( ولا تبخسوا الناس أشياءهم )

الأخذ والعطاء ، ويسمى الأول حقا، والثاني  واجبا ، وهما كلمتان متلازمتان كل واحدة منهما تقتضي بالضرورة وجود الأخرى ، وكل آخذ يكون بالضرورة معط ، والعكس صحيح .والأخذ والعطاء عبارة عن معاملة تكون بين طرفين اثنين أو بين عدة أطراف تقوم على أساس تبادل المصالح المشتركة ، وتكون إما مادية أو معنوية سواء  قلت أم كثرت ، غلت أمرخصت . والأصل في هذه المعاملة أن يسودها العدل  وإلا اختلت، وترتب عن اختلالها جور يفضي إلى صراع  تتولد عنه عداوة ، ويهدد الأمن والسلام والاستقرار ، و بذلك لا تسير الحياة سيرها الطبيعي والعادي .

وقد تكون معاملة الأخذ والعطاء محكومة بضوابط كما هو الحال في التعامل التجاري بكل أنواعه حيث يأخذ البائع ثمن ما يبيع ، ويدفع له المشتري ثمن ما ابتاعه منه ، وتكون تلك الضوابط محددة  شرعا أوعرفا بحيث يتواضع الناس على وضع أسعار لكل مبيع ،وهي أسعار تختلف من بلد إلى آخر ، وإن كان بعضها مشتركا بينها كما هو الشأن بالنسبة تلك التي تحددها الأسواق العالمية  لبعض المبيعات .

وقد تكون تلك المعاملة دون ضوابط  خصوصا إذا كانت خارج إطار التعامل التجاري ، وتكون محكومة بالتزامات ذات طابع أخلاقي كما هو الشأن بالنسبة لكثير من العلاقات الاجتماعية كعلاقة الشغل حيث يرتبط المشغل أو صاحب الشغل بالمشغَل سواء تعلق الأمر بأفراد أو بمؤسسات ، وكعلاقة القرابة  التي تربط  الأزواج بالزيجات والآباء والأمهات بالأبناء ... إلى غير ذلك من أنواع القرابة ،وكعلاقة الجوار الرابطة بين الجيران  ... إلى غير ذلك من مختلف العلاقات الاجتماعية . وكل تلك العلاقات  تحكمها معاملات تخضع  بالضرورة لقانون الأخذ والعطاء بين المرتبطين بها ، ويكون كل طرف فيها آخذ ومعط في نفس الوقت، أي له حق، وعليه واجب سواء كان الأخذ والعطاء ماديين أو معنويين.

ولمّا كانت الأنانية طبيعة بشرية متجذرة في الإنسان ، فإن تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات يكاد يكون شبه منعدم  في أغلب الأحيان بسبب طغيان تلك الأنانية حيث يشكو الناس عادة من أنهم يعطون ما عليهم ، ولكنهم لا يأخذون ما لهم .

ولهذا نجد كل مسؤول عن رعية استرعاه الله تعالى إياها  على اختلاف أنواعها يرى أنه يعطيها ما تستحق ، ولكنها لا تعطيه ما يستحق مما يجب له من اعتراف، وشكر، وثناء، وامتنان ، واحترام ،وتقدير ، وإجلال ....، وفي المقابل ترى رعيته أنها تعطيه أكثر مما يعطيها . وإن شئنا مثلنا لذلك انطلاقا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تحدث فيه عن المسؤولية بين الراعي والرعية حيث قال : " ألا كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع ، وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده  ، وهي مسؤولة عنهم  ، والعبد راع على مال سيده ، وهو مسؤول عنه ، ألا فكل راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته " ، ففي هذا الحديث الشريف  لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي مجامع الكلم إشارة ضمنية  إلى كل أنواع  العلاقات المختلفة  التي تتوقف على الأخذ والعطاء أو الحقوق والواجبات، وإن اقتصر الذكر فيه على بعضها وقد تراوحت بين أعلى مسؤولية وأدناها مرورا بما بينها  من مسؤوليات على اختلاف أنواعها والتي  قد يطول الحديث عنها لو أحصيناها  لهذا  سنقتصر منها على ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفى بها تمثيلا .

أما المسؤولية العليا ،فهي كما جاء في الحديث  مسؤولية الإمارة  حيث تجب على الأمير واجبات تجاه الرعية  ، وتكون له حقوق عليها ، فمن حقوقها عليه أن يسوسها بعدل ورفق ، وهي حقوقها المعنوية ، وأن يمكنها أيضا من حقوقها المادية  التي تضمن لها العيش الكريم  ، ومن حقوقه عليها السمع والطاعة، والمحبة ،والتقدير والاحترام... وإلى جانب  هذه الحقوق المعنوية له أيضا حقوقه المادية  المناسبة لمسؤوليته . وعلى مسؤولية الإمارة تقاس كل أنواع المسؤوليات العليا المنبثقة عنها في كل القطاعات . ولا يجب أن يقع بخس  في الحقوق بين الأمير ورعيته .

