( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا )

من المعلوم أن الله  تبارك وتعالى تعبد عباده المؤمنين بعبادة الصيام في شهر رمضان الأبرك، ومعها عبادات أخرى مصاحبة لها وأهمها عبادة القيام ، وعبادة الإنفاق في سبيله . وإذا كان المؤمن ينتفع بعبادتي الصيام والقيام وحده إلا إذا كان يؤمن الناس في قيامهم حيث يشاركهم و يشاركونه أجر القيام، فإن عبادة الإنفاق يستفيد منها المنفق ، ويستفيد منها المنفق عليه أيضا ، أما المنفق فله ثواب ما أنفق ، وأما المنفق عليه، فيستفيد من الانفاق  سواء كان ماديا أم معنويا .

والمتصفح لكتاب الله عز وجل ،يجد العديد من الآيات تحثه على عبادة الإنفاق التي لا يقتصر فيها الحث على عبادة الزكاة الواجبة بل يشمل أيضا كل أنواع الإنفاق التطوعي الذي يقصد به التقرب إلى الله عز وجل، وابتغاء مرضاته .

والله تعالى من أجل ترغيب المؤمنين في الإنفاق فإنه جعله بمثابة قرض يقضونه إياه فقال جل شأن : (( وأقرضوا الله قرضا حسنا )) ، ففي هذه الآية الكريمة  ما يرغّب القارض في القرض، لأن الذي يُقرَض هو رب العزة جل جلاله الذي بيده خزائن السماوات والأرض ، ولا يخشى من ضياع قرضه بل هو مأمون تأمينا  مؤكدا لا تلابسه المخاوف من ضياعه. وإذا كان الناس إذا ما اقترضهم ميسور ذو مال وفير لظرف خاص يمر به، ولا يسعفه الوصول إلى ماله لحائل يحول دون ذلك ، يسارعون إلى إقراضه لعلمهم أن قروضهم مضمونة التحصيل ، فإن الله تعالى اقتراضه أشد ضمانا، ولله المثل الأعلى . ولقد اشترط الله تعالى في القرض الذي يقبله أن يكون حسنا ، والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا .

ومن الآيات التي رغب فيها الله تعالى  أيضا عباده المؤمنين في الإنفاق بمعناه الشامل والواسع  قوله تعالى : (( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا )) ، ففي هذه الآية الكريم بيان أن تقديم  المؤمن الخير إنما يكون لنفسه، وإن كان المقصود به وجه الله تعالى و في سبيله رغبة في الأجر والثواب  ، وكان المستفيد منه الفائدة المادية أو المعنوية غيره من المحاويج . والمقصود بإيجاد الخير المقدم للنفس عند الله عز وجل ،هو الأجر المخصص له في الآخرة ، والذي يكون خيرا مما قدم  وأعظم منه، لأن الله تعالى لواسع جوده وكرمه  يضاعف الأجر على كل خير يقدم لوجهه ،وفي سبيله مصداقا لقوله عز من قائل  : (( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة )) ، وفي هذه الآية تحفيز كبير على إقراض الله تعالى ، وهو في الحقيقة تقديم المقرض الخير لنفسه ، وذلك لأنه سبحانه  وتعالى  يقابل القرض بأضعاف الجزاء عليه ، الشيء الذي يجعل المقرض يقبل على الإقراض رغبة في تلك الأضعاف . ومعروف أن بعض الناس يقرضون البنوك الربوية رغبة في الحصول على الفوائد ، وكلما زيد في قيمتها كثر الإقبال عليها إلا أن قروض الله تعالى خلاف تلك القروض، لأنه سبحانه لجوده وكرمه يقابل القليل الذي يقدم ابتغاء وجهه الكريم بالكثير من فضله السابغ والعميم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بعبادة الإنفاق في شهر الصيام، لأن كثيرا منهم تذهب همهم إلى عبادة الصيام والقيام  فقط ، ويغفلون عن عبادة الإنفاق التي رغب فيها الله تعالى في كل وقت وحين ، ومن أجل ذلك فرض على المؤمنين عبادة الزكاة ، وفضلا عن هذه الأخيرة، فإنه رغب في الزيادة من إنفاق التطوع تقربا إليه ، وجعل إنفاق رمضان أفضل الإنفاق في غيره، لأن المحاويج يكونون في أمس الحاجة إليه  في هذا الشهر خصوصا إذا كان طعاما وشرابا، علما بأن الإنفاق الذي رغب فيه الله تعالى في محكم التنزيل هو مطلق الإنفاق وشامله أو مطلق الخير الذي يكون ماديا، كما يكون معنويا أيضا .

ونذكّر مرة أخرى بأن الصائم القائم إنما ينتفع هو بصيامه وقيامه ،ولا يشاركه فيه أحد إلا أن يكون قارىء قرآن يؤم غيره في قيام ليالي رمضان، لكنه حين ينفق ينتفع هو بالأجر والثواب ، وينتفع معه غيره بما يحصل عليه منه .

ولا شك أن عبادة الإنفاق تشق على النفوس لأنها مجبولة على الشح، لهذا رغب الله تعالى في الإنفاق من أجل وقايتها من علة الشح ، وترغيبه عبارة عن تحفيز وإغراء  من أجل الحصول على الأجر المضاعف أضعافا كثيرة .

والمؤمن اللبيب هو الذي يقدم  لنفسه ما يحتاجه  في آخرته خصوصا إذا كان يرغب في منازل أعلى الجنان أو في الفردوس الأعلى بجوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، ومن يفكر في تلك المنازل لا شك أنه  يستقل  كل ما ينفقه، ويزداد إنفاقا .

وما دمنا في زمن غلاء  المعيشة والناس في ضيق ، وقد كثر فيه المحاويج ، فإنه يجب التركيز أكثر على عبادة الإنفاق في هذا الشهر الفضيل والإكثار منها ،لأن الأجر فيه مضاعف باعتبار أفضليته عند الله عز وجل على سائر الشهور، خصوصا وأن فيه ليلة خير من ألف شهر ، وهو إلى جانب ذلك شهر نزول القرآن الذي جعله الله تعالى رحمة للعالمين .

ولا بد من التذكير بأن الإنفاق المعنوي لا يقل شأنا عن الإنفاق المادي ،ذلك أن من أنفق من وقته أو من جهده أو من نصحه... أو غير ذلك، فله أجر ما أنفق مضاعفا خصوصا في هذا الشهر الفضيل الذي يضاعف فيه الأجر والثواب أضعافا كثيرة.

ويجدر بالمؤمنين إذا ما أقبلوا على عبادة الإنفاق في رمضان أن ينفقوا من الطيب والحسن ،لأن الله تعالى لا يقبل غيرهما ، وأن ينفقوا مما يحبون لقوله تعالى : (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) أو يقتدوا بالسلف الصالح الذين قال فيهم الله عز وجل : (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )). وإن ظرف هذا الغلاء الذي نمر به هو أفضل ظرف للإيثارعلى النفس ، وكبح جماح أثرتها ، وحمل النفس على الجود صيانة ووقاية لها من الشح .

اللهم إنا نسألك قبول صالح الأعمال في هذا الشهر الفضيل صيامه، وقيامه، وإنفاقه ، وحبب اللهم إلينا كثرة الإنفاق فيه ، وق أنفسنا شحها ، وأقبل منا، ولا تخيب رجاءنا فيك يا رب العالمين، ويا أرحم الراحمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1026