( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )

اقتضت إرادة الله عز وجل أن تكون بداية الجنس البشري نتيجة علاقة زواج بين ذكر وأنثى هما آدم وحواء عليهما السلام .ولقد تجلت قدرة الله سبحانه وتعالى بعد خلقهما  في بث  خلق كثير منهما رجالا ونساء  مصداقا لقوله تعالى : (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء )) ، وهو بث نشأت عنه علاقات أهمها علاقة الرحم المترتبة عن علاقة الزواج التي عنها نشأت باقي العلاقات من أبوة وأمومة وبنوة وأخوة  وعمومة وخؤولة وما يتفرع عنها . ولقد جعل الله تعالى هذه العلاقات تتسع دائرتها ليصيح الجنس البشري شعوبا وقبائل بجعل منه جل وعلا مصداقا لقوله تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا )) .

ولمّا كانت الغاية من خلق الله تعالى الجنس البشري هي ابتلاؤه في الحياة الدنيا بعبادته وطاعته ليجازى عن ذلك في الآخرة ، فإنه جعل له علاقة أخوة أساسها الدين الذي تعبّده به ، وقد نزلها سبحانه وتعالى منزلة  فوق منزلة أخوة الرحم ،لأن هذه الأخير لا اعتبار لها عنده جل جلاله إن لم تقترن بها أخوة في دينه  ، وبناء على هذا تعتبرهذه الأخيرة هي الأخوة المعتبرة عنده ، ودونها تسقط علاقات الرحم  وتتعطل مصداقا لقوله تعالى : ((  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون )) .

ولقد أكد الله تعالى على  أن الأخوة في الدين هي الأخوة المعتبرة عنده  بقوله جل وعلا : (( إنما المؤمنون إخوة ))  بصيغة القصر التي تفيد حصر حال المؤمنين في حال الأخوة  دون غيرها ، وبتشبيه بليغ دون ذكر أداة التشبيه التي قد يفهم منها أنها أخوة تحاكي أخوة الرحم فقط  ولا تبلغ درجتها  ولا تفوقها . وقد جاء في كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني  رحمه الله تعالى أن " إنما " تأتي في اللسان العربي لخبر معلوم لا يجهله السامع، ولا ينكر صحته ، وفي ذلك تأكيد على وجوب الأخوة في الدين ولزومها  وهي أمر معلوم ومقرر . ويؤكد ذلك تكرار ذكرها في نفس الآية الكريمة بقوله تعالى : (( فأصلحوا بين أخويكم )) ، وقد تقرر ذلك في آيات أخرى منها قوله تعالى على لسان عباده المؤمنين : (( يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان )) ،الشيء الذي يدل على أن هؤلاء يقرون بهذه الأخوة التي جعلها الله تعالى بينهم ، ويعرفون قدرها وحقها . وتؤكد ذلك أيضا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي منها قوله عليه الصلاة والسلام : " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدابروا ، ولا يبيع أحدكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا يشير إلى صدره ثلاث مرات ،  بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه "، وقوله في حديث آخر : "  المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربة ،فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" ،وواضح من هذين الحديثين الشريفين نعت رسوله صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالإخوة كما أراد  الله عز وجل .

والجدير بالذكر أن قول الله تعالى : (( إنما المؤمنون إخوة )) ورد في سياق الأمر بالإصلاح بين طائفتين منهم يقع بغي إحداهما على الأخرى ، وهو صلح تقع مسؤولية الاضطلاع به على الأمة الإسلامية  فرضا وكفاية بحيث تقاتل الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله كما جاء في الذكر الحكيم في قوله تعالى : (( وإن طائفتان من المؤمنين  اقتتلوا  فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين )) . وواضح من هذه الآية الكريمة أن الاقتتال وارد بين طائفتين من المؤمنين ، وهو اقتتال لا يخرجهما من دائرة الانتماء إلى حظيرة الإيمان ، وأن الأمة من الواجب عليها أن تبادر أولا بإصلاح ذات بينهما إصلاحا يمنع الاقتتال أو يوقفه ثم تقاتل بعد ذلك  الطائفة الباغية حتى تقلع عن بغيها ثم يأتي الإصلاح بينهما مرة أخرى، ويكون عدلا وقسطا لا حيف فيه ولا ظلم . وواضح أن العلة في الإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين هو علاقة الأخوة في الدين الرابطة بينهما ، وهي كما مر بنا علاقة تقر بها الأمة المسلمة ولا تنكرها استجابة لأمر ربها سبحانه وتعالى .

