رمضان والحياة بمناسبة ذكرى غزوة بدر

العلامة الشيخ مصطفى الزرقا

النجاح في الامتحانات الحاسمة في رمضان:

ـ كلُّ أمة تريد بناء نفسها تحتاج أن تجتاز بنجاحٍ سلسلة من الامتحانات في مراحل حاسمة لتستطيع بناء حياتها إلى مدى بعيد.

ـ كان هذا لأُمَّة الإسلام، فقد اجتازت بأعلى نجاح عَقَبات البناء الإسلامي منطلقةً من المنطلق العربي الذي هو قاعدتها الأساسية، بقيادةٍ عُليا من قائدها الأعظم رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، وبهدايةٍ من وحي السماء.

ـ لأمر أراده الله جلَّت حكمته كانت تلك الامتحانات أو المراحل الحاسمة كلها في رمضان، شهر الصيام، في ظلِّ عبادة الصبر وقوة الإرادة.

ويبدو أنَّ هذا التوقيت الذي اختاره الله تعالى للأمة الإسلامية في عملها البنّاء عَبْرَ التاريخ ليس مجرَّد مصادفةٍ خاليةٍ من المعنى، بل فيه تنبيه وتعليم:

الاستعداد النفسي واللياقة الروحيَّة في رمضان:

ـ فقد كانت تلك المراحل ومواقفها الامتحانية الحاسمة، وأحداثها الجليلة، عَقَباتٍ هائلة تحتاج إلى وقتٍ تكون فيه الأمة في أعلى مستوى من الاستعداد النفسيِّ واللياقة الروحيَّة، فاختار الله لها رمضان الذي هو مدرسة الصبر، وتغذية الروح، وتربية الإرادة.

فهو شهر الشحن للبطّارية الروحيَّة بكهرباء الإرادة!

الأحداث الكبرى في رمضان:

ـ تعاقبت في رمضان مُعظم الأحداث الكبرى في بناء الإسلام وحماية صرحه.

ـ ففيه نَزَل القرآن مصدر العلم والهداية الإلهيَّة.

ـ وفيه كانت غزوة بدر الكبرى، وهي المعركة الحاسمة بين الشرك والإيمان.

ـ وفيه كانت غزوة الفتح التي زحف فيها النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم على عاصمة الشرك في جزيرة العرب ففتحها فتحاً أبيض رحيماً، وحطم أصنام قريش ثم أصنام سائر القبائل العربية، وانطلق صوت بلال بالأذان من أعلى الكعبة البيت الحرام، معبد أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فنادى بلال: الله أكبر، الله أكبر، شق بها أجواء الفضاء.

ـ ثم كان بعد ذلك في رمضان صدُّ التتار عن الشام، ودَحْرهم وتمزيقهم في موقعة عين جالوت ذلك التمزيق الذي منعهم عن بلوغ هدفهم في بيت المقدس.

فماذا يحمل رمضان في طيَّاته من ذكريات وتنبيهاتٍ يا لها من معلّمٍ لقوم يتفكرون!

وماذا في معركة بدر من معانٍ سامية، ومن مَعين اعتبار لا ينضب!!

العزم والتصميم في معركة بدر:

ـ ألا لله تلك القلَّة المؤمنة التي قالت لنبيِّها وهو يجسُّ نَبْض عزيمتها، ويستطلع رأي الأنصار الذين كانوا عاهدوه على حمايته في المدينة لا أن يقاتلوا معه خارجها، قالوا له: إننا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والله لو خُضْت بنا البحر لخضناه معك إنا لصُبُر عند الحرب صُدُق عند اللقاء!!

بهذه العزيمة والتصميم انتصرت القلَّة الصائمة لله، على الكَثْرة الكاثرة عَدداً وعُدداً فحطَّموا رؤوس الشِّرك وركائزه الرئيسيَّة من المشركين الصَّناديد، وأقاموا هيبة المسلمين في قلوب المشركين في سائر أنحاء الجزيرة العربية.

