( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)
( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد )
حديث الجمعة :
استمرارا للأحاديث المتعلقة بأحوال وأفعال وصفات المنافقين مما يعود بالضرر على المؤمنين يذكر الله عز وجل في آيات كريمات ثلاث هي الرابعة والخامسة والسادسة بعد المائتين من سورة البقرة ظاهر وباطن المنافقين وهما على طرفي نقيض ، وفسادهم في الأرض ، وإصرارهم على ذلك حين يوعظون ، كما يذكر ما أعد لهم من عذاب في الآخرة، وذلك في قوله تعالى : (( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد )) ، ففي هذه الآيات الكريمة كشفٌ لما كان في بعض المنافقين زمن نزول الوحي من سوء الطوية وهم يضمرون الكفر والشرك، ويظهرون الإيمان الكاذب ، وهم يريدون مخادعة المؤمنين بظاهرهم المناقض لباطنهم ،وذلك لإلحاق الضرر بهم حقدا عليه . ولقد جاء في كتب التفسير أن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتودد إليه وهو كاذب ، وعندما انصرف عنه عمد إلى إحراق زروع وعقر حُمُر يعضها للمسلمين وبعض الآخر لغيرهم . وقيل نزلت في غيره من المنافقين . وسواء كان الأمر يتعلق بالأخنس أو كان هو المقصود أو غيره، فإن العبرة بعموم لفظ الآيات لا بخصوص سبب نزولها، لأن الله تعالى قد كشف النقاب عن أقوال وأفعال وأحوال المنافقين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة باعتبار الرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم موجهة إلى العالمين ، وليست خاصة بمن عاصروا نزولها فقط .
ومن أقوال المنافقين ما قد يثير إعجاب واستحسان المؤمنين ، ويبعث الطمأنينة في قلوبهم خصوصا حين يظهر أصحابها من المنافقين إسلامهم وقد كانوا من قبل غير مسلمين ، وهو ما يبعث السرور في نفوس المؤمنين الذين يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم كما أمرهم الله تعالى في محكم التنزيل . ولما كان تصريح المنافقين بالإيمان محض خداع وكذب ، فإنهم كانوا يتمادون في الكذب على المؤمنين ويخادعونهم عن طريق الحلف بأيمان كاذبة خصوصا وأن المؤمنين ملزمون شرعا بتصديق من يقسم بالله عز وجل ، وقد جعل الله تعالى القسم به أمرا عظيما لا يجوز العبث به ، ولا يسع المؤمنين عند سماعه إلا تصديق الحالف به لأن البواطن توكل لله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .وإن إشهاد المنافقين الله تعالى على ما في قلوبهم إنما هم مخادعة للمؤمنين لأنهم لا حيلة لهم لمخادعتهم إلا بهذا الإشهاد الكاذب الذي لا يمكن للمؤمنين الارتياب فيه .
ومقابل هذا الادعاء الكاذب يأتي المنافقون أعمالا مستقبحة فيفسدون في عموم الأرض، وعلى وجه الخصوص في بلاد المسلمين . ولقد خص الله تعالى بالذكر إفسادهم الذي يتسلط على الحرث ،ويشمل عموم الزروع والأشجار والنباتات مما يطعمه الناس أو تأكله أنعامهم ودوابهم ، وعموم النسل من ذوات الأكباد التي يستفيد منها الناس إما يطعمونها أو يستخدمونها في قضاء حوائجهم سواء كانت من الأنعام أو من الدواب أوغيرها ، وربما شمل الإهلاك النسل البشري أيضا.
ومع ما يشيعه المنافقون من فساد في الأرض فإنهم لا يقبلون ولا يرضون بما يوجه إليهم من نقد أو عتاب أو نصح ، وتأخذهم العزة بالإثم وهم مصرون على الاستمرار والتمادي في إفسادهم علوا واستكبارا، ولذلك توعدهم الله تعالى بالعذاب ، ومهد لهم أسوأ حيز في جهنم لخداعهم للمؤمنين وإشهاده سبحانه وتعالى على ما في سرائرهم من خبث ومكر وكذب وخداع ، ولإفسادهم في الأرض مع الإصرار على ذلك ، وهذه كلها من صفات النفاق والعياذ بالله .
