( يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون )

حديث الجمعة :

من المعلوم أن الله تعالى صنَّف في فاتحة سورة البقرة عباده إلى متقين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، وينفقون مما رزقهم ، ويؤمنون بما أنزل على رسوله  صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل على من سبقوه من المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهم موقنون بالآخرة ، وأثنى عليه بصفة الهداية ونعمة الفلاح ، وإلى كافرين لا يؤمنون به سواء أُنذِروا أو لم يُنذَروا ، وجعل قلوبهم مختوما عليها، والغشاوة على سمعهم وأبصارهم ، وإلى منافقين يدّعون كذبا الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهم  يخادعون بذلك  أنفسهم دون شعورمنهم ، وقد زاد قلوبهم نفاقا على نفاقهم ، ويدعون الصلاح والإصلاح وهم  فاسدون مفسدون ، ويعتبرون الإيمان سفاهة  وهم السفهاء ، كما أنهم  يدعون الإيمان في علانيتهم وإذا خلوا إلى بعضهم  استهزءوا بالمؤمنين والله مستهزىء بهم ،وممدهم في طغيانهم وهم في تردد وحيرة  من أمرهم ، وقد خسرت تجارتهم بمقايضتهم الهدى بالضلالة ، ووصفهم سبحانه وتعالى بالصَّمَم والبَكاَمة والعَمَى بعدما مثّل لهم بِحال الذي يستوقد النار، فتضيء ما حوله، لكنها سرعان ما تخبو، فيسود  حوله الظلام من جديد ، وبحال من يمشون في ليل مظلم ممطر تنقشع ظلمته ببرق خُلّب ثم تسود من جديد ، وهم يضعون أصابعهم في آذانهم مخافة الموت حذر صواعقه ، وهذان تمثيلان  لحالهم وهم يسمعون  من رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات الذكر الحكيم تتلى عليهم ، و لكنهم لا يفيدون منها شيئا كما لا يفيد مستوقد النار من إنارتها  حين تخبو ، ولا من  ضوء البرق الخاطف .

والملاحظ في هذا التصنيف الإلهي للخلق أنه جمع بين الكافرين والمنافقين في صفات الصَّمم والبَكَامة والعَمَى مع إسهاب وزيادة  في وصف المنافقين .

ولقد سمى الله تعالى سورا من كتابه الكريم باسم كل فئة : مؤمنون، وكافرون، ومنافقون ، ولا يخلو  في العديد من غيرها  ذكرهم  وسرد أوصافهم ، وأحوالهم . ولقد فضح الله تعالى المنافقين في سورة التوبة ، وسميت لذلك  بالفاضحة ، و قد عدد  فيها أحوالهم بعبارة : " ومنهم " التي تكررت فيها عدة مرات، والضمير عائد عليهم. ومن آياتها هذه السورة ، الآية الرابعة والستون  التي يقول فيها الله عز وجل : ((  يحذر المنافقون أن تنزَّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون )) ، وقد جاء في سبب نزول هذه الآية أن المنافقين كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،يستمعون ما يتلوه عليهم من الذكر الحكيم فيظهرون  صدق الإنصات إليه ، والاهتمام به ، وهم يخفون الاستهزاء به وبما يتلى عليهم ، و في نفس الوقت يحذرون  نزول ما يفضحهم من القرآن الكريم ، وقد تعهد الله تعالى بالكشف عما كانوا منه يحذرون ، وجعله قرآنا يتلى إلى آخر الزمان.

ومعلوم أن الله عز وجل لم يذكر الفئات الثلاث : مؤمنين ، وكافرين ، ومنافقين  في الرسالة الخاتمة الموجهة إلى العالمين حتى تقوم الساعة لمجرد قص أخبارهم على من سيأتي بعدهم ، بل لأن هذه الفئات ستتكرر في كل زمان ، وفي كل مكان إلى يوم الدين . وقد تتباين أحوالهم في هذه الحياة الدنيا إلا أنهم لا تنفك عنهم صفاتهم التي وصفهم بها الله تعالى،  بل هي  تلازمهم  ما لم يغيروا ما بأنفسهم من إيمان أو كفر أو نفاق .

