( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
حديث الجمعة :
كثيرا ما يرد أمر الله عز وجل بالتقوى في كتابه الكريم مقترنا بأوامر أخرى مصاحبة له ذلك أن التقوى هي أعلى مراتب طاعته سبحانه وتعالى إذا ما بلغها المؤمنون بلغوا مراتب باقي الطاعات ائتمارا وانتهاء ،وبتعبير آخر هي البوتقة التي تنصهر فيها باقي الطاعات . والمؤمنون كلما امتثلوا بطاعة من الطاعات وضعوا لبنة من لبنات صرح التقوى . وما تزال الطاعات تتوالى عندهم وتتراكم حتى يكتمل هذا الصرح الذي يكسبهم صفة المتقين .
ومن الآيات الكريمة التي اقترن فيها أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بتقواه مع أمرهم بالصدق الآية التاسعة عشر بعد المائة من سورة التوبة، وهي قوله تعالى :
(( يا أبها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )) .
ولقد وردت هذه الآية الكريمة مباشرة بعد ذكر النفر الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى تبوك، وهم كعب بن مالك ، ومرارة بن ربيع ، وهلال ابن أبي أمية ، وهم ممن حسن إسلامهم ، وشهدوا غزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم تخلفوا عن الخروج معه في غزوة تبوك ، مع صدق نية الخروج إلا أن تباطؤوا ففاتهم اللحاق بالركب الخارج للغزو. ولما عاد رسول الله عليه الصلاة والسلام من غزوة تبوك توافد عليه الذين تخلفوا عن الخروج معه ومعظمهم منافقون ، وصاروا يعتذرون عن تخلفهم بأعذار واهية وهم كاذبون . ووفد عليه النفر الثلاثة كعب ، ومرارة ، وهلال لكنهم صدقوه القول بأنهم لا أعذار لهم. ونزل الوحي بعد خمسين يوما فضح فيه الله عز وجل الكاذبين من المنافقين ، تاب على الثلاثة الذين علم صدق نواياهم ،و صدقوا رسوله القول ، وسماهم الصادقين ،وجعلهم إسوة وقدوة للمؤمنين في الصدق إلى قيام الساعة .
ومعلوم أن الذي جعل النفر الثلاثة يصدقون هي تقواهم ، وهذا يدل على ملازمة الصدق للتقوى بالضرورة . والصدق لغة هو مطابقة قول القائل الحقيقة ، ونقيضه الكذب، وهو مخالفة الحقيقة. والصدق من مكارم الأخلاق لما يترتب عنه من فضل يعم الأمة المؤمنة ، وتنشأ عن التعامل به الثقة بين أفرادها ، وتستقيم أحوالهم ، وتطيب حياتهم ، لذلك تعبدهم الله تعالى بخلق الصدق كما تعبدهم بكل مكارم الأخلاق التي هي من لبنات صرح التقوى ، وهي منها بمثابة الوازع.
وأول ما يقتضي الصدق الإيمان بالله عز وجل ، ويكون دليلا على صحته . وعن الصدق في هذا الركن الأول من الإيمان ينبني الصدق في باقي أركانه الخمسة ، كما يكون الصدق في أركان الإسلام الخمسة ، ويكون الصدق في الاستقامة على صراط الله المستقيم ، وفي مختلف المعاملات.
والصدق الذي أمر به الله عز في الآية الكريمة أعلاه جاء في سياق الحديث عن فريضة الجهاد الذي به يُمحَّصُ الإيمان لأنه كتب على المؤمنين وهو كره لهم ، لأنهم يواجهون فيه مصيبة الموت ، وما دونها من المصائب والمشاق التي لا تطيقها أنفسهم إلا بتثبيت من الله عز وجل . ولقد اختبر الله تعالى من كان مع رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الفريضة في غزوة تبوك وقد كتبها عليهم في شدة صيف قائظ ، ومحص بها عباده المؤمنين الصادقين من المنافقين الكاذبين الذي تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتذرعوا بذرائع واهية لتبرير تخلفهم ، وقد أوكل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرائرهم لله تعالى . أما النفر الثلاثة الذين صدقوا، فقد أمر أصحابه بمقاطعتهم ، كما أمرهم باعتزال أزواجهم حتى يقضي الله تعالى في أمرهم . وبالفعل قضى لهم سبحانه وتعالى بالمغفرة لصدقهم ، وشرع للمؤمنين إلى قيام الساعة الصدق في أقوالهم وأفعالهم ، وذلك في كل أحوالهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين في هذا الظرف العسير بالذات الذي يمر فيه إخوانهم في أرض الإسراء والمعراج بمحنة شديدة وهم محاصرون، يموت صغارهم ونساؤهم وشيوخهم جوعا، وعطشا ،ومرضا ، ويبادون إبادة جماعية بقصف بلا هوادة لا يهدأ ليل نهار لشهور متتالية ،وقد أوجب الله تعالى نصرتهم ، وفك الحصار عنهم على الأمة المسلمة قاطبة في مشارق الأرض ومغاربها شعوبها وقادتها ، ولا عذر لأحد في التخلف عن نصرتهم كل قدر استطاعته التي علمها عند الله عز وجل وهو الذي لا تخفى عنه خافية ، وإنه لا تنفع معاذير المعتذرين مع قدرتهم على نصر هؤلاء المستضعفين الذين ما نقم منهم أعداؤهم الصهاينة إلا لأنهم مؤمنون ، ولأنهم أرادوا تطهير المسجد الأقصى المبارك من دنسهم ، و أرادوا تحرير وطنهم من احتلال البغيض .
وإن هذه لهي لحظة اختبار الأمة المسلمة في صدقها مع خالقها ، وكل أفرادها عليهم أن يصدقوا مع ربهم العالم بما تخفي الصدور، وأن يتنكبوا سبل المعاذير الواهية وقاية لأنفسهم من الوقوع في شر النفاق والعياذ بالله . وإن كل من أقدره الله تعالى على شيء يدعم به إخوانه المستضعفبن ، ولم يفعل ،فسيكون لله تعالى عليه حجة يوم الوقوف بين يديه .
اللهم إنا نسألك أن تعجل بفرج من عندك لإخواننا المستضعفين في أرض الإسراء والمعراج ، اللهم اعصم دماءهم وأرواحهم ، واطعم جياعهم ، واشف مرضاهم وجرحاهم ، وارحم موتاهم . واربط على قلوب المرابطين منهم في الثغور جهادا في سبيلك ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم إذا رموا ، وامددهم بمددك العظيم ، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل لأعدائهم عليهم سبيلا.
اللهم عليك بأعدائهم الظالمين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم مثّل بهم ،وقد خلت من قبلهم المثلات.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وسوم: العدد 1126