( إن الله وملائكته يصلون على النبيّ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلمّوا تسليما )

من المعلوم أن الله عز وجل خص عباده المؤمنين بنعمة من أجل النعم التي جعلها لهم رحمة ، وهي صلاته هو وملائكته عليهم لإخراجهم من الضلال إلى الهدى كما جاء في قوله جل شأنه : (( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبّحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما )) . وواضح من هذه الآية الكريمة أن الظفر بهذه النعمة العظمى يقتضي أولا صدق الإيمان بالله تعالى ،لأنه في سياق حديثه عن هذه النعمة خاطب عباده المؤمنين بصفة الإيمان (( يا أيها الذين آمنوا )) ، ثم أمرهم بعد ذلك بذكره سبحانه وتعالى الذكر الكثير ، وكثرته تعني استمراره ليل نهار، وفي كل الأحوال التي يكون عليها المؤمنون ، وقد جاء في كتب التفسير أن الله تعالى ما تعبّد المؤمنين بعبادة إلا وجعلها محدودة زمانا ومكانا  رفعا للحرج عنهم ، وجعل لهم رخصا فيها حسب بعض أحوالهم، لكنه أمرهم بكثرة ذكره  لأنه لا حرج لهم  فيه وهو مما يطاق .

ومعلوم أن الذكر لغة يدل من جهة على الاستحضار الذهني ، ومن جهة أخرى على تلفظ اللسان به ، وهما أمران متلازمان إذ لا يذكر الإنسان شيئا إلا استحضره أولا في ذهنه ثم أجراه بعد ذلك على لسانه . وإذا كان الإنسان في ذكره الناس أو الأحداث أو الأشياء يفعل ذلك لأغراض خاصة به ، فإنه إذا ذكر الله عز وجل، فإنه يذكره  أولا ذكر تعبّد وهو تعظيم له وتقديس ، وحمد وشكر وامتنان له على نعمه التي لا يحصي عد ، ولا يؤدي شكرها شكر ولا حمد ، وهو ثانيا توسل به إلى الخروج من الضلال إلى الهداية.

وحتى لا يقتصر ذكر الله عز وجل عند عباده المؤمنين على أحوالهم في العبادات المفروضة عليهم، وهي محدودة في الزمان والمكان ، فإن قوله تعالى : (( اذكروا الله ذكرا كثيرا )) قد ألغى تقييده بزمان أو مكان أو حال من الأحوال كما هو الشأن بالنسبة للعبادات ، الشيء الذي يعني أنه استحضار للمعية الإلهية ذهنا وجريانا على الألسنة معا  في كل الأحوال التي يكون عليها الإنسان المؤمن ،علما بأن أحواله في معاملاته أطول زمنا من أحواله في العبادات ، وأوسع منها في المكان أيضا . ومعلوم أن ملازمة  المؤمن ذكر الله عز وجل الذكر الكثير في كل أحواله يجعله مستحضرا ومراقبا  له على الدوام ،وهو ما يمكنه من الاستقامة والطاعة المتواصلتين إذ لا يمكنه أن ينحرف عن الجادة ،وهو على تلك الحال من كثرة استحضاره  ربه سبحانه وتعالى . وما انحرف إنسان في حال من أحواله عن الاستقامة  إلا وهو غافل عن استحضاره .

وإلى جانب أمر الله تعالى عباده المؤمنين بذكره الذكر الكثير أمرهم أيضا بتسبيحه بكرة وأصيلا ، وقد ذهب أهل التفسير إلى أن المقصودة بهذا التسبيح هو صلاتي الصبح والعصر لاقترانهما بالبكرة والأصيل ، وفي ذلك تحديد لزمن التسبيح ، وهذا لا يمنع أن يكون المقصود ما ذهب إليه المفسرون فضلا عن التسبيح ما بين الصلاتين بما فيها صلاة الظهر ، وصلاة العشائين إذ لا يمكن أن تخلو صلاة من الصلوات الخمس من تسبيح  في قيامها وركوعها وسجودها .

ولقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالذكر الكثير ، والتسبيح بكرة وأصيلا لشكر نعمته العظمى، وهي صلاته سبحانه وتعالى هو ملائكته عليهم صلاة تخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهداية والاستقامة ، أما صلاته سبحانه وتعالى وهو أعلم بها، فهي مباركتهم ومباركة سعيهم ليستقيموا على الصراط المستقيم ، وأما صلاة ملائكته وتكون بأمر منه جل شأنه، فهي الدعاء لهم بالسداد والتوفيق  في كل سعي يسعونه ، وفي كل حال يكونون عليها ، والاستغفار لهم مصداقا لقوله تعالى : ((  الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم )) ،وبصلاة الله عز وجل وصلاة ملائكته يتم خروج المؤمنين من ظلمات الضلال إلى نور الهداية  والاستقامة على الصراط المستقيم .

ولله تعالى ولملائكته الكرام صلاة أخرى خص بها سبحانه وتعالى نبيه الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تعظيما وتقديرا وتشريفا له مصداقا لقوله عز من قائل : (( إن الله وملائكته يصلون على النبيّ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ))، وليست صلاته جل شأنه وصلاة ملائكته على النبيّ كصلاته سبحانه وتعالى وصلاة ملائكته على عباده المؤمنين بل هي صلاة خاصة به لأنه قد اصطفاه عز وجل لحمل الرسالة الخاتمة، وتبليغها للعالمين، وجعله إسوة وقدوة لهم ، وعصمه مما يقعون فيه من ذنوب ومعاص ، لهذا كانت صلاته جل شأنه وصلاة ملائكته عليه صلاة تبريك وتعظيم  وإجلال ،وليست هي الصلاة التي تخرج المؤمنين من الضلال إلى الهدى ، وهذا ما يدل على قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل، وقدره في الملأ الأعلى . ونظرا لقدره عليه الصلاة والسلام ،فقد تعبد الله تعالى المؤمنين بعبادة الصلاة عليه ، وهي عبارة عن دعاء له  يعتبر اعترافا بقدره  العظيم عليه السلام ،وبفضله عليهم ،لأن الله عز وجل جعل في بعثته سببا لهدايتهم وإخراجهم من الضلال إلى الهدى .