ـ عاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم من بدر مُهلِّلاً مُتهَلِّلاً وخاف على المسلمين المنتصرين من الغرور والغفلة عن الله اعتداداً بالنفس ـ عاد ليشحن البطارية الروحية من جديد في نفوس المؤمنين بكهرباء التنقية والتصفية فيقول لأصحابه المنتصرين العائدين:

«عُدتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد المرء نفسه وهواه» [ أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (13/523)، والبيهقي في «الزهد» (374) من حديث جابر، وقال البيهقي: «هذا إسناد ضعيف». وأقرَّ تضعيفه العراقي في «تخريج الإحياء» (3/2)]!!.

الحاجة إلى الشحن الروحي الجديد:

ـ قد يظنُّ بعض المثقفين أنَّهم استغنوا عن مدرسة العبادة إذ جاوزوها بعلمهم ولم يبقوا في حاجة إليها، بينما يكون هؤلاء قد جفّوا روحياً، ولم يبق عندهم عطاء للمجتمع وإنما يريدون أن يأخذوا منه رِيّاً لشهواتهم ولهواتهم وأنانياتهم!!

وهكذا تضعف شخصيَّاتهم واحتمالهم في طريق البناء والعطاء، فتحتاج نفوسهم إلى تجديد بشحن روحيٍّ جديد ـ تحتاج إلى رمضان يُذْكيها ويزكّيها وينقلها إلى رأس النبع.

ـ فكثيرٌ ممَّن تفوتهم مثلاً صلاة الصبح؛ لأنهم ينامون عنها فيأتيهم رمضان فيعيدهم إلى جوِّها، ويستجلون نفحات السَحَر، التي تفعل في النفوس المتأهلة كفعل السحر!!

أثر الناحية الروحيَّة النفسيَّة للصوم:

ـ لا نريد أن نتكلم عن الصيام من الناحية الصحيَّة الآن في هذه الفترة الضيقة، فقد أصبحت هذه الناحية أشهر من أن تحتاج إلى إيضاح، وقد كشف علم الطب فيها كشوفاً مدهشة.

ولكنِّي أريد التركيز على الناحية الروحيَّة النفسيَّة فقط: إن جوَّ الصيام وهو حرمان إرادي مؤقَّت امتثالاً لأمر الله ليبعث في نفس المؤمن مشاعر كثيرة من مشاعر الإنسانيَّة النبيلة:

إن فيه تعريفاً بقيمة نعمة الله، وشعوراً ببؤس الجياع البائسين، وشعوراً بضعف الإنسان الذي تتوقَّف حياته على قليل مما يحقر من نعمة الله من ماء وغذاء، وتحسيناً للخُلُق حين يشعر الإنسان أنه في عبادة مستمرة.

إنَّ الصيام أشبه بدورةٍ تجديديَّة للتدريب العسكري يُدعى إليها ضباط الاحتياط.

معالجة الطغيان المادي:

ـ إنَّنا اليوم في هذا العصر نعيش تحت تأثير سيطرة ماديَّةٍ على حياة الإنسان العصري تجعل من الإنسان حيواناً ذكيّاً في اقتناص منافعه وشهواته ولو على حساب أيِّ جانب آخر من جوانب الحياة الإنسانية المُثْلى.

ومن الضروري معالجة هذا الطغيان المادي في حياة الإنسان، وذلك بتنمية العوامل التي يتغلَّب بها الإنسان على تلك الأثقال التي تجذبه إلى أدنى، وتمنعه من السموِّ، وذلك بتنمية المَلَكات الخيّرة التي تنزع به إلى السمو للمثل العليا، وبتقوية الإرادة والعزيمة عليها حتى يشعر الإنسان بنشوة انتصاره على المادة ذلك الانتصار الذي يُشْعِره بالثقة بنفسه وبإرادته (كما يشعر الصغير حين يصوم أول مرة مع الكبار).

ـ لقد طوّع الإنسان المادة وأخضعها لإرادته، وسَخَّرها لمنافعه إلى حدود كبيرة، بالاكتشافات التي حقَّقها في أسرار الطبيعة وقوانينها. ولكن المادة انتقمت منه لنفسها من حيث لا يشعر، حين أسَرَت نفسه وعقله بفتنتها، فاستعبدته وصرفته عن طريق كماله الإنساني.

