أيها البحر ماأعظمك

معمر حبار

[email protected]

قال أصغر الأبناء لأبيه، وهو في الثالثة من عمره، حين رآه يقوم لآداء صلاة الظهر قرب الشاطىء .. يا أبي، وهل نصلي في البحر!.

وقبل أن يكبّر للصلاة، قال الأب لابنه .. إن الصلاة تقام في كل مكان، وهي في البحر أحق وأولى، لأن بواسطتها يشكر العبد ربه، لأنه مكّنه من البحر، رفقة أهله وأبناءه. بينما يوجد من حُرم رؤية الأزرق، والتمتّع بماءه، وشمّ هواءه، والجلوس لمنظره.

إن كرم البحر لاحدّ له ولاوصف، فهو يُكرمُ الانسان باللؤلؤ والمرجان، ويمدّه بمختلف الحيتان .. فعلى المرء أن يتعلّم من البحر الجود والكرم، والسخاء الدائم، والعطاء المستمر.

البحر يحمل الانسان فوق ظهره وبين أمواجه، وحَمَلَ عنه متاعه وآلاته، ولم يتأفّف يوما من الانسان وما حَمل .. وعلى العاقل حمل غيره من الأغيار، والصبر على حمل الأذى والأشرار، وأن يكون أهلا لأن يَحْمِلَ ويُحْمَل، ويوطّد نفسه على حمل صنائع المعروف، فالفضل يحتاج لطاقة شديدة قوية تحمله.

البحر حيّ لايرضى إلا بحيّ. ألا ترى كيف يلفظ الأموات، ويرمي بهم على شواطئه .. والانسان من تعلّم من البحر احترام الحياة، فأحيا أهله وأمته بالفضائل والاحسان، ومايفيد في حاضرها وفي كل آن.

وللبحر عمق لم تصل إليه أدق الآلات وأعقدها بعد، وله شاطىء ينعم به الصغير والكبير، بل العاجز وذو الحاجة .. وعلى العاقل أن يكون عميقا بأخلاقه وعلمه وآدابه، حيث يترك أثرا حسنا في من يتعامل معه. وفي نفس الوقت له شاطىء يتمتّع به القريب، ويأنس له عامة الناس .. من سخاء، وعطاء، وسلامة صدر، وبسمة دائمة، وإلقاء تحية على من تعرف، ومن لاتعرف.

للبحر مذّ وجزر، فكن دائم المد في مايخدم الأهل والوطن، واسعى لأن يصيب خيرك أبعد مكان، لأقصى إنسان. واحصر الشر قدر ماتستطيع، وامنعه عن الأبعد والاقرب.

لم يتوقف البحر يوما عن العطاء، رغم أنه يغضب من حين لآخر، فيظل دائم العطاء، بما فيهم الذين غضب منهم .. وعلى العاقل، أن لايحرم من هم تحت جناحه وضمن سلطانه، بسبب صغير لم يعرف قدره، أو كبير تجاهل مكانه. وان لايجعل الغضب وسيلة منع، فيضيف لمصيبة الغضب، رذيلة الحرمان.

إن البحر كان وسيلة نجاة، لسيّدنا نوح عليه السلام، ومن معه من حيوان وإنسان. وسيّدنا موسى عليه السلام، ومن معه من المومنين. وسيّدنا يونس عليه السلام، الذي رجع إلى أهله سالما آمنا .. ومطلوب من الانسان أن يكون وسيلة نجاة للناس أجمعين، حتى يكون شاطىء آمان، لكل من فقد الأمل، وسكنه الخوف.

إن العرب لم تعرف البحر، فعرفت ربها بمن هو أقلّ منه شأنا. فكيف بمن خَلَفَهم، وقد غاصوا في الأعماق، ووقفوا على الكنوز والأسرار، وأمست الأمواج لينة في أيديهم، ولعبة يتسلى بها الصغار قبل الكبار.

خلال هذا الأسبوع، وعبر القناة السادسة المغربية، قال العلاّمة الفقيه، محمد العوني الزاوية، حين تطرق لقوله تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ"، الرحمن - الآية 19-20 .. أن الله تعالى، وصف البحر بالعدل، وهو غير عاقل، لأن الحلو لايطغى على المالح، والمالح لايطغى على الحلو. فطلب من العاقل وهو الانسان، أن يتخذ غير العاقل وهو البحر، مثالا وقدوة في العدل والمساواة. وحقّ للمرء أن يقول بعد هذا الفتح والابداع .. سبحان من جعل البحار عادلة، وترفض الجور والطغيان. أفلا يكون الانسان، أولى وأحق بالعدل ، بأخيه الانسان من المياه فيما بينها.     

أيها الانسان .. تعلّم من البحرالسخاء والعطاء، فيتمتّع من حولك بشاطئك، ويتمنى كلهم عمقك، ويرجو عطاءك، وتكون لغيرك بحرا لاينفد عطاؤه، ولا تتلوث زرقته.

أيها الانسان .. ألا يستحق هذا البحر، ورب هذا البحر، أن تقام الصلاة بين أرجاءه، وعلى ضفاف شواطئه.