ولقد جعل الله تعالى الصلاة على نبيه الكريم مقترنة بعبادة الصلاة التي هي عمود الدين ،والتي لا تصلح باقي الأعمال إلا بصلاحها حيث يصلى فيها على النبي عليه السلام في التشهد الذي هو عبارة عن تعظيم  وتقديس لله تعالى مصحوبا بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان الله تعالى قد أمر عباده المؤمنين بذكره الذكر الكثير ، وتسبيحه بكرة وأصيلا ، فإنه كلما ذكر سبحانه وتعالى، وسبّح إلا وصحب ذلك الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم سواء أثناء العبادات أو خارجها .

ولقد سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية الصلاة عليه التي أمر بها الله تعالى ،وكانوا يحيونه بتحية السلام إلا أنهم لم يعرفوا كيفية الصلاة عليه، فأخبرهم بتلك الكيفية كما جاء في الحديث الذي رواه كعب بن عجرة حيث قال : "  إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا ، فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟، قال : " قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " .

وهذه الصلاة الإبراهيمية كما تسمى لورود اسم نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام فيها  تتضمن ذكر الله تعالى بصفتين من صفاته العليا، وهما الحميد والمجيد ، ويقترن ذكرهما بالصلاة على النبيين الكريمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وسيدنا إبراهيم عليه السلام وعلى آلهما ، وقد عطف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  على الصلاة عليهما تبريكهما ،علما بأن الصلاة عليهما هي تبريك في حد ذاته ، وهو دعاء الله عز وجل ليزيدهما بركة  وتعظيما وإجلالا  وتقديرا .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو استكمال الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حديثين في جمعتين سابقتين بمناسبة حلول ذكرى مولده العطرة ، وقد اقتضى هذا الحديث التذكير بقدره العظيم  صلى الله عليه وسلم للرد على الذين يجهلونه أو يتعمدون تجاهله ، فتصدر عن بعضهم أقوال أو أفعال تنم عن عدم مراعاة قدره ، وعدم الاستجابة لما أمر به الله عز وجل من تعظيم وتقدير له، فإذا كان مجرد ذكر اسمه الشريف  أو سماعه يقتضي الصلاة والسلام عليه ، فإنه لا يجوز بتاتا الخوض في أحواله الخاصة أو في سيرته العطرة بما لا يليق بقدره العظيم  كما يفعل البعض من الذين تناولوا موضوع زواجه من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهم يخوضون  فيما يسمونه زواج القاصرات ، وهو تجاسر على قدره العظيم لأن أحواله ليست هي أحوال غيره من الناس، وهو عليه الصلاة والسلام المعصوم الذي عصمه الله عز وجل مما لم يعصم منه غيره من البشر . وليس زواجه عليه الصلاة والسلام  كزواج غيره ، ولا أزواجه كغيرهن من النساء ، وقد أحل له منهن ما لم يحله لغيره . ولا يحق لأحد أن يخوض في موضوع زواجه سواء تعلق الأمر بما أحل الله عز وجل له من أزواج أو تعلق بالكيفية التي تم بها ذلك الزواج . وإنه من سوء الأدب معه عليه الصلاة والسلام أن يقارن بغيره، وهو الذي فضله الله عز وجل على الرسل والأنبياء الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، كما فضله على العالمين ، ورفع قدره العظيم في الدنيا والآخرة.

وعلى المؤمنين تشرب  معنى أمر الصلاة والسلام عليه الذي أمر به الله عز وجل  ، وإدراك معناهما من تقديس وتعظيم وإجلال ، ذلك أن التلفظ بالصلاة والسلام عليه يعني من ضمن ما يعنيه أنه حاشاه أن يوصف بما لا يليق به .

ولن تفوت الفرصة في هذه الحديث  بمناسبة ذكرى المولد العطرة دون التنبيه إلى ما لا يليق بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحسب على الاحتفال بمولده من أفعال مناقضة لهديه وسنته ، بحيث  يحاول البعض إسباغ صفة التدين  عليها  كذبا وافتراء وزورا ، وهو كذب عليه صلى الله عليه وسلم قد حذر من عواقبه بقوله عليه الصلاة والسلام : " إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد ، من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "، ومما قاله القاضي عياض رحمه الله أنه إذا كان الكذب على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما ومستقبحا ، فإن الكذب عليه أشد  قبحا وتحريما .

اللهم وفقنا لتعظيم وإجلال رسولك عليه الصلاة والسلام التعظيم والإجلال الذي يليق بقدره  والذي أمرتنا به سبحانك ، والذي رضيته له . اللهم إنا نعوذ بك أن نظن به عليه الصلاة والسلام ما لا يليق بمقامه الكريم  وقدره العظيم  أو يخطر لنا منه شيء ، أو نقول فيه قولا لا يرعى له مكانته المعظمة عند ، أو نفعل فعلا  لا ترضاه  ولا يرضاه فنفتري بذلك الكذب عليه .

اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه  وعلى آله صلاة وسلامت وتبريكا  يرضيك ويرضيه وترضى به عنا ، وتهدينا به إلى صراطك المستقيم ، وتعصمنا به من الضلال .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلّى الله وسلم وبارك على سيّدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 952