من الذي يريد الجنة؟!

سؤال قد يبدو للوهلة الأولى سخيفاً، وغريباً!!!

لأن الجميع سيقولون بصوت واحد: كلنا نريد الجنة..

ولكن ما علم أكثر الناس – إلا قليلاً منهم - أن الجنةَ تحتاج إلى ثمنٍ.. وثمنها غالٍ جداً، وباهظ..

فالذي يدفع هذا الثمن الباهظ جداً، يحصلُ على الجنة.. أما الذي لا يدفعه، فقد لا يجد ريحها، وإن ريحها على مسيرة كذا وكذا!!!

وقد بين الرسولُ صلى الله عليه وسلم لأهل يثربَ، هذا الثمن، وكان عددُهم خمساً وسبعين شخصاً، في بيعة العقبة الثانية..

شروط بيعة العقبة الثانية

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجنَّة».

إنَّها خمسةُ أمور في غاية المشقَّة، والصعوبة، بل إنَّ الواحدَ من هذه الأمور، شاقٌّ وعسيرٌ، فكيف إذا اجتمعت معاً في بيعة واحدة؟!

هذه هي طبيعة الدعوة بكل صراحة، ووضوح، وليس فيها تمييع، ولا تدجين..

 فمَنْ أراد أن يحملها على هذه الصورة الشاقة، الصعبة، فقد فاز ورشد، ومَنْ ظنَّ أنها سهلة، هينة، بسيطة، فقد خاب ظنُّه!

هذا هو الاختبار الصعب الشاقُّ الذي وصفه ربنا عز وجل بقوله﴿ أمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنَّة وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142.

أمَّا أن يكتفي المؤمن بالاعتقاد النظري، وأداء طقوس العبادات الروتينية، المفروضة.. كالصلاة، والصوم، وباجتناب الكبائر من سرقة، وزنا، وقتل، ويُصبح صالحاً في ذاته فقط ، لكن ليس له علاقة بإصلاح المجتمع من حوله، فهذا جزء محدود من الإسلام! لا يكفي لدخول الجنة.

الواجب إقامة دولة الإسلام

 

بل المهم، والواجب: إقامة دولة الإسلام، وتحكيم شرع الله؛ ليعيش الناس في أمان، وسلام، واستقرار، وعدل، ومساواة..

وهذا لا يتحقق إلا بالجهاد؛ ولهذه الأسباب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الجهاد، ذروةَ سنام الإسلام.

قال البراء بن معرور رضي الله عنه (رئيس وفد يثرب ) وهو آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم: { نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا. فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِر}.

فقال العباس بن عبادة رضي الله عنه موضحًا لهم: { إنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إذَا نُهِكَتْ أَمْوَالُكُمْ مُصِيبَةً، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا.. أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الآنَ، فَهُوَ وَاللهِ - إنْ فَعَلْتُمْ - خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ، عَلَى نَهْكَةِ الأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الأَشْرَافِ.. فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.}.

طبيعة طريق النصر

 

فالنصر ليس أمراً سهلاً قريباً، فطريقه مليء بالأشواك، والجراح، والآلام، والصِعاب، والمشاق.. وطبيعةُ المعركة بين الحقِّ والباطل، أن يفقد المؤمنون أموالهم؛ بل وأن يفقدوا أشرافهم، ولا بُدَّ أن يصبروا، فإذا بلغ الألم أقصاه، وثبت المؤمنون، وصبر الصابرون، جاء النصر لا محالة؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنَّة وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ البقرة: 214.

ما ثمن كل هذه التضحيات؟!

 

وهنا السؤال الكبير: ما الثمن لكل هذه التضحيات؟!

قالوا: فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ إنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟

قَالَ «الجَنَّةُ»!

كانت الجنَّةُ هي الثمنَ الوحيدَ لكل هذه التضحيات، وليس هناك أيُ وعدٍ بأي شيء آخر، فلا وعدٌ بدولة، ولا وعدٌ بتمكين، ولا وعدٌ بنصر، مع أن هذا كله سيحدث لا محالة؛ ولكن قد لا يراه المبايعون المؤمنون؛ فقد يموت أحدهم شهيدًا قبل التمكين بسنوات، وقد يموت طريدًا شريدًا معذَّبًا؛ ولكنه في النهاية إلى الجنَّة ذاهب! قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ التوبة: 111.

