(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ)

وجيز التفسير

كلا حرف ردع وزجر، وأن الأمر ليس كما تعتقدون أو تزعمون.. والحق هو الذي أقول، يقوله المولى عز وجل.

"إنّ" حرف يشبه الفعل، يعتمد عليه في لغة العرب لتقرير الحقائق والوقائع والأحاديث وتأكيدها.

الإنسان..

وال التعريف في قوله الانسان، جنسية، تُطلق الحديث عن جنس الانسان، وليست عهدية عن شخص محدد، كما قال به بعض المفسرين، مقتنصين اسما من سبب النزول.

والمقصود عموم الناس، وسواء الناس، وكل إنسان هذبه طبعه، ولم يهذبه ربه. فتأمل قال "أدبني ربي فأحسن تأديبي"

ليطغى..

اللام في قوله ليطغى، تأكيد ثان، للحقيقة المجلوة، أبهى وأجمل من عروس، لكي تعوها وتتيقنوها..

ويطغى.. يتجاوز الحد، حدّ الحق، وحدّ الإنصاف، وحدّ الاعتدال.

والطغيان قد يكون كبيرا، نحو (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ) وكان من طغيانه "ادعاء الالوهية" وقوله للناس (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي)..

وقد يكون دون ذلك في التكبر، أو الادعاء، أو الاستئثار، أو المبالغة في اقتضاء ما أصله حق..؛ قال (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي..)

فإذا الإسراف في الطعام والشراب طغيان..

وتعلمنا الآية أن الطغيان من طبع الانسان، ثم يقول:

أن رآه..

وأن المصدرية تحمل معنى التفسير والتعليل..

رآه…

التفات جميل، بمعنى رأى نفسه. ففاعل رأى ومفعوله واحد. وقف أمام مرآته الحقيقية أو العقلية أو النفسية فرأى نفسه، قد استغنى

شعر بالاستغناء وامتلأ بهذا الشعور..

وللاستغناء في سياق الآية مجليين؛ الأول الاستغناء "عن"..

استغنى عن منهج ربه، وعن هديه، وعن توجيهه، وعن إرشاده، وعن تشريعه؛ فقال: أنا…

أو استغنى عن الناس، ويبدأ بالاستغناء عن والديه، فيطغى بالعقوق، ثم يتدرج باستغنائه وطغيانه.. "ويا أرض اشتدي ما حدا قدي"

ثم المجلى الآخر الاستغناء "ب"

وحصر الناس لفظ الغنى بالمال..

استغنى بماله، وهو تضييق لواسع، فقد يستغني الانسان بماله وبجاهه وبقوته وبعقله وبسلطته وبعشيرته وبنسبه وبدولته وبحكومته..

صور الاستغناء كثيرة، تكاد تقول غير محدودة، وصور الطغيان على عددها…

وبعض الناس يظلون تحت لافتتة الأخيار حتى يحققوا الأوطار: يقول "ظللتُ أصلي حتى حصللي فلما حصللي بطلت أصلي"

(مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ)

ولعلكَ نُصرت يوم نُصرت، بدعوة وبدمعة هذا الذي تزدريه وتؤذيه…

وقال النجاشي يوم راوده عمرو بن العاص - وهو على جاهليته- عن خلقه ودينه: "إن الله ما أخذ مني الرشوة يوم رد عليّ ملكي"

لعلكم تتفكرون

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1043