( قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون )

لقد كان دين الله عز وجل مستهدفا عبر التاريخ من طرف المنحرفين عن فطرة الله تعالى السوية التي فطر الناس عليها . ولا يستهدف الإسلام إلا كل منحرف عن هذه الفطرة . وقد تختلف أنواع الانحراف عنها حسب  أحوال المنحرفين في أزمنتهم وأمكنتهم  إلا أن غايتها واحدة ، وهي محاولة تبديل خلق الله تعالى الذي لا سبيل ولا قدرة لأحد على تبديله إلا أن يكون ذلك انحرافا به  كما أخبر الله تعالى في الرسالة الخاتمة الموجهة إلى العالمين على اختلاف أجناسهم وألسنتهم وأوطانهم إلى قيام الساعة في قوله عز من قائل مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله مخاطبا الناس أجمعين خصوصا من آمن منهم  : (( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا  تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) ، ففي هذه الآية الكريمة تقترن لفظة "فطرة " بلفظة " دين " ، فهما في حكم لفظتين لمسمى واحد ،  لهذا يقال إن الإسلام دين الفطرة ، وكل انحراف عن دين الإسلام يعتبر انحرافا عن  هذه الفطرة السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها .

والانحراف عن الدين القيّم أوعن الفطرة السوية، يعتبر مكرا يمكره الماكرون بهما ، والمكرهو إخفاء أو إضمار الشر ، وإبرازه في صور خادعة يظن بها عكس ما هي عليه ، وهو كل ما يضلّل به  من يستهدف بالمكر . والمعروف عن الذين يستهدفون الفطرة السوية لإفسادها  أنهم يموّهون على قصدهم الخبيث بإظهار عكس ما يضمرون  من شر أو سوء . والله تعالى عبر التاريخ كان بالمرصاد لكل الماكرين بالفطرة السوية كما سجل ذلك القرآن الكريم في أكثر من موضوع . ومن صور ذلك المكر ما جاء في قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله كل المؤمنين إلى قيام الساعة : (( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون )) . ولقد جاء في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآية الكريمة هو ما أصاب كفار قريش من قحط لسبع سنين لما طغوا في مكرهم بدعوة الإسلام ، و قد نكلوا بالمسلمين فدعا عليهم  رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم كشف الله تعالى عنهم ذلك الضر، فعادوا من جديد إلى مكرهم السابق بنبيه صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، فجاء الوعيد الإلهي بأن مكر الله تعالى أسرع من مكر كل ماكر  مهما كان ، وأن كل مكر صادر عن البشر تدونه الملائكة الموكول إليها تسجيله ليحاسب عليه في العاجل والآجل .

 وإذا كان سبب نزول هذه الآية هو ما أصاب  كفار قريش من جفاف وقحط ، فإن عموم لفظها يتضمن حكما ساري المفعول إلى يوم الدين ، ذلك أن كل ماكر بالدين القيم ، أو بالفطرة السوية، يحيق به مكر أسرع وأشد من مكره. ولقد سجل القرآن الكريم مكر الماكرين بدين الله عز وجل  في الأمم الغابرة ، وكان الرد الإلهي على مكرهم هو الأسرع ، ومعلوم أن الأسرع يكون بالضرورة هو الأقوى والأشد  والأدوم .

ومعلوم أن مكر الله تعالى إنما هو عقاب يكون ردا على مكر الماكرين من جنسه أو يزيد عنه إمعانا في عذابهم وتنكيلا بهم، وهو مكر لأن الله تعالى  ويؤجله بعض الوقت ، فيخفى أمره على الماكرين حتى يظن هؤلاء أنهم بمنجاة منه فيصيبهم بغتة ، ويكون هوالأسرع قبل أن يحقق مكرهم ما يبتغون . وتتكرر في القرآن الكريم  عبارات دالة على مكر الله تعالى بالماكرين بدينه من قبيل قوله تعالى : (( فانظر كيف كان عاقبة المجرمين )) ، و معلوم أن المكر إجرام ، وأن عاقبته إنما  تكون بمواجهته بمكر إلهي أسرع منه .

ولقد كان الماكرون بدين الله تعالى في كل زمان، يتمادون في مكرهم به حتى  إذا مستهم الضراء من جوع أوخوف أو وباء  ارعووا  إلى حين ، فإذا ما أذاقهم الله تعالى بعد ذلك رحمة بكشف الضراء عنهم عادوا من جديد إلى مكرهم ليواجهه المولى عز وجل بمكر أسرع  منه  ، و قد دوّن ملائكته الكرام مكرهم لينالوا جزاءهم الأخروي حين يعرضون يوم القيامة على ربهم  .

ومع أن الله عز وجل قد أخبر العالمين في رسالته الخاتمة أن مكره سبحانه وتعالى أسرع من مكر كل الماكرين ، فإن كثيرا منهم لا يتعظون بل يتمادون في مكرهم بدينه والذي بتعاليمه السمحة والسامية  تصان الفطرة البشرية السوية  من كل انحراف ، فيترب عن ذلك فساد كبير في الأرض يحوّل حياتهم إلى عذاب وجحيم .

