( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال )
حديث الجمعة :
قضى الله تعالى في محكم تنزيله بزوال نعمه التي يسبغها على خلقه حين لا يؤدون ما عليهم من واجب شكرها، ويكفرونها ، ويجحدونها أو يستخفون ويستهينون بها ، وذلك في الآية الحادية عشرة من سورة الرعد حيث قال :
(( إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال)) ، فواضح من هذه الآية الكريمة أن المقصود بالتغيير المنسوب إلى الله تعالى هو زوال نعمه ، كما أن المقصور بالتغيير المنسوب إلى الخلق هو جحود وكفران نعمه سبحانه وتعالى ، والقرينة الدالة على ذلك ما ذكر سبحانه مباشرة بعد ذكر التغييرين ، وهو قوله تعالى :
(( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال )) ، وما ذلك السوء سوى زوال نعمه سبحانه وتعالى .
ومعلوم أن الله تعالى يسبغ نعمه على خلقه مادية ، ومعنوية على حد سواء .وغالبا ما تذهب أذهان الناس إلى التفكير في النعم المادية فقط مع غفلتهم عن النعم المعنوية أو اللامادية حسب التعبير الرائج اليوم عندنا .
ومن النعم المعنوية التي لا تقدر بثمن ، ومع ذلك يغفل عنها كثير من الناس نعمة الإسلام حيث يوجد اليوم في المعمور ما يزيد عن ستة ملايير من البشر محرومين من هذه النعمة ، وحتى المليار ونصف المليار ممن يحسبون على الإسلام فيهم المحروم منها مثله مثل الذين لم يأذن الله لهم بالتمتع بهذه النعمة الجُلَّى . وإذا ما كان السواد الأعظم من البشر المحروم من هذه النعمة لا يعنينا في هذا الحديث ، فإن المليار ونصف المليار المحسوب على الإسلام هو الذي يعنيننا بالدرجة الأولى ، وعلى وجه الخصوص الشريحة التي لا تقدر قيمة هذه النعمة،وتكفرها ولا تشكرها ، والتي غيّر الله تعالى من حسن حالها في ظل هذه النعمة إلى سوء الحال مثلها مثل السواد الأعظم المحروم منها في المعمور وفيهم العلماني أو اللائكي وهم عبّاد أهوائهم ، والمشرك العابد لمختلف أنواع الأوثان والأصنام الموروثة عن أسلافه ، والضال الضائع في خضم حياة لا يعنيه منها سوى اللعب واللهو وإشباع الشهوات ، والغافل الذي لا يخطر له على بال أن يسأل نفسه يوما عن الغاية من وجوده في هذه الحياة الدنيا ، أوعن مصيره بعد الرحيل عنها .
ومعلوم أن نعمة الإسلام تتفرع عنها نعم شتى أهمها أركانه الخمسة، والتي تتفرغ عنها بدورها نعم كثيرة لا يحصيها العد .
أما نعمة الركن الأول وهما الشهادتان اللتان تخلص الإنسان من قلق الأسئلة الوجودية المحيرة التي لا مندوحة لعاقل عن طرحها على نفسه ، وهي : لماذا أنا موجود في هذه الحياة ؟ ومن الذي أوجدني ؟ ولماذا أوجدني ؟ وما هو مصيري بعد الرحيل عنها ؟ ولا يمكن أن تطمئن نفس بشرية إلا إذا نطقت بالشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله ) إيمانا واعتقادا ،واستوعبت دلالتهما ، وفيهما الجواب الشافي والكافي عن الأسئلة الوجودية المحيرة لعقل الإنسان . وكل من جحد هاتين الشهادتين عاش لا محالة حائرا طول حياته ضائعا ضياع مسافر في فلاة لا يعرف منتهاها ، ولا يأمن على نفسه من الضياع والهلاك فيها . وعلى من هداه الله إلى هذه النعمة التي يلوك عبارتها لسانه أن يدرك قيمتها عندما يقارن نفسه بمن لم تنبس بها شفته أبدا ، حتى يغادرالدنيا ،ويقبر ، فيكون أول ما يواجهه وهو تحت الثرى السؤال عنها. وعليه أن يعتبر أيضا بمشاهد الذين ينطقون بها أول مرة وهم يبكون من شدة الفرح بها بعدما كانوا محرومين منها، كما تنقل لنا ذلك نقلا حيا وسائل التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر .
وأما نعمة الركن الثاني فهي الصلاة التي جعلت عمود دين الإسلام ، وهي الصلة اليومية التي تصل الخلق بخالقهم خمس مرات ، وهي عبارة عن ترجمة عملية إجرائية لكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) التي هي الشطر الأول من عبارة الشهادتين، لأنه لا يكفي التعبير الشفهي عن توحيد الله عز وجل، بل لا بد من استحضار وجوده ومعيته على وجه الحقيقة ، والصلة المستمرة به ، ومخاطبته ، والحديث معه، وهو السميع المجيب . وعلى من يحظى بهذه النعمة العظيمة أن ينتبه إلى حال المحرومين منها من بعض المحسوبين على الإسلام الذين لم يغير الله تعالى نعمة الصلة اليومية به حتى جحدوها واستخفوا واستهانوا بها إما متعمدين مصرين أو غافلين .