يقول بعض الأطباء عن أكل اللحوم ومضار الإفراط فيها: إنَّ الحيوان ينتقم لنفسه. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إيَّاكم وهذه المجازر، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر» [الصحيح أنه موقوفٌ من كلام عمر بن الخطاب، أو السيد عائشة رضي الله عنهما.

رواه مالك في الموطأ (2/935) عن عمر بن الخطاب موقوفاً بلفظ: «إياكم واللحمَ فإن له ضراوة كضراوة الخمر». ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (25019) عن السيدة عائشة بلفظ: «يا بني تميم لا تديموا أكل اللحم فإن له ضراوةً كضراوة الخمر» ؟

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (5425): قال جماعة: معناه أَنَّ لَهُ عَادَة يَنْزِع إِلَيْهَا كَعَادَةِ الْخَمْر. وَقَالَ الأَزْهَرِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّ لأَِهْلِهِ عَادَة فِي أَكْله كَعَادَةِ شَارِب الْخَمْر فِي مُلاَزَمَته، وَكَمَا أَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْخَمْر لاَ يَكَاد يَصْبِر عَنْهَا كَذَا مَنِ اِعْتَادَ اللَّحْم].

معالجة الأمراض الاجتماعية:

ـ كثير من الأمراض الاجتماعية التي تُمثِّل الانحرافات والميول الفاسدة في السلوك إنَّما تُمثِّل عجز الإنسان عن مقاومة دوافعه ورغباته المنحرفة التي تدفعه إلى تلبية الإغراءات الضارَّة. والصيام يُعالج هذا العجز، ويقوِّي المقاومة المنشودة.

فليست قضية رمضان مجرَّد مسألة أخلاق شخصيَّة، وعلاقة خاصَّةً بين الإنسان وربّه، بل هي قضيَّة مدرسةٍ تربويَّة عظيمة الأهميَّة في بناء الحياة السليمة، والمقدرة على شقِّ الطريق، ثم قيادة الغير فيها لمن كانت لهم رسالة قيادة خالدة كالمسلمين.

ـ كنتُ اطَّلعت على بيان لأحد المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم يعلن فيه أن المشكلة الأولى في أمريكا اليوم هي فشوُّ المخدرات في طبقات المجتمع وخاصة في الجيل الجديد، وأن هذه تعتبر خطراً قومياً جسيم النتائج NATIONAL EMERGENCY .

ـ وأعظم صعوبة يُواجهها اليوم المربُّون الاجتماعيون والمصلحون: هي كيف نهيِّئ الأنفس لكي تتلقى بالقبول التوجيه الأعلى الآمر الناهي في السلوك الشخصي الذي يرى فيه الإنسان أنه حر في تصرفه مع نفسه ما دام لا يضر بالغير.

فمن ينصرف إلى الإدمان في المسكرات أو المخدرات مثلاً في معزل عن الناس يرى أنه ما دام لا يؤذي أحداً ولا يتعرض لغيره فهو حر في التصرُّف بنفسه، ولا يقبل أي توجيه أعلى يأمرُه وينهاه في هذا المجال، ولو كان لمصلحته أو مصلحة المجتمع.

لكن هذا الفيلسوف الذي يبدأ انعزاليّاً في بادئ الأمر لا يلبث أن ينقلب مجرماً خطراً؛ لأنه سيحتاج إلى المال لتأمين المسكر والمخدِّر، فيُقدم على الإجرام لتأمين المال اللازم لشراء المخدر.

من هنا يرى علماء الاجتماع مدى الارتباط بين تعاطي المخدرات والمسكرات وبين الجرائم، وهذا الارتباط محلُّ اتِّفاق بين الباحثين الاجتماعيين الذين درسوا هذه الظاهرة.

وقد صَدَر في نيسان الماضي من هذا العام (1972م) مذكرة عن الأمين العام للأمم المتحدة تقرِّر فيما تقرِّره هذه العلاقة الارتباطية بين المسكرات والمخدرات وبين الإجرام، صعوداً وهبوطاً، ولا سيما في حالة الإدمان الذي يولد مزيداً من الحاجة إلى المال.