مناسبة حديث هذه الجمعة كالعادة هو تنبيه المؤمنين أولا إلى الحذر من الوقوع في آفة النفاق وهم لا يشعرون ، وثانيا تحذيرهم من المنافقين الذين يظهرون لهم المودة وبواطنهم تكن لهم العداوة والبغضاء و كل أنواع الشرور خصوصا ونحن نعيش ظرفا دقيقا للغاية حيث تمكن أعداء ديننا من بعض المحسوبين على الإسلام من باعوا أنفسهم وذممهم لملة الكفر ، وتشربوا كراهية وحقد الكافرين على المؤمنين ، وهم يتقنعون بقناع الإسلام ، ويشهدون الله على ذلك لخداع المسلمين ، وهم يدعون ذلك كذبا ، ويخفون في سرائرهم ما يبيتون لهم من شر وفق أجندات تتضمن تعليمات أعداء الإسلام وهم مستأجرون لديهم قد باع دينهم بعرض من الدنيا . ولقد انبر هؤلاء بالإفساد نيابة عمن وظفوهم لذلك في كل مجالات الحياة فأفسدوا القيم والأخلاق الإسلامية ، وأفسدوا مناهج التربية والتعليم ، وأفسدوا الحرث بكل أنواعه ، وأفسدوا النسل بكل أنواعه بما في ذلك النسل البشري تغييرا لخلق الله عز وجل ، وأفسدوا المعاملات على اختلاف أنواعها ، وأفسدوا العادات الحسنة التي أصولها في قيم الإسلام ، وأفسدوا عموما الفطرة البشرية بشكل خطير وغير مسبوق . وإن هؤلاء المستأجرين ليسوقون كل هذه الأنواع من الإفساد تحت شعارات مضللة من قبيل التحديث، والتطور،والتقدم ، ومسايرة ما يسمونه بالركب الحضاري الذي ما هو إلا ركب أعداء الإسلام . وإذا ما أنكر عليهم إفسادهم أخذتهم العزة بالإثم ،واتهموا من ينكرون عليهم ذلك بالتخلف وبما يسمونه ظلامية ، وكلها تهم مما يسوقوه أعداء الإسلام الذين يخضون معه حربا شرسة على كل الجبهات . وإن المرتزقة وهم طوابير خامسة مبثوثة في بلاد الإسلام ليستخفون بعقول عموم المسلمين ، ويزينون لهم الفساد فأي تطور أو تقدم في الانحلال الخلقي الذي تنادون به من قبيل العلاقاات الجنسية الرضائية وهي فاحشة الزنا ، ومن قبيل المثلية وهي فاحشة قوم لوط ، ومن قبيل الإجهاض وهو جريمة قتل فظيعة ... إلى غير ذلك مما ينافحون عنه بقوة واستماتة وقد وفرت لهم كل الوسائل والإمكانات ، واستطاعوا وهم أقلية الاستحواذ على المشهد الإعلام الذي ذلل لهم تذليلا مقابل كل أنواع التضييق على من يواجهونهم ويفضحون فسادهم وإفسادهم
ولقد كشف الله تعالى عن كيدهم الخبيث ، وقيض للأمة المسلمة من أبنائها البررة علماء ومفكرين ودعاة من يفضحونهم ، ويواجهونهم عن طريق تنبيه المسلمين إلى ما يحاك ضدهم من مؤامرات ، وما يراد بهام من سوء حتى يستتب الأمر لأعدائهم في أوطانهم.
إنه لمن المؤكد ألا شيء تغير مما كان عليه في الماضي من استهداف للإسلام والمسلمين من طرف أعدائه التقليدين الذي نبهنا الله تعالى في محكم التنزيل إلى أنهم يودون صدنا عن ديننا حسدا من عند أنفسهم، وأنهم لن يرضون عنا حتى نتبع ملتهم ، ولا زالت الحروب الصليبية مستمرة ، وقد اشتد شرها واستطار في هذا الظرف العصيب بالذات ، وقد جعل الصليبيون في واجهتها الكيان الصهيوني الذي استنب من طرفهم بالقوة في قلب العالم الإسلامي النابض والذي كانوا دائما يحلمون بالسيطرة عليه لأسباب دينية عندهم و أخرى دنيوية لم تعد خافية على أحد ، وقد أعلن الصهاينة وهم رأس حربة الحملة الصليبية الحالية عن أطماعهم الخبيثة صراحة وبكل وقاحة والأمة المسلمة تغط في سباتها العميق، والتي لن تفيق منه حتى تجد أعداءها يعربدون في أوطانها إذلالا لها .
اللهم إنا نعوذ بك من شر أعداء دينك ، ومن شرمن بثوهم بيننا من خونة ومنافقين، ونسألك أن ترد كيدهم في نحورهم ، وتجعل الدائرة عليهم ، وأن تمكر بهم مكرك الشديد .
اللهم انصرعبادك المجاهدين في أرض الإسراء والمعراج ، وأعنهم اللهم على تطهير مقدساتك من دنس أعداء دينك . اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين كيدا فدمره، وعجل له بهلاك لا تقوم له بعده قائمة .
والحمد لله الذي تتم بحمده الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1130