ومن النعم ذات الصلة بنعمة الصلاة نعمة ارتياد بيوت الله لأدائها فيها ارتياد عشق، وتعلق ،وتحنان إليها مع السعادة الغامرة أثناء الوجود بها لأنها بيوت الله عز وجل ، وهي خير من بيوتهم ، وشتان ما بين من يقبل على ربه ، ويقابله في بيته الذي ارتضاه له وبين من يقابله خارج هذا البيت الطاهر المقدس . ولن يغير الله تعالى نعمة الشعور بلذة ارتياد بيوته حتى يأنف الخلق من ارتيادها ،ويتكاسلون في إتيانها حين يتأخرون في الالتحاق بها ، ويستعجلون مغادرتها ، ويبخلون حتى بتحيتها التحية الدالة على شكر نعمة ارتيادها ، وفيها ما فيها من تقدير وشكر لنعمة استضافة الخالق سبحانه وتعالى عُمَّارها .
ومن النعم ذات الصلة بنعمة الصلاة نعمة الاستماع إلى ما يتلى من كلام الله عز وجل في بيوته ، وما يلقى فيها من خطب يوم الجمعة تحضرها وتشهدها الملائكة ، في جو مهيب . وإذا كان الإنسان يسعد بحضور وبشغف كبير ملتقيات يحضرها من يقدرهم، ويحترمهم، ويجلهم من البشر، فكيف تكون سعادته في ملتقيات يشرفها حضور الملأ الملائكي الكريم ؟ وعلى من ينعم بهذه النعمة أن يلتفت إلى المحرمين منها الذين تشغلهم عنها بيوتهم أو الشوارع أو الأسواق أو المقاهي أو الخمارات أو أماكن اللهو واللعب ، وغيرها ، بل وحتى أماكن إتيان الفواحش وهم من المحسوبين على الإسلام ـ يا حسرتاه ـ ، إن هؤلاء قد غيروا بجحودهم هذه النعمة ، فغير الله تعالى ما بهم بحرمانهم منها .
ومن جحود نعمة ذكر الجمعة أن يختزل وقته كأشد ما يكون الاختزال تحت ذرائع واهية ، وهو الوقت الذي جعله الله تعالى خمس ساعات بتوقيته المعنوي لا بتوقيت البشر الطبيعي ،وجعل لكل ساعة أجرا يغري به الخلق كي يتنافسوا على التبكير إلى بيوته ،فيكون السابق منهم في الساعة الأولى كمن يقدم بدنة ، والذي يليه توقيتا كمن يقدم بقرة ، والذي يلبه كمن يقدم كبشا ، والذي يلبه كمن يقدم دجاجة ، والذي يليه كم يقدم بيضة ، ولا شيء يقدمه من يأتي متأخرا محروما من نعمة أجر التبكير .
ولما غير الناس في هذا الزمان بترك التبكير بشكل غير مسبوق إلى بيوت الله تعالى غيّر ما بهم من نعمة الأجر والثواب ، ومن نعمة شهود الملإ الملاكي الكريم تبكيرهم . ولما غيروا مضامين ذكر الجمعة ،فلم تعد مساوقة ، ولا متناغمة مع واقعهم المعيش ، ولا معالجة لأحوالهم ، ولا مهتمة بهمومهم ، غيّر الله تعالى ما بهم من نعمة التفاعل مع الذكر،والانتفاع به ، والتأثر به ، والتحول به من حال السمو الروحي إلى حال التردي المادي ، ومن حال التخلق بقيمه السامية إلى حال التحلل منها ، ومن حال الإقبال عليه إلى حال النفور والتضجر والضيق من سماعه ، وإن الذين غيروا مسار هذه النعمة ، و أزروا بها لعلى علم ويقين بذلك ، ومع ذلك هم مصرون على ذلك إصرارا لأغراض دنيوية لم تعد خافية على أحد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وإن ما قيل عن نعمة الركنين الأول والثاني من أركان الإسلام، وما يتفرع عنهما من نعم لا تعد ولا تحصى ، ينطبق أيضا على نعم باقي الأركان من صوم، وزكاة، وحج ، وما يتفرع عنها من نعم لا تعد ولا تحصى أيضا إذا ما تدبرناها حق التدبر بعقول واعية . ولن يغير الله تعالى ما بنا من تلك النعم إلا إذا غيرنا شكرها بجحود أو استهانة واستخفاف .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه وتحذير المؤمنين من مصائب زوال نعم الإسلام في هذا الزمان الرهيب الذي تنطبق عليه نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها :
" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه وراءهم ، قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال فمن؟ "
وها نحن قد صرنا اليوم نسمع ونرى من الناس من يجاهرون ، ويفاخرون باتباع سنن اليهود والنصارى ، بل ومنهم من يعتبرون أنفسهم منهم ،وحسبهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تشبّه بقوم فهو منهم " ، ومن لم يكن له رادع في قوله هذا عليه الصلاة والسلام ، فليقل أو ليفعل ما شاء .
اللهم إنا نسألك الثبات على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها ، ونعوذ بك من الزيغ عنها ، ونعوذ بك من أن نجحد نعمك علينا أو نستهين أو نستخف بها، فتحرمنا منها .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1128