ومما جاء في الحديث أيضا مسؤولية رب الأسرة الصغيرة ، وهو الزوج الذي تجب عليه حقوق تجاهها ،وهي واجباته ، وله حقوق عليها وهي واجباتها ، وتوجد إلى جانب مسؤوليته  مسؤولية الزوجة التي عليها واجبات تجاه أسرتها ، ولها عليها حقوق . أما واجبات رب الأسرة فهي توفير كل ما يلزم لأسرته مما هو مادي مسكنا، ومأكلا ،ومشربا ،وملبسا، وتطبيبا ....  يوفر لها العيش الكريم ، ... وما هو معنوي  حماية ، ورعاية ،ومودة، ورحمة ، ونصحا ، وحسن معاملة .... وله مقابل ذلك حقوق معنوية  قوامها التقدير والاحترام ، والسمع والطاعة ، والإحسان إليه ورد جميله إن كبر أو عجز  ... وله أيضا حقوق مادية . وتتولى الزوجة مسؤولية الأسرة إلى جانبه ، وهي مسؤولية مكملة لمسؤوليته ا كما أشار إلى ذلك  حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي مسؤولية تدبير بيت بالزوجية بعلا، وولدا ، وعليها واجبات لهم  تكون مادية  ومعنوية، وهي حقوق تتمثل في رعاية الأسرة داخل البيت ، وتكون مقابلة لرعاية الزوج  ، وهذه المسؤولية عبارة عن أدوار متبادلة ومتكاملة  بين الأزواج والزيجات يطبعها التشارك والتكامل .  وعلى غرار العلاقة الأسرية تكون العلاقة العائلية الأوسع منها . ولا يجب أن يكون بخس بين أعضاء الأسرة أو العائلة في حقوق  بعضها البعض بحيث يعطي كل عضو فيها بقدر ما يأخذ .

ومما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا مسؤولية من يُشّغل أو يُستأمن أو ُيسترعى  مهما كان الشغل أو الأمانة المستأمن عليهما ، وعليه واجبات مادية  ومعنوية لمن يُشّغله أو يستأمنه  تتمثل في المحافظة على الأمانة سواء كانت مادية أو معنوية ، وله حقوق مادية ومعنوية، وهي عبارة عن مستحقات مقابل ما يقُلّده من مسؤولية . وعلى هذا النوع من المسؤولية تقاس مختلف المسؤوليات الشبيهة بها  . ولا يجب أن يكون بخس لحقوق بين أطراف علاقة التشغيل .

والسؤال المطروح على جميع من يُقّلدون مسؤوليات كيفما كانت هو: هل يأخذون ما لهم ، ويؤدون ما عليهم  بعدل ، وبعبارة أخرى هل يحرصون على أداء  واجباتهم بنفس الحرص الذي يحرصون به على المطالبة بحقوقهم ؟ وعلى كل منهم أن يكون صادقا مع خالقه أولا بخصوص الحرص على التوازن المطلوب بين الحق والواجب ، وأن يكون بعد ذلك صادقا مع نفسه ، ومع من يطالبونه بحقوقهم ، ويطالبهم بحقوقه ، والصدق المطلوب إنما هو توخي ألا يبخس لهم حقا كما لا يريد أن يبخس حقه مصداقا لقول الله تعالى : (( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ))  ، وهذا قول ربنا حكاية لقول نبي الله شعيب عليه السلام لقومه ، وهو تشريع شرعه الله تعالى ، والعبرة هنا بعموم لفظ القول لا بخصوص سببه . ولقد جاء في كتب التفسير أن البخس هو نقص الشيء على سبيل الظلم ، أو هو إنقاص الشيء إما مقدارا أو صفة  يكون بهما حقيق بكمال في نوعه. وفي اللسان العربي  البخس هو احتيال أو مخادعة بالتنقيص أو التعييب، وهو ظلم ، ويكون في الماديات والمعنويات على حد سواء .

إن الباعث على حديث هذه الجمعة هو الضجة التي يعرفها بلدنا  اليوم بخصوص غلاء المعيشة ، وقد وقع في شأنها خلاف بين الناس مرده  اختلال التوازن بين الحق والواجب ، والمختلفون فيه يرى كل منهم أنه يعطي ما لا يساوي أو يعدل ما يأخذه ، وهو بذلك يبخس حقه  وبكون بذلك مظلوما ، وبيان ذلك أن المنتج يرى أن  قيمة إنتاجه تتطلب الزيادة في سعره وإلا كان مبخوسا ، بينما يرى المستهلك أن زيادة سعر المنتوج بخس لقيمة الثمن الذي يدفعه  مقابل الحصول عليه ،وهو عنده زيادة غير مشروعة في قيمة ذلك المنتوج أو بتعبير آخر هو غلاء أو ارتفاع قيمة  المنتوج فوق ما مستحقه .

ومعلوم أن المنتوج يرتفع سعره أو قيمته بسبب قلته أو ندرته أو كلفته أو إذا اجتمع كل ذلك عليه، وفي هذه الحالات قد يكون لارتفاع  سعره ما يبرره  . وقد تكون وراء أسباب ارتفاعه أمور أخرى من قبيل الاحتكار ، أو ما شابهه من معاملات غير مقبولة شرعا أو عرفا ، وهو ما يعتبر غلاء غير مبرر، وهو بخس حين يدفع المستهلك ثمن  المنتوج أوالسلعة  فوق قيمتهما ، وهنا يكون بخس حقه وهو جور  .

ولمنع كل بخس مهما كان نوعه أو كان ضحيته لا مندوحة  للناس عن العودة إلى شرع الله تعالى الضامن للعدل في كل المعاملات  مادية أو معنوية .

اللهم إنا نعوذ بد من اقتراف كل بخس حرّمته علينا في كل معاملاتنا ،  اللهم رد بنا ردا جميلا إلى شرعك القويم  ، وارزقنا اللهم التزامه،  والعمل والرضا به . اللهم قنا شرور أنفسنا .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 1020