ـ ومن ثم يتجلَّى لنا صدق النظرة الإسلاميَّة في عدم حريَّة الإنسان المطلقة في سلوكه الشخصي. ومنطلق هذه النظرة السَّديدة هو أنَّ نفس الإنسان في النظر الإسلامي ليست ملكاً له يتصرَّف فيه كيف يشاء، بل هي لله تعالى يوجهها لخدمة المجتمع:

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].

وامتثال الأمر الأعلى في السُّلوك الشخصي في النظام الإسلامي مبعثه الثقة بأنه صادر من ربٍّ رحيم، ذي علم مُحيط بما يُصلح الإنسان وما يُفسده، وأنه لا يريد بالفرد نفسه ولا بالجماعة إلا الخير لهم.

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].

ـ وقد جاء في التقرير المذكور من الأمين العام لهيئة الأمم: أن قد ثبت إحصائياً أن نصف الموجودين في سجون الولايات المتحدة الأميركية عام (1968م) قد ارتكبوا جرائمهم التي دخلوا السجن لأجلها وهم في حالة السكر، وأنه ثبت أيضاً إحصائياً أن نصف الإصابات الناشئة عن حوادث السيارات في كل وقت كانت ناشئة عن قيادة السيارة في حالة سكر.

كلُّ ذلك يُعرّفنا أن مدرسة الصيام لها ثمرات عملية مباشرة عظيمة الأهمية في حياة المجتمع، وليس الصيام مجرد سياحة روحية.

حرب الصائم ضد شهواته:

ـ وقد يحسن أن أُشير هنا إلى أنَّ من أهم ما تهتم به وتفتخر أساليب التدريب العسكري اليوم نظام المغاوير (المسمَّى بالكوماندوس).

وهذا النظام، من جملة تدريباته المهمَّة المكوّنة لشخصيَّة المغوار، ومتانة مقاومته للأخطار، أنهم يلقونه في فضاء صحراويٍّ يبعد عن العمران مئات الكيلومترات، وليس معه فيه إلا عقله وعزيمته، وقليل من الزاد وبعض أدوات آليَّة، ويتركونه ليُدبِّر أمره ويحفظ حياته بما يصطاد من حشرات الأرض وحيوانها حتى الأفاعي، ليقتات بها ويقطع المفازة ويصل إلى العمران.

ـ إنَّ رمضان إذا صامه المؤمن على وجهه، وقام بما يُتمِّمه من عبادات وسلوك ينتج أرواحاً مغاوير، فالمؤمن الصائم في رمضان يكون في حرب دائمة ضدَّ شهواته، وضد جميع نوازع الشر في نفسه يجتاز فيها مفازة نفسية أعظم مما يجتازه رجل الكوماندوس في أشقِّ تدريباته.

ـ وختاماً، أيها الأخوة الأكارم أقول: إنَّ رسالة الإسلام، بمقتضى خلودها وعمومها وقيامها على أساس قيادة الأمم كافَّة في طريق الحق والدعوة إلى الله، كان من ضرورتها ولوازمها أن تقوم فيها مدرسة الصيام التي تُهيئ نفس المسلم لهذه المهمَّة، وما تتطلَّبه من صبرٍ ومُصابرة، وتغليب للواجب على الهوى.

كلام للأستاذ سيد قطب في أثر الصوم على الأمة المجاهدة:

ورحم الله شهيد الحق والإيمان الأستاذ المجاهد سيد قطب إذ يقول في هذا المقام من ظلال القرآن:

«ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمَّة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشريَّة، وللشهادة على الناس. فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتِّصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ثقلها وضغطها، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع.

وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقَّات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك، والذي تتناثر على جوانبه الرِّغاب والشهوات، والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات.

وذلك كله إلى جانب ما يتكشَّف على مدار الزمان من آثار للصوم نافعة في وظائف الأبدان».

وصدق الله العظيم في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [البقرة: 183].

فليس عبثاً أن تتوارد على إيجاب الصيام شرائع الله سبحانه التي أنزلها على رسله، فيكون الصيام من أهم معالم الحياة الإنسانية في طريقها المستقيم إلى الله. والسلام عليكم.

وسوم: العدد 977