مسامرات الدعاة (1)

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

- عندما تسدل يد القدر سجف الليل، وتكسو الكون لباس السَكن، وتطلب جميع المخلوقات الهدوء والاستجمام .

فإن الدعاة العائدين من ميادين العمل الدعوي، يتحنثون في محراب العلم، ينتصبون أمام مكتب يسامرون حاسوباً إلى جواره هاتف يختصر المسافات، وسط رفوف وقفت فيها قرائح علماء الأمة رهن الإشارة، لأي إضاءة  تنير الطريق .

وفترة ما بُعيد العشاء تحديداً، يأرز الدعاة إلى بعضهم، إما لشجون أو لشؤون،  ولعلهم يتأسون بالإمام الفقيه المفتي، محمد بن سلمة الحراني، وكان كثير السهر؛ فقد روي عنه، أنه يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزء للنوم، وجزء للدرس، وجزء للصلاة، فسأل عن سر السهر، فأجاب: كيف أنام وقد نامت عيون المسلمين تعويلاً علينا؛ وهم يقولون" إذا وقع أمر رفعناه إليه فيكشفه لنا " . كما ورد في سير أعلام النبلاء للذهبي، عند ترجمة محمد بن سلمة الحراني .

ذات ليلة أرسل إلي، أخي الشيخ محمد بلمختار الوهراني، برسالة قصيرة؛ قال فيها:

"" حبذا لو قرأت في الموطأ، كتاب صلاة الليل، باب الرخصة في الصلاة  في ثوب واحد،  من حديث جابر رضي الله عنه" " .

اطلعت على الحديث الذي نصه :

[ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

 من لم يجد ثوبين، فليصلي في ثوب واحد ملتحفاً به، فإن كان الثوب قصيراً فليتزر به ] .

قلبت الطرف في النص المذكور مراراً،  ولمعرفتي الوثيقة بالشيخ محمد، وهو سلفي وسلف بعض دعاة مرسيليا، بالتلمذة على يدي شيخنا العلامة المقاصدي الدكتور الأخضر الأخضري- حفظه الله وأمتع به- أدركت ثمة ظلال لطلبه المهذب .

 وتوالت رسائل المحمول، فكانت أولى الرسائل من شيخ قراء مرسيليا، ومنحة علماء بركان و وجدة في المغرب، ومشايخ كلية شاتي شينون في فرنسا، للعمل الدعوي الأصيل في مرسيليا، كتب فيها :

" " ربما قصد الشيخ محمد بلمختار، كلمة فليصلي، ولماذا لم تحذف الياء ؟.

فإن كان هذا بيت القصيد، فأقول وبالله التوفيق :

أولاً : هي لغة من لغات العرب، وأقصد إبقاء حرف العلة في الفعل المضارع حتى مع دخول الجازم عليه ، ونقل الإمام السيوطي في كتابه؛ الأشباه والنظائر في النحو؛ عن ابن النحاس قوله : " الجازم في الأفعال نظير الجار في الأسماء، وأضعف منه لأن عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء" 2/116 .

ثانياً : أنها ليست ياء كسر، بل ياء إشباع  " " ، كما ذكر ابن يعيش في المفصل 10/106، واستشهد بقول رؤبة بن العجاج :

     - إذا العجوز غضبت فطلقِ    =   ولا ترضّاها ولا تملق

وذكر الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان، عند تفسير سورة القيامة، شاهداً أخر:

   - وتضحك مني شيخة عبشمية   =   كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً

والشاهد لم يحذف ألف ترضاها، ولا الألف في ترى .

أما شيخنا الأخضري، فقال :

" " سأجيب مقاصدياً، فدل الحديث أن لبس الثوبين مستحب، وليس بواجب، لأن الجزم من علامات الواجب، وهنا الجزم لم يقع " " .

وبين مرسيليا وباريس ارتباط، ليس جغرافياً فحسب، بل دعوي أيضاً، ، فالشيخ الداعية عمر دورمان ، عضو مجلس الإفتاء في فرنسا– حفظه الله-  ممن لهم وشائج دعوية مع دعاة مرسيليا،  وممن تتشرف به حلق العلم فيها؛ بين فينة وأخرى، فأدلى بدلوٍ ملؤه الطيب، فعادة المفتون تلمس المناط، بأسهل الطرق، فأبرق عبر الهاتف :

" " تذكرت أن هذه المسألة وردت علي من قبل، فكما تعلمون ألقى على طلبة معهد العلوم الشرعية في باريس محاضرات من كتاب الموطأ، فعدت إلى جذاذات كنت أعدها للتحضير ، فوجدت أن الإمام الزرقاني، وهو من  شراح الموطأ، تكلم في هذه المسألة ( فليصلي : بإثبات الياء للإشباع كقوله تعالى في سورة الزمر الآية 24....

(( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون )) 1/431.

وأما العبد الفقير إلى الله، فقام بجمع كل ما تفضل به السادة الدعاة، وهذه عادة درجت عليها، مذ أن منّ عليّ المولى بصحبة العلماء، فما يقولون أو يخطون عندي نفيس؛ ويغني عن التنقيب في المراجع، وعدتُ أحاول التأصيل، فما وجدت إضافة لأقوالهم،  وأخذ عقلي يطرح ما كتبه الأفاضل، على شخص الشيخ محمد بلمختار تخيلاً، فكتبت لأخواني الدعاة الأتي:

" " ما تفضلتم به هو ما في بطن الكتب، واسمحوا لي، بقراءة مختلفة، مبناها على وضعنا نحن الدعاة :

- ربما قصد الشيخ محمد أن كتاب الموطأ للإمام مالك، ولقد عاش في خير القرون، ويأخذ بعمل أهل المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، أن تبويب الإمام مالك لهذا الحديث مدعاة للإعجاب ، فالحديث ذكر في كتاب صلاة الليل، وقد كانت فرض عين، كما تعلمون في العهد المكي، وأراد بالإماءة للموطأ، أنها استمرت- صلاة التهجد-  ديدن المؤمنين في المدينة وغيرها، وستر العورة من شروط صحة الصلاة للقادر؛ وثمة من يقول: سترها فرض، لكن الذي استوقفني حقاً، باب الرخصة بثوب واحد، وذكر الإمام مالك لها في هذا الباب، فلعل ثمة أسئلة من مسلمين فقراء آنذاك، يضطرون لغسيل ثيابهم ليلاً، فلا يبقى سوى ثوب واحد، وهم حريصون على قيام الليل، لذلك ساقه الإمام مالك في باب صلاة التهجد والله أعلم.

والرسالة الخفية من الشيخ محمد بلمختار، أن يا إخواني الدعا ة، لا تنسوا قيام الليل، فحال السلف  كما ترون .

لمعت لي فكرة تدوين كل ذلك، ولما عرضته على الشيخ محمد بلمختار، ضحك بملء فيه، وقال: جعلتني كالمتنبي عندما قال :

- أنام ملء جفوني عن شواردها         ويسهر الخلق جراها ويختصم