سمع الأنصارُ الثمنَ، فازدادوا حماسةً، واشتاقت قلوبهم للجنَّة، فقالوا في صوت واحد، مخاطبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثُّونه على المبايعة: ابْسُطْ يَدَكَ.

أهمية البيعة في منهج الإسلام

 

ويبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية البيعة..

 ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة (مَن خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وفارَقَ الجَماعَةَ، ثُمَّ ماتَ، ماتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً، ومَن قُتِلَ تَحْتَ رايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، ويُقاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، فليسَ مِن أُمَّتِي، ومَن خَرَجَ مِن أُمَّتي علَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، لا يَتَحاشَ مِن مُؤْمِنِها، ولا يَفِي بذِي عَهْدِها، فليسَ مِنِّي.).

وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمر – وإن كان ضعيفاً – يدعم الحديث السابق..

 (مَن مات ولا بَيْعةَ علَيهِ، مات مِيتةً جاهليَّةً).

وفي مشروعنا (إحياءُ الأمة).. تتحقق البيعة، وتُنال الجنةُ بأقصر طريق..

فمن يريد الجنة، فليدعم، ويؤيد، هذا المشروع بصدق وإخلاص؟!

وقد أبدى عددٌ من الإخوة الأحباب تأييدهم لهذا المشروع العملاق، الذي لم يسبق لأحد من العالمين قديماً أو حديثاً أن أتى بمثله، أو دعا إلى مثله.

ولكنهم ظنوا أن التأييدَ هو عبارة عن كلام نظري، ودعواتٍ، وتمنياتٍ، وأمنياتٍ.

وما علموا أن العملَ النظري، والفردي ليس له قيمةٌ البتة، ولا يسمنُ ولا يغني من جوع..

وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر:

( إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي أو قالَ أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ على ضلالةٍ ويدُ اللَّهِ معَ الجماعةِ ومن شذَّ شذَّ إلى النَّارِ).

ويقول تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠) ﴾ الفتح.

فالأنصارُ الذين بايعوا محمداً صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية، لم يبايعوه نظرياً، ولا بالتمنيات، والدعوات.

بل طلب منهم أن يبايعوه على: أن يمنعوه كما يمنعون أنفسهم، وأهليهم، وأبناءهم..

 ويدافعوا عنه دفاعاً مستميتاً، وعلى الطاعة في المنشط والمكره، وعلى الانفاق في العسر واليسر.. إلى غيرها من البنود.. حتى أن أصغر الأنصار أسعد بن زرارة قال لهم: ما ضربنا أكباد الإبل، لنبايعه بيعة هزلية.. إنكم ستواجهون الأحمر والأسود.. فإما أن تبايعوه عن جد، وصدق، ويقين.. أو تدعوه..

ثمن البيعة

 

ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: ما الأجر الذي سيحصلون عليه إن وفوا بيعتهم؟! قال لهم: الجنة.. فقط الجنة.

لم يعدهم بالتمكين، ولا حتى النصر، ولا الحصول على المناصب الوزارية، والرئاسية، ولا على تحقيق الرخاء الاقتصادي، ولا على تحسين المعيشة، ورفع الرواتب، والأجور، ولا على تحويل المدينة، إلى بناء عمراني مزدهر، ينافس ما لدى الروم والفرس..

كل هذه الشكليات، والمظاهر الدنيوية البراقة، لا قيمة لها في ميزان الله..

القيمة الوحيدة التي تستحق بذل الدماء، والأرواح، هي: الجنة فقط .. وما أدراك ما الجنة؟!..

فالذين أيدوا المشروع لأجل دنيا يصيبونها.. ولا يريدون الجنة.. فليس الله بحاجة إليهم.. فليبقوا في هذه الدنيا الدنية السفلية، أبد الآبدين – إن كانوا يستطيعون ذلك – يرتعون، ويلهون، ويلعبون.

نريد نفوساً أبيةً، شامخةً، تتطلع إلى الجنة فقط .. ولا تريد شيئاً غير الجنة..

والجنةُ ستكون أقربَ منالاً إلى الذين يعملون ضمن جماعةٍ مؤمنةٍ، ويقدمون أرواحَهم في سبيل اللهِ، من الذين يعملون فُرادى.

فالذي يريدُ الجنة فليمشي معنا.. والذي يريدُ الدنيا، فليتخلى عنا.. وليتراجع عن تأييده.

وسوم: العدد 1001