ولقد صار الناس في زماننا  هذا على درجة غير مسبوقة من الطغيان لا يأبهون بما يصيبهم من ضراء  ، ولا يتعظون بذلك ، ويعتبرون كل ضراء تصيبهم أمرا عاديا ، فإذا منعوا القطر، فسروا ذلك بتقلبات الجو والمناخ دون أن يخطر لهم على بال أن ذلك من تدبير مدبر الكون سبحانه وتعالى الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وأنه هو من يعلم بسقوط الورقة حيثما سقطت ، ويعلم مكان الرطب واليابس ، ويعلم الحبة في ظلمات الأرض ... ويعلم كل مغيب ، وكل ظاهر ، ويعلم ما لا يعلمه أحد من العالمين .

ومع أن الضراء بكل أنواعها من جوع وخوف ووباء ... موجودة في زماننا هذا ، فإن الناس عنها غافلون ، ولا يرعوي كثير منهم عن المكر بدين الله تعالى ، وبالفطرة السوية التي فطروا عليها . وقد يذيقهم الله تعالى رحمة منه، فيغيثهم بعد جفاف وقحط ، أو يجعل لهم الأمن بعد خوف ، أو يرفع عنهم الوباء بعد ابتلائهم به لكنهم لا يبالون بذلك بل يزداد مكرهم بدينه ، وبالفطرة السوية ، ويستعينون برحمته ونعمه من رزق، ومن أمن ، ومن صحة للتمادي في مكرهم السيء الذي يحيق بهم .

وإذا كان أهل الكفر قد تمحّضوا للمكر بدين الله عز وجل وهم معرفون بذلك ، فإن أخطر الماكرين في هذا الزمان هم من تشربوا النفاق في قلوبهم ، ومعلوم أن النفاق هو أخطر أنواع المكر بالمؤمنين كما فصّل في ذلك رب العزة جل جلاله في محكم التنزيل ، ويكفي المنافق مكرا خبيثا أن يظهر الإسلام للمسلمين وهو يبطن كفرا ، وهذا ما يحمله على اعتماد كل أنواع المكر الأخرى  بهم ، فيسير على نهج الكافرين في مكرهم الخبيث بالمؤمنين لكنه يفعل ذلك بخبث وتقية حتى لا يشعرهم بمكره ذلك أنه يصرح بأنه واحد منهم ، وأنه  معهم في حظيرة الإسلام ، وهو أبعد ما يكون عنها كما يكشف عن ذلك مكره حين ينكشف ، وهو منكشف لا محالة طال الزمان أم قصر لأن مكر الله عز وجل هو الأسرع .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى مكر الماكرين بهم وبدينهم ، وبفطرتهم ، وما أكثرهم في هذا الزمان ، وأخطرهم عليهم هم من كانوا من بني جلدهم الذين يتحدثون بلسانهم وقد باعوا ضمائرهم لأهل ملة الكفر ، واتخذوهم أولياء ، وصاروا ينوبون عنهم في  تسويق كل مكر خبيث بين المسلمين ، وذلك بشتى الطرق والوسائل ، وقد صارت  هذه اليوم كثيرة ومتنوعة ومتيسرة ، وأهمها الإعلام الذي أصبح  يصل إلى كل بيت مدر أو وبر  في المعمور بسبب التطور التكنولوجي .

ولقد أصبح كثير من هذا الإعلام شغله الشاغل ليل نهار هو المكر السيء بالفطرة البشرية السوية التي ترعاها قيم الإسلام السامية ، فأصبحنا نسمع ونرى الإصرار من  الماكرين على تغيير خلق الله ، ومن ذلك إشاعة الفواحش منها تلك التي سبق إليها قوم لوط ، والتي لم تعد قاصرة على الذكران  بل صار النسوان يشاركنهم  فيها، وفاحشة الزنا  التي صارت رضاء بين من يمارسونها بما فيها كل الأنواع التي كانت في جاهلية العرب قبل الإسلام من بغي، أوسفاح، أودعارة مما كان معروفا وله أسماء من قبيل الاستبضاع حيث يرسل الواحد منهم امرأته أو جاريته إلى غيره لمضاجعتها والحمل منه ، أو كان إصابة رهط من الذكور الأنثى الواحدة حتى إذا حملت من أحدهم حضر القافة، وهم من يشبهون الناس فيشبهون مولود الرهيطة بأحد ممن أصابوها فينسب إليه وإن لم يكن من صلبه  أو كان مضامدة، وهو اتخاذ الأنثى التي لها زوج خليلا أو خليلين أو أكثر  تعاشرهم سفاحا ، وقد ذكر هذا النوع الشاعر أبو ذؤيب الهذلي في قوله :

تريدين كيما تضمّديني وخالدا        وهل يجتمع السيفان ويحك ؟

وهذا النوع الأخير، هو ما جاهرت بالإقدام عليه مؤخرا إحدى التونسيات ـ حاشا أهل تونس أن تكون منهم ـ  

ولعل كل هذه الأنواع من الزنا ،وغيرها قد صارت شائعة في زماننا هذا ، وكلها من صنيع الماكرين الخبثاء الذين يستهدفون  دين الله عز وجل ، والفطرة السليمة التي فطرالناس عليها ، والغائب عن أذهان هؤلاء الماكرين  أن مكر الله تعالى أسرع من مكرهم .

اللهم إنا نعوذ بك من مكر الماكرين بديننا ، وبفطرتنا التي فطرتنا عليها . اللهم لا تؤاخذنا بمكرهم ، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا ، وأذقنا رحمة منك بعد هذا الذي نعاني منه من احتباس القطر، والغلاء ، والوباء ، واجعل اللهم رحمتك عونا لنا على طاعتك ، ونعوذ بك أن تكون لنا وسيلة أوعونا على معصيتك.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1013