ولقد حدد الله تعالى في محكم التنزيل الحقوق والواجبات التي تقتضيها علاقة الأخوة في الدين ، كما حدد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة ، وهي حقوق وواجبات متلازمة من ضمنها عدم التحاسد أو التباغض أو التناجش أو التدابر أو الظلم أو الخذلان أو الاحتقار أو التسليم ... وهذه المنهيات في حد ذاتها حقوق وواجبات يتبادلها المسلمون بينهم  بموجب الأخوة الدينية الرابطة .

مناسبة حديث هذه الجمعة  سببه  ما يلاحظ على الأمة الإسلامية في هذا الزمان من تفريطها  في الأخوة التي أمر بها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الأمر حد الاقتتال بين الإخوة وسفك بعضهم دم بعض ، فضلا عن أنواع من  البغي ، والتحاسد، والتباغض، والتناجش، والتدابر، والخذلان، والاحتقار ... إلى غير ذلك من السلوكات التي تنقض  عروة الأخوة بينهم . ولا يوجد اليوم  بلد يدين أهله  بدين الإسلام إلا وله عداوة مع غيره ممن يدين بدينه  ، ولا ترعى آصرة الأخوة التي أمر بها الله عز وجل  عباده المؤمنين .

وفي الوقت التي نجد طوائف داخل الأمة الإسلامية يبغي بعضها على بعض ، لا نجد فيها من يضطلع بمسؤولية الإصلاح بينها كما أمر الله عز وجل لمنع الباغية منها عن بغيها وهو ما أغرى بالأمة  المسلمة أعداءها الذين استغلوا شيوع البغي بين طوائفها إما لأسباب عرقية أو مذهبية أو سياسية ... ، فجعلوها شيعا يعادون من شاءوا منها  وينفردون به  انفراد الوحوش بالصيد ، ويسالمون من شاءوا ،كل ذلك  في الظاهر وهم في الباطن  إنما يستهدفون بيضة الأمة ولمّا ينسوا ما كان بينها وبينهم عبرعصور من صراع سببه ظهور دين الإسلام على الدين كله.

وما زالت الأمة الإسلامية لم تفق  بعد من سباتها  الذي طال كثيرا ، وتنتبه إلى ما يحاك ضدها ليل نهار من طرف أمم تتربص بها الدوائر  ليدوم  البغي بكل أنواعه بينها أطول مدة ممكنة لمنع العودة  إلى رشدها بالعودة إلى تعاليم كتاب ربها عز وجل وتعاليم رسولها صلى الله علية وسلم ، و التي بها تصون أخوتها الواجب صونها في شرع الله سبحانه وتعالى . وإن من البغي بين طوائف هذه الأمة ما طال قرونا دون أن تهدي إلى ما أمر به خالقها جل وعلا من إصلاح  لذات البين مما تقتضيه واجبات وحقوق الأخوة الإسلامية. 

وعلى ولاة أمور هذه الأمة ساسة راشدين  وعلماء ربانيين  أن يجلسوا سويا، ويعملوا سويا بما أمر به الله عز وجل من إصلاح بين كل طائفتين من المؤمنين يكون بينهما خلاف أو قتال إصلاحا قوامه العدل والقسط اللذين يزيلان أسباب كل خلاف أوقتال .

وعلى هؤلاء أن يبدءوا بإصلاح ذات بينهم أولا وقد وصفهم الله تعالى بأولي الأمر وأوكل إليهم  أمر رعاية الأخوة الإسلامية ، وذلك بتجاوز كل خلافاتهم  السياسية والمذهبية  والمصلحية ، ويجعلوا أخوتهم في الله عز وجل فوق كل اعتبار ، ولا يقبلوا فيها مساومة من غيرهم مهما كان . وما لم يرعوا آصرة هذه الأخوة، فإن من يعادونهم لن يقيموا لهم وزنا ولا اعتبارا . ومما يفرض عليهم رعايتها  في هذا الظرف بالذات هو مساومة عدوهم لهم في أقدس مقدساتهم التي بزوالها ـ لا قدر الله ـ  لن تقوم لهم قائمة ، ولن تكون لهم شوكة ولا صولة .

اللهم إنا تسألك وأنت الملجأ والملاذ أن تتدارك أمة الإسلام بلطف منك يصون الأخوة التي شرعتها لها وقد فرطوا فيها  . اللهم فوت على أعدائها كل فرصة يستهدفون فيها هذه الأخوة  المقدسة . اللهم انزع ما في قلوب طوائف هذه الأمة  من غل ،ومن تباغض، ومن تحاسد، ومن بغي ، ووفق أهل الصلاح فيها إلى الإصلاح بينها بالعدل والقسط .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 932