و ليست العبرة بسبب نزول هذه الآية ، بل  العبرة بعموم لفظها ككل آي القرآن الكريم ، وبذلك ينسحب حكمها على فئة النفاق في كل زمان وفي كل مكان إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها . ولن تنفك عن هذه الفئة صفاتها التي وصفها بها الله عز وجل من إبطان للكفر ، وإظهار للإيمان ، وحيرة وتردد بينهما، وخداع للمؤمنين ، والسخرية منهم ، والحذر من أن يفضحهم الله تعالى أمام المؤمنين ، وهو فاضحهم لا محالة كما تعهد بذلك ، والله تعالى لا يخلف الميعاد.

مناسبة حديث هذه الجمعة هي تحذير المؤمنين من آفة النفاق سواء وقعوا فيه دون وعي منهم أو قصد  أو ابتلاهم الله تعالى بأهله ، فانخدعوا بهم إلى أن يفضحهم الله تعالى ، ويكشف ما يبطنون وما يخفون . ولنا في واقعنا المعيش من الدلائل الدامغة على وجود هذه الفئة بين المؤمنين في  كل بلاد الإسلام دون استثناء ، وخارجها أيضا ما بكفي للتأكد من خطورتها على الإسلام وعلى هوية أهله . وبالأمس فقط طلعت علينا وسائل التواصل الاجتماعي نقلا عن وسائل الإعلام  بمجموعة من المحسوبين على الدعوة إلى الله حسب ادعائهم وهم يزورون رئيس الكيان الصهيوني ، وهو مسؤول الأول مع غيره من المسؤولين عن جرائم  الإبادة الجماعية التي ترتكب في حق الفلسطينيين نساء، ورضعا ،وأطفالا، وشيوخا عجزة ، وقد مدحوه  ، وأثنوا عليه  ثناء جميلا ، ووصفوه برجل السلام ،سخرية بضحايا الإبادة ، بل وأنشدوا في حضرته الأناشيد الدينية ،وصافحوه ، وعانقوه  بحرارة ، وكل ذلك مما تعهد الله تعالى بفضحه والكشف عنه في محكم التنزيل ، وقد أنجزه وعده  كي يطلع عليه المؤمنون في كل شبر من المعمور وعلى أوسع نطاق عبر وسائل التواصل الاجتماعي .

وليست هذه الفئة وحدها من كشف الله تعالى ما تخفي من كره لدينه وحقد على  أهله ، بل كل الذين يطعنون  في مصداقية كتابه الكريم ، و في مصداقية سنة رسوله صلى الله عليه وسلم المشرفة ، أو يحاولون تعطيلها تحت ذرائع لا يخفى ما فيها من مكر وخبث ،أو يسوقون لما يخالفهما من  شرائع وأحوال مناقضة لما شرع سبحانه وتعالى ، أومفسدة للفطرة التي فطر عليه خلقه ... إلى غير ذلك من المكائد ما ظهر منها وما بطن .

 و إنه ليوشك الذين أوكل الله إليهم  بيان ما شرع للمؤمنين في محكم تنزيل ، وفيما سنه رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي منه  أن يقعوا  إما خائفين أو طامعين في شيء من عرض الدنيا الزائل أومتعمدين وعن سبق إصرار في آفة النفاق سواء  بسكوتهم عن منكرات لا يجب السكوت عنها أو بتورطهم  أو بمشاركتهم  في شيوعها بين المؤمنين  بشكل أو بآخر خدمة  لأعداء دين الله عز وجل ، ودعما لتيارات الفساد والإفساد في بلاد الإسلام .

وعلى المؤمنين  اتقاءً للوقوع في آفة النفاق العمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنكار المنكرات  كل حسب قدرته ووسعه ، وتخصصه، وليس بعد إنكارها بالقلوب ـ  وهو أضعف الإيمان ـ  رتبة أو درجة  يمكن أن  يعذر بها المعتذرون عن القيام بهذا الواجب المفروض شرعا .

اللهم إنا نبرأ إليك من آفة النفاق، و من المنافقين في هذا الزمان ، ونعوذ بك منها ، ومما يوقع فيها من قول أو عمل . اللهم اصرف هذا البلاء الوخيم عن سائر بلاد الإسلام والمسلمين ، وبصرهم اللهم به  كي يحذروه ، ويتجنوا سبله .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1128