن طريق التأثر والتقليد . وشتان بين الاقتداء الذي يكون عن  علم  وعي وروية وبعد نظر ، والتقليد الذي يكون عن جهل وغفلة  وعمى بصر وبصيرة .

 ولقد وصف الله عز وجل ما سيكون عليه حال أخلاء السوء  يوم القيامة  وقد قلّد وتابع اللاحق منهم السابق وذلك في قوله سبحانه وتعالى : ((  ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذي ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا  لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعماله حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار )) .  ففي هذا النص القرآني إشارة إلى تحول خلتهم في الحياة الدنيا إلى عداوة يوم القيامة حيث يتبرأ من أفسد أخلاءه بفساده منهم ويتنكر لهم ، بينما يتمنون هم لو يعطوا كرة أو عودة إلى الحياة الدنيا ليردوا على براءته منهم بمثلها، وهو ما لا يمكن حصوله ،فيتحسرون حينئذ على ذلك وهم شركاء معه  في العذاب  المهين . ويصور القرآن الكريم حوار هؤلاء فيما بينهم يوم القيامة وذلك في قوله تعالى : (( قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد  قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد )) ، هكذا يتبرأ خليل السوء من خليله ،ويحمله مسؤولية طغيانه الذي تلقاه عنه ، ولا يقبل الله عز وجل لهما خصومة بين يديه، ولا يعذران وقد قدم إليهم بالوعيد وهم في الحياة الدنيا .

الداعي إلى حديث هذه الجمعة هو التنبيه من الخلة الفاسدة التي يذهب ضحيتها كثير من الناس في زماننا هذا إما عن جهل منهم أو عن عناد حيث يظهر في المجتمع مفسدون يعيثون فيه فسادا بما يقولون أو بما يكتبون وينشرون من أفكار تكون عبارة عن سموم قاتلة  تفتك  بضحايا يعجبون بهم ، ويقلدونهم فيما يقولون وفيما يفعلون ،فيضلونهم عن سواء السبيل، ويتخذونهم أخلاء في حياتهم و حتى بعد مماتهم . ومن هؤلاء المفسدين من يفسدون القيم والأخلاق الإسلامية  السامية عن طريق استبدالها برذائل من صنع أهوائهم تستهوي الفاسدين أمثالهم أو الأغرار، فيصبحون في نظرهم أبطالا ومشاهير ينعتون بشتى النعوت البراقة من قبيل الخبراء ،والعلماء، والحقوقيون  ... وهلم جرا، ولا شيء من ذلك يصدق عليهم  بل هو مجرد نفخ فيهم ، وهم  في حقيقة أمرهم يضمرون  للإسلام العداء والحقد الأسود الذي يستشف مما يقولون أوما يكتبون . وقد صار منهم من يجاهر بذلك ولا يخفيه كما يفعل البعض الآخر . ومن هؤلاء المفسدين من يلقى ربه  بأوزار من الفساد والإفساد بأقوال قالها وقد سجلت عليه ، وبمقالات أو مؤلفات نشرها دون أن يعلن توبته وقد تقدمت به السن منذرة بقرب أجله ، ودون أن يتحلل ويتبرأ من فساده وإفساده  بالاعتذار والندم على ما قال وبسحب ما نشر ، وهو يعلم أنه سيحمل أوزار ذلك وأوزار من قلّده فيه ، لأن فساده  كان ينتشر كالعدوى بينهم  . والمؤكد أن هؤلاء المفسدين في كل عصر ومصر لا يختلف حالهم عن حال فرعون وهو من رموز الفساد في الأرض كما وصفه الله تعالى في محكم التنزيل حيث امتنع عن الرجوع عن فساده إلى أن جاءت لحظة موته ،فاضطر إلى توبة  فات أوانها بحلول الغرغرة، وقد قال الله تعالى حكاية عنه : ((  حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل  وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ))  . ومع أن جسد فرعون لا زال الناس يرونه بأعينهم محنطا ويتفرجون عليه ، فإن المفسدين منهم لا يتعظون  برؤيته ، ولا يبادرون بالتوبة والإقلاع عن فسادهم قبل حلول اللحظة التي لا تقبل منهم توبة، علما بأنهم جميعا سيرددون ما تلفظ به فرعون وهو يغرق كل بطريقته وأسلوبه وقولهم واحد .

وتعقيب الله عز وجل بقوله : (( وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون )) إشارة إلى الذين يتمادون في متابعة المفسدين في فسادهم وإفسادهم ، ويمدحونهم وهم أحياء ، ويستمرون في الثناء عليهم بعد هلاكهم دون أن يخطر على بالهم أنهم قد رددوا وهم يحتضرون ما قاله رمز الفساد والإفساد فرعون اللعين ، وأنهم هم أيضا سيرددون مقولته إن هم لم يبادروا بالتوبة قبل حلول لحظة الغرغرة .

ومن الغفلة أن يسجل البعض على أنفسهم شهادات تزكية المفسدين بعد هلاكهم وهي شهادات سيسألون عنها كما جاء في قول الله تعالى : (( ستكتب شهادتهم ويسألون )) .

ولمّا كان  العذر لا يقبل في الجهل بقانون وضعي  كما يقال ، فإنه لا  يقبل في الجهل بشرع الله عز وجل أيضا خصوصا المعلوم منه بالضرورة ، فإن منطق ((كذلك وجدنا آباءنا يفعلون)) لا يغني أخلاء السوء شيئا ولا هم  يعذرون بل هم شركاء في السوء أولهم وآخرهم .

ومعلوم أن خلة السوء لا تستهوي إلا من كان فيه استعداد لها  ، وقديما قالت العرب : " إن الطيور على أشكالها تقع " ،وهو مثل يضرب للتشابه بين الناس في طباعهم، وذلك ما يجعل بعضهم يخالل بعضا تماما كما تميل الطيور إلى ما يشاكلها حيث تميل الكواسر منها إلى بعضها بينما تميل الوديعات منها إلى مثلها.

اللهم إنا نسألك رحمة بنا ولطفا خفيا منك أن تجعل لنا أخلاء من عبادك الصالحين وتجعلنا منهم ، ونعود بك من كل خلة سوء ، ونعوذ بك من أن نزكي عليك أخلاء السوء أحياء وأمواتا، فإليك  سبحانك مرجعهم  جميعا وأنت أعلم بهم إن شئت غفرت لهم يا واسع المغفرة ، وإن تحاسبهم على إساءتهم ،فإنهم عبادك عدل فيهم قضاؤك وقد قدمت إليهم بالوعيد .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 921